وكما تقول الباحثة، فإن هناك اعتقاداً يسود بين المشعوذين المصريين، والمترددين عليهم، وهو أن الجن يطلب نوعاً معيناً من البخور كطعام ليقوم بالأعمال المطلوبة منه، موضحة أن هناك كتاباً يتداوله المشعوذون اسمه: "استحضار ملوك الجن في الوقت والساعة" يشير إلى أن هناك بخوراً لحرق الجن والشياطين كالحلتيت وحب العود، وأن هناك نوعاً من البخور يعتقدون أنه فاتحة للكنوز، مثل جوهرة سليمان والطقش المغربي، وللحسد هناك كف مريم ورجل الأسد.
ويعتقد المشعوذون المصريون أن العمل بأنواع البخور يكون طبقاً لملك الجن الذي يحكم في هذا اليوم؛ ففي يوم السبت ميمون بن نوح، ويطلب اللبان الدكر وكسبرة وميعة سائلة وبخور السودان، بينما يطلب الملك مُرة يوم الأحد المستكة والجاوة، ويوم الاثنين يطلب الملك المذهب المستكة والعنبر.
ويوم الثلاثاء يطلب الملك يعقوب ملك الروم، المقل الأحمر والجاوة والصندل الاحمر، ويوم الأربعاء يطلب الملك البرقان ميعة سائلة والمقل الأزرق، ويطلب شمهورش يوم الخميس ميعة جافة ومعها حبة السويدان، بينما يطلب ميمون الأبيض يوم الجمعة المسك الأبيض، وهناك مرجع أساس يستعين به السحرة وهو كتاب شمس المعارف وله شهرة واسعة في هذا الشأن.
وكان هناك اختلاط في الحضارة المصرية القديمة بين الطب والدين والكهانة والسحر، وكان كل هؤلاء يلقون في روع العامة أنهم وحدهم القادرون على حمايتهم من القوى الخفية التي تهددهم، وأن لديهم مفاتيح سعادتهم في الدنيا وفي العالم الآخر، وهكذا تحكم الكهنة ورجال الدين في الرعية ولم يكن هذا التحكم لهم كأشخاص وإنما للمؤسسة الدينية والمؤسسة العلاجية، تلك المؤسستان اللتان تنقلان خضوع الرعية في النهاية للفرعون، ولكي يكون الخضوع نهائياً وحاسماً أعلن رجال الدين والكهنة (وهم أنفسهم الأطباء) بأن الفرعون إله، وهكذا ارتبط الدين بالطب بالشعوذة بالسياسة في مصر القديمة، وخضع كل هذا للفرعون الإله.
وكانت أركان المعادلة تتغير بعض الشيء من حقبة لأخرى ومن أسرة لأسرة، ولكن يبقى الفرعون حامي حمى الرعية والوطن في نظر الجميع بإيعاز من الكهنة والسحرة، ولذلك حين آمن سحرة فرعون بموسى شعر فرعون بخطر شديد إذ كان يعني هذا سقوط المنظومة الفرعونية التي يغذيها السحرة ويمنحونها الشرعية.
الشخصية القابلة للشعوذة والخرافة:
هناك بعض الشخصيات لديها قابلية أكثر لقبول التفسيرات غير المنطقية وللتأثر بالإيحاءات غير العقلانية التي يمارسها بعض المشعوذين، وهذا يسمى النمط الخرافي من الشخصية Superstitious type of personality ، وهذا النمط يوجد في المتعلمين والجهلة على حد سواء، ولكنه يكثر في النساء والأطفال وكبار السن والمرضى النفسيين، والمجتمعات البدائية بشكل عام.
وصاحب هذه الشخصية يتميز بالقابلية للاستهواء، والاعتقاد في التفاؤل والتشاؤم، وتصديق روايات الأشياء الخارقة للعادة، ولا يشعر بالرضا بل يميل إلى الحزن والتوتر الانفعالي والقلق، ويعاني من صراعات يبحث لها عن مخرج واقعي أو حتى خيالي، وهو سريع التصديق للروايات والإشاعات، وسريع القبول لتوجيهات وإيحاءات أهله أو أصدقائه، ومن السهل أن يسيطر عليه دجال أو مشعوذ.
وهذه الشخصية ليست قاصرة على البسطاء من الناس، وإنما قد توجد لدى بعض العظماء والمبدعين، فعلى الرغم من أن فرويد هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي والتي تفسر كل شيء بعقلانية شديدة ومنطقية محكمة إلا أنه عرف عنه تأثره ببعض الأفكار الخرافية التي كانت تسوقها له زوجته، ولم يكتف بذلك بل إنه ضمن نظريته النفسية الجنسية رموزاً ونصوصاً من الأساطير القديمة مثل عقدة أوديب وعقدة إلكترا وغيرها، وكانت بعض استنتاجاته عبارة عن قفزات فوق المنطق المعتاد.
ويبدو أن فرويد لم ينكر في كتابه "سيكوباثولوجية الحياة اليومية" التفكير الخرافي ولا نذر النحس ولا أحلام التنبؤات أو خبرات التخاطر أو الاتصال بالأرواح أو الجان، بينما كان ماكدوجال يؤمن بها وينسب خبراته لشخصيات تحت شعورية لها قوى نفسية خاصة.
ويذكر الدكتور عبدالمنعم الحفني في الموسوعة النفسية (إصدار مكتبة مدبولي 2003 ، القاهرة) أن يوسف إدريس وتوفيق الحكيم كانا من هذا النمط من الشخصيات. وربما نفهم ذلك بأن المبدع يحاول أن يتجاوز حدود الواقع المحسوس بحثاً عن واقع أفضل، وقد تدفعه رغبته العارمة لارتياد المجهول إلى قبول تفسيرات غير منطقية بحثاً عما هو ليس كذلك، وهو في رحلة بحثه عن ذاته وذوات الآخرين ربما يرتاد مسارات غامضة أو طرقاً وعرة وتكون لديه المرونة لتصديق ما يراه حتى وإن كان مخالفاً لما يعتقده أو يراه بقية البشر.
وعموماً فقد تحير كثير من الباحثين والمحللين لشسخصيات الكثير من مشاهير التاريخ حين اكتشفوا ولعهم بقراءة الطالع والكف ومعرفة أسرار النجوم ومحاولة الاستفادة من قدرات السحرة. وكان أينشاين ونيوتن لديهما الكثير من المعتقدات الخرافية بجانب ما يتمتعان به من رؤية تحليلية وعقلانية هائلة، وكأن هذا يحدث توازناً في شخصية المبدع، فكلما زادت مساحة العقلانية والمنطقية لديه زادت أيضاً مساحة المعتقدات الخرافية والقابلية لتصديق المشعوذين والظواهر الخارقة للعادة، باختصار شديد فإن المبدع يفكر خارج الصندوق، وهذا يجعله أكثر عرضة للتلوث بالأفكار السحرية، ربما طوعاً أو كرهاً. وقد التقط شكسبير هذه الحقيقة مبكراً فصور "ماكبث" في رائعته الشهيرة على أنه سريع التصديق للساحرات هو وزوجته.
والشخص الاستهوائي قابل للإيحاء، والإيحاء هو عملية عقلية تتقبل الأشياء بغير تفحص أو نقد، وقد يكون الإيحاء ذاتياً أو يكون من الغير. ويعرف "بيير جانيه" الإيحاء بأنه إيعاز يدفع صاحبه إلى التفكير في شيء أو فعله بدلاً من التحقق منه.
خصائص نفسية للمجتمعات القابلة للشعوذة:
تنتشر الشعوذة حين يشعر الناس بالعجز وقلة الحيلة، وحين تسد أمامهم طرق التغيير للأفضل من خلال الفكر والعمل والجهد، وحين تصبح الحياة بلا قانون ثابت أو واضح، وحين تغيب الشفافية، وينعدم الأمل في تحقيق الأهداف بالطرق المعهودة، وحين يصبح المستقبل غامضاً أو موحشاً ولا تبدو بارقة أمل واقعية في انصلاح الأحوال، وحين يشعر الناس بأن أمور حياتهم تدار بإرادة غير إرادتهم، وأنهم ضحايا للظروف والأحداث والحظ والصدفة، هنا يتعلقون بقوى خفية أو قدرات سحرية تتجاوز حدود الواقع ولا تعتمد على قدراتهم المكبلة أو المشلولة أو الممنوعة من الحركة والفعل.
وفقدان الحقوق عامل هام في انتشار الشعوذة؛ فهي هنا بمثابة الحصول على الحقوق المسلوبة بطريقة سحرية ومن الباب الخلفي للحياة بعدما تأكد صعوبة أو استحالة الحصول عليها بالطرق المعهودة. وربما هذا هو السبب في انتشار الاعتقاد بالخرافة والشعوذة لدى النساء في المجتمعات المتخلفة حيث تعاني المرأة من ضغوط اجتماعية هائلة ولا تستطيع البوح بما تريده أو تحتاجه ولا تستطيع المطالبة بحقوقها، فهنا تندفع بلهفة نحو السحرة ومسخري الجان تستعين بهم على ترقيق قلب زوجها لكي يحبها ويمنحها ما تحتاجه، أو يخفف وطأته عنها، أو تبعده عن امرأة أخرى تعلق بها، أو تتقي حسداً من غريماتها، أو تربط زوجها حتى لا يتزوج بأخرى وحتى يكف عن نزواته ومغامراته العاطفية التي تجرح مشاعرها وكبرياءها.
وتسود فكرة التفاؤل والتشاؤم لدى الشعوب التي تعتقد بالشعوذة؛ فهي شعوب قلقة على مستقبلها وليست لديها الفرصة للقراءة الموضوعية لذلك المستقبل فغالبية خيوطه ليست بيدها، كما أنها لا تملك تغيير هذا المستقبل بأي صورة من الصور.
والقدرية هي أحد سمات المجتمعات المعتقدة في الخرافة والشعوذة؛ فهم يعيشون على المثل القائل "اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"، وهم يعتقدون أنهم غير مسؤولين أو مشاركين فيما يحدث وإنما تسير الأمور بقوى وتقديرات خارجة عن حدود ذواتهم، فإما أن تأتي من الغيب أو تأتي من قوى بشرية لا يملكون لها دفعاً، فهم دائماً مفعول بهم وليسوا فاعلين.
كما أن القهر الإجتماعي والاستبداد السياسي عاملان أساسيان في انتشار الخرافة والدجل والشعوذة، إذ يبحث الإنسان المقهور الواقع تحت هذه الضغوط عن توازنه النفسي، فيلجأ إلى عمليات تعويض غير ناضجة من خلال انتظاره لقوى خارقة تنقذه مما هو فيه وتعوضه عن ضعفه وقلة حيلته وضآلته وحقارته أمام القوى التي تقهره وتستبد به، كما يلجأ إلى الدعاء على الظالم ثم يجلس لينتظر نتيجة الدعاء.
وتنتشر الشعوذة لدى الشعوب الجاهلة التي تفتقر إلى المعرفة والعلم، وتوجد لديها فجوات معرفية كثيرة تحاول ملأها بأشياء خرافية، كما تكون لديها تساؤلات كثيرة لا تجد لها إجابة فتضطر لقبول أي تفسير سحري يريح عقلها من الحيرة، ويكمل الصورة الذهنية للعالم والحياة بأي شكل. وحين تتسع مساحة الغيب في الوعي العام ثم لا تمتلئ هذه المساحة بمفاهيم دينية أو علمية صحيحة تتسلل المفاهيم الخرافية لتتمدد في هذه المساحة الغيبية.
وقد يقول قائل بأن الإعتقاد في الخرافات وممارسة الشعوذة موجود في كل الشعوب والثقافات وليس مقصوراً على مجتمعاتنا، حتى في أكثر الدول تقدماً توجد لديهم معتقدات وممارسات سحرية ودجل وشعوذة، وهذا صحيح غير أن ثمة فارق مهم، وهو أن في الدول المتخلفة تشكل الخرافة وما يتبعها من ممارسات دجل وشعوذة مساحة هائلة في الوعي العام وتتبقى قشرة بسيطة للتفكير العلمي، أما في المجتمعات المتقدمة فلا تعدو الممارسات الخرافية والسحرية أن تكون مجرد قشرة رقيقة أو ديكور أو مسحوق تجميل، أما باقي مساحة الوعي فيشغلها التفكير العلمي والمنهج العلمي، أي أن الشعوذة لدينا أصل ولديهم ديكور.
أشكال الشعوذة في المجتمع المصري:
هناك ازدحام وتراكم لأشكال الشعوذة في مصر، حيث يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وتنتمي إلى طبقات تاريخية متعددة، ولذلك فهي تستعصي على الحصر، ولكن نذكر منها على سبيل المثال: الاتصال بالجان، وتحضير الأرواح، وقراءة الفنجان والكف، وضرب الودع، والرمل، وقراءة الطالع في البلورة، والتنجيم، والزار.
ومن أكثر ممارسات الشعوذة في الوقت الحالي عمليات إخراج الجان من أجساد المرضى، فملايين من الشعب المصري (وأكثر منهم في الشعوب العربية) يعتقدون أنهم ملبوسون بالجن أو ممسوسون منهم، وقد استدعى هذا وجود آلاف ممن يقومون بإخراج الجن من أجسادهم، وهؤلاء يدّعون أنهم مشايخ وهم في الحقيقة من أنصاف المتعلمين الذين يملأون عقول العامة بتفسيرات ملتوية لتأكيد قوة وسطوة الجن عليهم وعلى حياتهم، وبالتالي يضمنون سيطرتهم عليهم؛
وبعضهم يدّعي أنه لا يتكسب من وراء إخراج الجن بالقراءة وإنما يفعلها لوجه الله، وهو إما أن يكون باحثاً عن مكسب غير مباشر (كهدايا أو دفع ثمن بخور أو مواد عطارة أو طيور أو عطور تستخدم في هذه العملية) أو أنه فعلاً لا يحتاج مالاً ولكنه يحتاج لسمعة وشهرة وسطوة ومكانة اجتماعية كشيخ مبروك له قدرة على السيطرة على الجن المارق. وعلى الرغم من استنكار العلماء الحقيقيون الراسخون في العلم لهذه الممارسات التي انتهكت حرمات النساء وحياة بعض الرجال (حيث تمت حالات تحرش واغتصاب بدعوى إخراج الجن من أجساد النساء، كما مات بعض المرضى تحت وطأة الضرب أثناء إخراج عفريت عنيد).
ويأتي إخراج السحر في المرتبة التالية؛ وله طقوس تختلف من مشعوذ لآخر، فبعضهم يذهب إلى القبور ليخرج منها شيئاً، وبعضهم يخرجها من إناء فيه ماء في صورة لفافة من الشعر مغموسة في الحناء وملفوفة بأوراق عليها حروف مقطوعة أو موصولة بشكل غير مفهوم، وبعضها يحوي بعض الآيات القرآنية أو النصوص الإنجيلية.
ولم يتوقف الأمر على المشايخ بل دخل بعض القساوسة في المجال مبكراً وراحوا يخرجون الجن ويصنعون التمائم والتعاويذ مثلهم مثل المشايخ تماماً، وكأن الأمر لا يرتبط بدين بقدر ما يرتبط بثقافة ومصالح ترتدي عباءة الدين.
وتنتشر عادة قراءة الفنجان لدى الطبقة المتوسطة، وهذه القراءة تقوم بها بعض النساء ممن يدعين القدرة على ذلك، وهي عبارة عن تنبؤات لشارب القهوة تتم من خلال قراءة خطوط بقايا البن في الفجان، وكثير من الناس يعتقدون في هذه القراءة ويشكلون حياتهم بناءً عليها. وغالباً تتم هذه القراءة بشكل ودي دون تقاضي أموال، أي أنها شعوذة بيتية مجانية تتم بين المعارف والأصدقاء.
أما ضرب الرمل وقراءة الودع (ووشوشة الدكر) فهي وسائل قد تراجعت كثيراً ربما لأن من كن يمارسنها ينتمين إلى طبقة الغجر، وهؤلاء تقلص وجودهم حيث انخرطوا في فئات المجتمع وانشغلوا بنشاطات أخرى، وربما لأنها طرق بدائية لم تعد تجد ترحيباً من الطبقات الاجتماعية الجديدة.
وفتح المندل نشاط متخصص في البحث عن المسروقات أو المفقودات؛ حيث ينبئ صاحب المندل عن الشخص أو الأشخاص الذين سرقوا أو أخفوا، ويأخذ الناس هذه المعلومات منهم ويشكلون اتهاماتهم على أساسها وربما حدثت مشكلات اجتماعية أو أمنية هائلة بسببها.
والزار ما زال يمارس في بعض القرى بل وفي بعض المدن وربما في الأوساط الراقية خاصة بين النساء، وهو وسيلة للتفريغ الانفعالي والخروج عن المألوف والذوبان داخل المجموعة المتحركة أو الراقصة أو الدائرة تحت تأثير الموسيقى والإنشاد بقيادة الكوديا.
وهناك صوراً عصرية للشعوذة تتمثل في الباراسيكولوجي وتفسير الأحلام والأبراج سنفرغ لها مساحات منفصلة نظراً لشيوعها وأهميتها والتباسها على كثير من الناس في هذه الأيام نظراً لتسترها بغلالة من العلم أو الدين.
أكذوبة الباراسيكولوجي:
قابلته في أحد الأماكن وتقدم على أنه يعمل صيدلياً، وهو بجانب ذلك متخصص في علم الباراسيكولوجي، وتعجبت وسألته: "وما دخل الصيدلة كعلم تجريبي تطبيقي بال "باراسيكولوجي" كعلم ظني؟!" فبدأ الكلام عن السحر الأسود والسحر الأبيض، والجن العلوي والجن السفلي، وحين سألته الدليل على ما يقول ثار وفار ومار، واعتبر أن ذلك إهانة لعلم الباراسيكولوجي والذي لا يحتاج إلى أي دليل، وحزنت عليه كثيراً وعلى أمثاله إذ بدلاً من أن يوجه جهده لتطوير علم الصيدلة الذي تخصص فيه ملأ رأسه بخزعبلات لا يجد عليها دليلاً إلا تصديقه هو لها.
وهناك ادعاءات كثيرة للإدراك خارج إطار الحواس Extrasensory Perception ، ولذلك أجريت عدة تجارب قام بها راين Rhine سنة 1927 وتعرف باسم تجارب جامعة ديوك Duk ، ولم يثبت من هذه التجارب أن التفكير في الأرواح أو الاتصال بها أو بالجان، له شيء من الواقع، وإنما كانت كلها تخمينات من شخصيات لديها القابلية للخرافة والشعوذة، وتناقلها عنهم آخرون يؤمنون بهذه الأشياء.
والباراسيكولوجي؛ أو كما يسميه البعض ب "السيكولوجي الموازي أو المساعد" يهتم بالاتصال بالأرواح والجان والتخاطر والاتصال عن بعد وتحريك الأشياء بمجرد النظر إليها، ويهتم أيضاً بغرائب الظواهر كالأطباق الطائرة ومثلث برمودة وغيرها. ويدّعي المنتسبون للباراسيكولوجي أن لهم علاقة بالعلم، وأن هذه الأشياء التي ذكرناها تخرج عن إطار العلم ويحكمها قوانين أخرى غير التي نعرفها.
وقد تكون هناك بعض الظواهر غير المفهومة أو الخارقة للعادة على سبيل الندرة، ولكن المتحمسين للباراسيكولوجي يوحون للناس بأن هذه الأشياء مؤثرة جداً في حياة الناس وأنها مفتاح التغيير للبشرية، والخطورة الأشد في هذا الأمر أنهم يتحدثون بلغة شبه علمية ويستخدمون قياسات وأرقاماً وإحصاءات، للإيحاء للمستمع أو القارئ بأنهم يتبعون منهجاً علمياً، وهم ليسوا كذلك بأي مقياس علمي محترم.
والحقيقة أن الحياة تقدمت وازدهرت بمعرفة وتوظيف القوانين العادية وليس القوانين الاستثنائية أو القدرات والملكات شديدة الندرة، ولكن الذي يدفع الناس إلى التعلق بالظواهر النادرة أنهم مثل المشعوذين الذين يريدون خرق قوانين الحياة والوصول إلى الأهداف من الباب الخلفي دون بذل جهد.
الأبراج وتفسير الأحلام: شعوذات عصرية للطبقات الراقية:
دعيت لبرنامج شهير جداً في أوربت منذ حوالي ثلاث سنوات للحديث عن معنى الحب وآثاره وصوره بمناسبة عيد الحب، وكان الضيف الآخر في هذا اللقاء هو الفلكي العالمي(.......)، وما أن وصل الرجل إلى الاستراحة قبل التسجيل حتى التف حوله عدد كبير من العاملين في القناة يسألونه عن أبراجهم وأحوالهم في هذه السنة، وهو يجيب كل شخص بما يحب أن يسمعه ويوحي له بأن ما يفعله قائم على علم يقيني لا يقبل الشك، ولاحظت أنه يكرر نفس الكلمات تقريباً مع تغييرات بسيطة وكأن لديه "أكليشيهات جاهزة، وبينما نحن جلوس ننتظر الدخول إلى الأستوديو كانت تجيؤه مكالمات من الفنانين والمثقفين وعلية القوم يطلبون منه جلسات خاصة لهم ولأصدقائهم لمعرفة أحوال أبراجهم، وعرفت من خلال المكالمات أن الساعة لديه بما يوازي ستون ألف جنيه، وأن وقته مشغول كله، ومحظوظ من يستطيع تحديد موعد معه!.
وأثناء البرنامج كانت هناك حالة من الهوس لدى السيدات والسادة المتصلين بالبرنامج، وهم بالمناسبة ينتسبون جميعاً لطبقات المجتمع الراقي, وقد سجل البرنامج في هذا اليوم رقماً قياسياً للاتصالات لم يسجله قبل ذلك في تاريخه، والسبب هو الفلكي العالمي قارئ الأبراج، والذي تسبقه وتتبعه إشاعات بأنه يتنبأ للقادة والزعماء والمشاهير على مستوى العالم كله، وأن تنبؤاته تتحقق كلها بدقة متناهية، والغريب أن علية القوم عندنا يصدقون كل هذا!!.
وفي برامج ومناسبات عديدة تجد أناساً تحسبهم محترمين جداً يقيمون أنفسهم ويقيمون غيرهم من خلال سؤالهم عن البرج الذي ينتمون إليه، ويعددون صفات كل برج بمصداقية لا تقبل أي شك عندهم وكأنهم يقرأون من كتاب مقدس!. أما كبيرهم الذي خصصت له إحدى القنوات برنامجاً خاصاً فيجلس وأمامه جهاز اللاب توب ويلعب في الأزرار ويدخل المعلومات ثم ينطق بالنتيجة للسائل عن أحوال برجه، بينما تقف بجانبه فتاة شقراء ذات شعر مجنون (يسافر في كل الدنيا)، والناس يصدقون ويحددون خطط حياتهم بناءً على ما سمعوه.
أما صاحب تفسير الأحلام على إحدى القنوات فهو يتلقى الدعوات على ما قدم من تفسيرات للفتيات والسيدات المستلبات، فقد كانت تفسيراته –حسب زعمهم – سبباً في اتخاذهن القرارت الصحيحة في حياتهن!. وقد سألته إحداهن أنها رأت أنها تقوم بعمل محشي فما تفسير ذلك؟؟ فرد على الفور بأن المحشي شيء غير طيب في المنام، ولكنه أحس بأنه أضفى مسحة من التشاؤم على السائلة وعلى البرنامج (الذي يتقاضى عن تقديمه رقماً فلكياً بالنسبة له)، فاستدرك سريعاً: "إن كان محشي كوسه فهو شيء كويس، أما إن كان محشي كرنب فهو شيء سيء لأن الكرنب فيه حرفين من الكره أما الكوسة فهي تشترك مع كويس في بعض الحروف" وهنا استبشرت السائلة وطاردته بالدعوات الخالصات!.
وفي مرة أخرى سأله سائل فقال: رأيتني أجامع أمي في المنام فما هو تفسيرك يا فضيلة الشيخ؟؟... فرد صاحبنا على الفور: الجماع هنا من الجمع، والأم هنا هي أم القرى أي مكة، وهذا معناه أنك ستحج، وهنا هلل السائل وكبر وكاد يفقد صوابه من براعة الشيخ في قلب معنى الحلم لديه. وطبقاً لإحصاءات القناة فإن هذه البرامج هي من أعلى البرامج في نسب المشاهدة، وهكذا يتحقق المثل الشعبي "رزق الهبل على المشاهدين".
الخرافة والشعوذة والأساطير والأدب:
كتب يحيى حقي رائعته الأدبية "قنديل أم هاشم" بعد تعرضه للمجتمع الأوروبي والحضارة الحديثة ثم عودته إلى مصر ليجد الناس ما زالوا غارقين في الفكر الخرافي المتستر والمتزين برموز دينية أو صوفية، فصور اعتقاد الناس في أن الزيت الذي يوقد به القنديل في مقام أم هاشم (السيدة زينب) يداوي أمراض العين، وكيف أن الناس يتسابقون للحصول على بعض هذا الزيت لوضعه بدلاً من القطرة في عيون مرضاهم، ولم يلتفتوا لأي تحذيرات طبية لأن المعتقد الديني لديهم أقوى بكثير من المعتقد الطبي، والشعوذة هنا اختلطت بالمفاهيم شبه الدينية، والنتيجة المؤلمة أن بطلة القصة أصيبت بالعمى، وربما يمثل العمى هنا صورة رمزية لفقدان الرؤية وفقدان الوعي لدى الناس المعتقدين في هذه الخرافات. ووردت المعتقدات الخرافية في كثير من روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغيرهم من الأدباء.
ولم ينفرد المصريون بهذه المعتقدات بل هي منتشرة ربما بصورة أكثر في المجتمعات العربية المحيطة بنا، وفي المجتمعات المتخلفة علمياً بوجه عام، وقد كانت الصورة مماثلة في أوروبا في عصور الظلام ولم تتغير إلا بجهود رواد الفكر في عصور التنوير الحضاري، ويبدو أننا في حاجة أيضاً إلى خوض معركة قوية ومستمرة ضد التفكير الخرافي وما يتبعه من ممارسات الدجل والشعوذة حتى ولو تسترت أو احتمت بمفاهيم شبه دينية أو شبه علمية.
وربما يسأل سائل: هل هناك علاقة بين الأسطورة والخرافة, وهل يدخل الخيال الأدبي في نطاق الخرافات؟ وهل أعمال شكسبير الخالدة والتي هي في جوهرها حواديت وأساطير تعتبر تفكيراً خرافياً؟... وهل الكوميديا لإلهية لدانتي تنتمي إلى الخرافات والخزعبلات؟؟ وهل الأساطير اليونانية تعتبر بناءً على ذلك نوعاً من النفايات الفكرية؟؟... وهل كليلة ودمنة تدخل بذلك في نطاق التخاريف الشعبية؟؟ وهل ألف ليلة وليلة جاءت على أفواه مساطيل في ليلة صيف مقمرة؟؟ وهل أفلام الخيال العلمي تصنف ضمن نطاق الباراسيكولوجي وتعتبر تزييفاً لوعي الإنسان وحشواً للرؤوس بالترهات؟! والإجابة بالطبع "لا"؛ فهذه أعمال أدبية خالدة وجميلة، وفيها قيماً أدبية وفنية راقية وتسمو بالعقل والوجدان، وتنشط ملكات التساؤل والبحث والرؤية والمعرفة، وهي لا تدلس على القارئ أو تخدعه وإنما تأخذه في عالم رمزي موازٍ يرتقي بعالمه الواقعي ويحسنه.
ولا ننسى مثلاً أن الحضارة المصرية القديمة على عظمتها وروعتها تحفل بالكثير من الأساطير، وهذه الأساطير القديمة نشأت إما لتملأ فجوات معرفية في ذلك الوقت أو لتكون بمثابة عالم خيالي موازي يعتبر نموذجاً للحياة التي يريدها الإنسان لنفسه حين تمنحه الحياة مزيداً من الحرية ليفعل ما يريد، أو أنها كانت رسائل إصلاحية في صور رمزية يتحايل بها كتابها على ظروف القهر ويوصلونها إلى الناس بعيداً عن أعين الرقابة والعسس.
وربما هذا هو الفرق الجوهري بين الأسطورة والخيال في الأعمال الأدبية وبين الخرافة والدجل والشعوذة؛ فالأولى تبني وعي الإنسان وترتقي به، والثانية تطفئ وعي الإنسان وتزيفه وتشوهه، وقد كانت بعض الأعمال الأسطورية إلهامات لنظريات اقتصادية (انبثقت الأفكار الاشتراكية من يوتوبيا الراهب الإنجليزي توماس مور) واكتشافات علمية (انبثقت فكرة الطيران والطائرات من بساط الريح في الأساطير القديمة).
خطورة الشعوذة:
للأسف الشديد نحن نتحدث كثيراً عن الشعوذة ولكن لا نأخذ الموضوع على محمل الجد أو الخطورة ونعتبر ذلك نوعاً من الفولكلور أو الديكور أو الممارسات الشعبية المتوارثة، , وبالتالي لا يستدعي الأمر استنفاراً ضدها أو ضد ممارسيها ومروجيها ومستخدميها.
ولكن في الحقيقة الأمر ليس كذلك، فالشعوذة ليست ممارسات بريئة، وليست تكملة لصورة، بل هي فيروس خطير يصيب برامج العقل والتفكير، ويملأهما بأوهام وشطحات تنبني عليها سلوكيات خاطئة وخطرة في نفس الوقت، وهكذا ليس فقط تستنزف طاقة العقل والجسد في أشياء لا طائل من ورائها ولكنها تذهب إلى حيث تلوث الحياة بممارسات شديدة الضرر، وتوقف عجلة النمو والتطور على كل المسارات وتؤدي في النهاية إلى نتائج كارثية.
ولو تخيلنا أن ابن النفيس جلس يمارس أعمال الرقية ويفك السحر ويقرأ على الماء، ولم يكتب مجلداته تحت عنوان "الشامل في صناعة الطب"- وهو أضخم إنتاج علمي إنساني منفرد في التاريخ- فهل كانت البشرية ستسعد وتستفيد؟!. ولو أن ابن سينا صرف جهده كله في إخراج الجان من الملبوسين وصنع الأحجبة لهم، فهل كان هذا أجدى له ولنا من كتاب "القانون في الطب" الذي درس في جامعات أوروبا عدة قرون؟!. ولو تخيلنا أن لويس باستير لم يجلس في معمله سنوات طويلة ليكتشف سبب شلل الأطفال ويبتكر لقاحاً له، ولكنه جلس يستقبل الناس ليصنع لهم الأحجبة والتعاويذ ويقرأ عليهم بعض النصوص شبه الدينية، فماذا كنا نتوقع من نتائج على صحة البشر!. ولو أن إسحاق نيوتن ظن أن الذي رمى عليه التفاحة وهو جالس وحده عفريت من الجن ثم ذهب إلى أحد السحرة ومخرجي الجان ليخلصه من أثر هذه الرمية بالتفاح، هل كان له أن يكتشف قانون الجاذبية وقد امتلأ عقله بفكرة تلبس الجان له!.
وهل كانت ماري كوري ستكتشف أشعة إكس التي بنيت عليها ممارسات علمية وطبية هائلة، لو أنها ظنت أن الظل الذي ظهر للجسم الصلب هو من ألاعيب الشياطين أو من أفعال السحرة ثم دارت على مقامات القديسين تتعوذ بهم من الشياطين الذين سكنوا معملها الذي كانت تقضي فيه ساعات طويلة ولا بد أن الجن قد حضروا لمضايقتها وطردها من هذا المكان حتى يستريحوا هم فيه!. ولو أن جاليليو كان قد صدق فكرة أن الأرض محمولة على قرن ثور وأن الزلزال يحدث حين تنتقل الأرض من فوق القرن الأيمن إلى الأيسر أو العكس، فهل كانت فكرة كروية الأرض سترد على ذهنه؟!.
الشعوذة في الميزان الديني:
على الرغم من أن مروجي الخرافات والمشعوذين والدجالين يستغلون المفاهيم الدينية ويفسرونها على هواهم ليبرروا سلوكهم وأفعالهم ويتستروا بهذه المفاهيم إلا أن صحيح الدين ضد كل هذه الأشياء؛ فكثير من آيات القرآن الكريم تنتهي بعبارات مثل: "لعلهم يعقلون"... "لعلهم يتفكرون"... "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً"... "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً".... "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفرسليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت"... والأحاديث النبوية تحذر من السحر وتجعله كبيرة من الكبائر وتحذر من الذهاب للعرافين والدجالين والمشعوذين "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فلا تقبل له صلاة أربعين يوماً".. وفي رواية "فقد كفر بما أنزل على محمد" إلى هذا الحد يصل تصديق العرافين والكهنة إلى درجة الكفر بالدين لأن الدين قوامه الحقيقة، بينما العرافة والكهانة والدجل والشعوذة قوامها التضليل والتهويم، فهي نقض للعقل الذي هو محل التكليف وميزان القيم.
وقد تصادف كسوف الشمس يوم موت إبراهيم ابن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقال بعض الصحابة أن الشمس انكسفت لموت ابن الرسول: وهنا انتبه صلى الله عليه وسلم وبادر فوراً بتصحيح المفاهيم وتنقية العقول من الفكر الخرافي فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان أو تنخسفان لموت أحد"، وهذا يعكس قلق الرسول على تفشي هذا النوع من التفكير غير القائم على الدليل وخطورة ذلك على مسيرة الدين والحياة.
وسيدنا عمربن الخطاب رضي الله عنه أدرك هذا المعنى، لذلك حين تفشت أعمال السحر في بعض البلاد أرسل لأمرائه أمراً بقتل هؤلاء السحرة، وهي عقوبة قد تبدو شديدة إزاء شخص يجلس في حجرة مغلقة يردد بعض التعاويذ لرواده من البسطاء والجهلاء، ولكن عمر رضي الله عنه يرى الأمر أكبر من ذلك فالسحر تزييف للواقع وتدليس على الناس وتلويث للعقول وإشاعة للفتنة وتجريف للحقيقة.
ومع كل هذا فللأسف الشديد حين تم إحياء التفكير الخرافي في الوقت الحالي جاء محتمياً بنصوص دينية ومتستراً تحت عباءة الدين، ومبرراً من بعض أنصاف الشيوخ ومدّعي العلم الديني فتلبس الأمر على الناس، فاعتقد العامة وكثير من الخاصة في تلك الأمور نظراً لربطها التعسفي بالمنظومة الدينية جهلاً أو افتراءً.
واقرأ أيضا:
لماذا يقتل المصريون بوحشية؟ / المصريون والشعوذة / لو لم أكن مصريا... لحمدت الله على ذلك