(سياحة في وجوه الناس وعيون المدن)
أتنقل بين شوارع القاهرة ثم جدة وأطير إلى باريس لأعود إلى القاهرة مرة أخرى في فترة لا تزيد على عشرة أيام، فتحتد المقارنة بين هنا وهناك، ونحن وهم، وتثور بداخلي آلاف الأسئلة والاحتجاجات:
لماذا وكيف ومتى و... و....... و.......، وحين تهدأ ثائرتي أعود لممارسة هوايتي (والتي هي جزء من مهنتي) في قراءة الوجوه وتفحص المشاعر والسعي وراء الأفكار التي صنعت الحياة في المدن، فأزداد ثورة على نفسي وعلى أهلي وناسي على ما فرطنا في حق الوطن، حتى ضاق بنا فضقنا به، وفقد جماله وسكينته فزهدناه، وضغط على أعصابنا بزحامه ومشاكله وأزماته فتمنى أكثرنا هجرانه وهجره غير قليلين من أبنائه غضبا وهربا، فضاع من ضاع وغرق من غرق، وغضب من غضب وباع من باع.
قبل السفر بيوم واحد انحشرت بسيارتي في شوارع القاهرة وطريقها الدائري (كالعادة في كل أسبوع) ما يزيد على عشر ساعات لقضاء بعض المصالح، وأحسست بضيق شديد حيث أمر كل بضعة أمتار باختناق مروري يضيق معه صدري وتحترق أعصابي، وتفوتني المواعيد التي أسعى جاهدا للحاق بها، وأتأكد بأنه في مدينة القاهرة يصعب أن تضبط موعدا إلا إذا افترضت أن لك سيطرة مطلقة على حركة المرور في الشوارع، أو ذهبت قبل الموعد بأربعة ساعات على الأقل.
وكلما نظرت من نافذة السيارة وجدت وجوها مكفهرة يبدو عليها الضيق الممتزج بالغضب واليأس سواءا كانوا في سيارات مثلي أو يمشون على أرجلهم في الشوارع، فالجميع تساوى في حالة الزهق والضيق من زحام الشوارع واختناقات المرور والحياة، والجميع تأكد له عبر السنين الطويلة أنه لا حل، وأننا جميعا ندفع ضريبة كوننا مصريين، ومن لا يعجبه الحال فإما أن يهاجر (جوا أو برا أو غرقا) وإما أن يخبط رأسه في الحيطان المنتشرة في كل مكان تسد شرايين الحياة.
هذه هي الأحاسيس التي أقرأها في وجوه الناس الذابلة المحبطة وهم يسيرون أو ينحشرون في شوارع مدننا المصرية وخاصة مدينة القاهرة، والتي أصر مخططوها أن يكدسوا فيها وحولها كل المصالح وكل الهيئات حتى تموت خنقا أو كمدا، ولا توجد إرادة عبر السنين الطوال قادرة على تغيير هذا الحال، فالشكوى تزيد والمعاناة تزيد والزحام يزيد والزهق يزيد، والناس يبدون سكارى وما هم بسكارى ولكن الهم الشديد والدائم والمتزايد جعلهم يفقدون ملامحهم ويفقدون تعبيرات وجوههم، أو ربما يكون ذلك بسبب نقص التغذية وانتشار الأمراض الكبدية والكلوية والمعدية. ويبدو أن اختناقات المرور ما هي إلا انعكاسات لاختناقات وجمود الحياة في مصر، ولهذا يصبح انصلاح حال المرور مؤشرا على انصلاح الأحوال عموما.
حين انتقلت إلى مدينة جدة في اليوم التالي أحسست أنني أتنفس هواءا نقيا، وأمشي في طرقات واسعة ونظيفة، ولا أواجه اختناقات مرورية إلا فيما ندر، فكل شيء قد أعد بعناية، والمدينة مقسمة تقسيما هندسيا رائعا وسلسا يسمح بالحركة عبر طريق دائري متسع في كل مراحله يؤدي إلى شوارع طولية وعرضية منتظمة ومستقيمة، وإشارات المرور الإلكترونية تعمل بدقة.
وإذا تركت هذه المدينة وعدت إليها بعد عام فستجدها قد تغيرت كثيرا، فحركة العمران فيها هائلة، والأسواق الفخمة والجميلة في كل مكان، فهي -إن شئت الدقة– سوق كبير، وحين تراها وترى بضائعها وسياراتها وميادينها وكورنيش البحر فيها تشعر أن هذه مدينة أسست على الرفاهية من أول يوم، فكل شيء فيها جعل خصيصا للاستمتاع والاستهلاك، ولهذا يقولون عليها "جدة غير"، أي أنها غير بقية المدن، وهي فعلا كذلك، وقد سعدت بالعيش فيها خمس سنوات كانت من أحلى سنين العمر، ومما يزيدها جمالا وجود بيت الله الحرام على مقربة منها حيث يفصلهما حوالي مائة كيلو مترا تقطعهما السيارة في أقل من ثلاثة أرباع الساعة عبر طريق سهل سلس متسع في كل أجزائه، ولو خلت هذه المدينة وما حولها من تعنت بعض رجال الشرطة تجاه الأجانب لأصبحت جنة.
أما ميادين جدة وخاصة تلك التي على الكورنيش فكل منها لوحة فنية تعكس ذوقا عاليا، وقد تمنيت أن آخذ بتلابيب رؤساء الأحياء ورؤساء المدن في مصر ليرو بأعينهم كيف يكون جمال المدن وتناسقها ونظامها ونظافتها.
ولا تتسم جدة فقط بالنظافة والنظام والجمال وإنما تتسم أيضا بالحيوية التجارية، فموقعها كمدخل للشعائر المقدسة يجعلها مركزا تجاريا عالميا تجد فيه البضائع من كل مكان في الأرض، وإن كان يغلب المنتج الصيني –كالعادة– على سائر المنتجات، ولكن حتى الصيني هناك ليس كالصيني هنا (أقصد في مصر) فيبدو أن المستوردين المصريين يستقدمون أسوأ ما في الصين إلى مصر، وقد علمت أن الصين انتبهت لذلك وعرفت أن سمعة بضاعتها قد ساءت في مصر ليس بسبب أن كل الصناعات الصينية سيئة ولكن بسبب إصرار التجار المصريين على استجلاب الأرخص والأردأ من هناك كنوع من الغش التجاري السائد (والمكمل لغش الامتحانات وتزوير الانتخابات) أو استهتارا بالمستهلك أو شراهة للكسب المضاعف.
وجدة مدينة عالمية بمعنى الكلمة فهي تحوي كل الثقافات والجنسيات، وإن كان العنصر المصري فيها قد تراجع على مستوى العمالة ليحل محله بقوة العنصر الهندي والباكستاني والفلبيني، وذلك ليس تحيزا ضد المصريين (وإن كان التحيز ضدهم وارد لأسباب لا نود ذكرها)، ولكن بسبب أن تلك الجنسيات الأخرى تتسم بالخضوع والعمل في صمت وإطاعة الأوامر والرضى بالقليل، وهذا ما لا يتوافر في العمالة المصرية التي يعيبها كثرة الكلام، والتدخل فيما لا يعنيها، وإثارة المشاكل، ولكن مع ذلك بقيت مهنا يفضل الناس فيها المصريون ومنها الطب والتدريس.
ومن العجيب أن عددا غير قليل ذهب ليستثمر أمواله في مشروعات تجارية وصناعية في جدة وفي غيرها من مدن المملكة فقد أتاحت التنظيمات الجديدة مرونة تسمح للمستثمرين الأجانب بالدخول والاستثمار في المملكة بحد أدنى مليون ونصف المليون ريال، وقد تشجع المستثمرون المصريون على الذهاب إلى هناك (والهرب من هنا) بسبب سهولة الإجراءات وشفافيتها وبسبب انعدام الضرائب أو قلتها ثم انفتاح السوق واستقراره.
ثم انتقلت بعد أيام قليلة إلى باريس "مدينة النور" كما يسمونها و"مدينة الجن والملائكة" كما سماها طه حسين، وننزل في مطار شارل ديجول فنجده مطارا متواضعا مقارنة بمطار دبي الرائع، والخدمة فيه بطيئة، والممر إلى الجوازات ضيق وغير لائق ببلد مثل باريس، ونظافة المطار وفخامته أقل بقليل مما نرى في كثير من دول الخليج.
ويقف موظفون قبل الوصول للجوازات يتفحصون التأشيرات بعدسات مكبرة ويدققون كثيرا في جوازاتنا نحن العرب، وقد أصابنا هذا بالضيق وشعرنا أننا هانت علينا أنفسنا فهنا على الناس، وأننا نعاني على أرضنا وعلى أرض غيرنا، وأن الجنسية العربية اكتسبت وصمة، ربما من حماقات بعضنا، أو مما فعله السفهاء منا، وربما بروح العنصرية التي تغذيها وسائل الإعلام الغربية الصهيونية ضدنا.
وكان يبدو على المطار تواضع إمكاناته، ولهذا حمدت الله على أنه لا يفوق مطار القاهرة (الجديد) إلا في بعض النظام والدقة والهدوء فليس فيه ما عندنا من منادين على أشخاص يميزونهم عن بقية الركاب في تسهيل إجراءاتهم أو تشهيل جماركهم، فالكل هنا يقف في الطابور، ولا أحد ينادي على أحد، ولم يتحول بعد المطار إلى محطة سكة حديد كما تحول عندنا، ولا يقابلك أشخاص شديدي السماجة يقولون لك "حمد الله على السلامة يا بيه" وأنت تعلم ما يريدونه منك.
وتبدو باريس في شهر مارس كعروس جميلة يغسل وجهها مطر خفيف يتساقط زخات زخات، وهي عروس ذات جمال أصيل (يختلف عن جمال جدة المستحدث)، وليس فيها ما في دول الخليج من حمى البناء الضخم الحديث وناطحات الإبل والسحاب، بل كل ما فيها يشير إلى الجمال القديم العريق، فباريس تذكرك بأنك تعيش في القرن السابع عشر أو الثامن عشر من خلال مبانيها ومتاحفها، ثم تنقلك بهدوء وسلاسة إلى القرن الواحد والعشرين من خلال محلاتها وأسواقها وبضائعها وناسها.
والناس هنا قد نشأوا على الأدب والهدوء، فهم حقيقة شعب متحضر، لا تجد منهم صخبا أو مزاحا ثقيلا في الشارع، بل تجد جمالا في المظهر وانضباطا في السلوك وتحضرا في التعامل وحشمة في الملبس (على غير المتوقع)، وإذا ركبت مترو الأنفاق تجده أقل فخامة من مترو الأنفاق عندنا في مصر وأضيق كثيرا في مداخله ومخارجه، ولكنه هادئ ومنضبط في مواعيده، والناس تجلس أو تقف في هدوء شديد.
وأذكر أن سيدة مصرية ذهبت لتحضر تذكرة المترو فوقفت أمام الشباك مباشرة (كما تفعل عندنا) ولم تنتبه أن ثمة طابور عليها أن تقف فيه، وهنا انزعجت السيدة التي تقطع التذاكر وأشارت إليها وهي تصرخ لتقف في الطابور وقد أحست أن شيئا هاما قد انتهك. ومن الملفت للنظر إمساك أغلب الركاب لكتب يقرؤونها وهم في وسائل المواصلات، وهذا يجعل وسائل المواصلات هادئة ومهذبة للغاية، كما أنهم لا يتحدثون في التليفون المحمول إلا نادرا لدرجة توحي وكأن ليس لديهم أجهزة محمول كالتي عندنا، ويبدو أننا شعب ثرثار، وقد خرجت ثرثرتنا عبر المحمول فكلفتنا وتكلفنا أربعين مليون جنيه يوميا في مصر قيمة مكالمات أغلبها من قبيل الثرثرة الفارغة.
وتأتي متعة التجول بين آثار باريس من خلال جولة نهرية في نهر السين، وهو بالمناسبة ترعة صغيرة لو قارناه بنيلنا العظيم الذي لم نكرمه ولم نحسن رعايته والاستفادة منه، وألقينا فيه مخلفاتنا وملوثاتنا. وزيارة متحف اللوفر، أعظم متاحف الدنيا تعني أنك دخلت إلى عالم من الجمال اللا نهائي، وأنك وسط أجمل ما صنعت أيدي البشر، والمتحف شديد الفخامة والضخامة والإتساع بحيث أنه لكي ترى كل قطعة فيه وتقف أمامها لمدة ثلاث ثواني فأنت تحتاج إلى ثلاثة شهور متصلة ليلا ونهارا.
وفي قاعة الجيوكندة بهرني منظر رأيته يتكرر في مواضع كثيرة، وهي أنهم يأخذون تلاميذ الحضانة والمدارس الإبتدائية ومعهم كراسات الرسم ليجلسوا على الأرض ويقوموا برسم التماثيل أو اللوحات الفنية العالمية، ويفعلون ذلك أيضا في الميادين، وكأنه درس مكثف وتلقائي في حب البلد والانتماء إليه وتذوق الجمال ومحاكاته، ولهذا حين يكبرون لا يتصرفون بعشوائية ولا يصنعون القبح في الشوارع والمباني.
ومن هنا عرفت من أين يأتي الرقي والجمال والانتماء، فهذه بلاد ترعى أبناءها فيرعاها أبناؤها ويحبونها ويخلصون لها ويعملون بجد من أجل رفعتها لأن كل مواطن صغيرا كان أو كبيرا يعرف أن خير بلده عائد إليه لذلك يسعى إلى زيادة هذا الخير. وهذا يفسر لنا سر دخول 45 مليون سائح إلى فرنسا في كل عام ليرى الأصالة والحداثة والثقافة والفنون والجمال في كل صوره مصحوبا بمعاملة ممتازة، وهذا ما يحدث أيضا في أسبانيا حيث يزورها كل عام 40 مليون سائح على الرغم من افتقارها للآثار؛
ولكن جمال الطبيعة وحسن المعاملة يغرى السياح بالذهاب إلى هناك، أما هنا أقصد في مصر حيث يوجد لدينا أكثر من ثلث آثار العالم فلا يأتي إلينا –في أحسن الأحوال- أكثر من خمسة ملايين سائح لأنهم يخشون من إرهابنا، ومن ينجو منهم من الإرهاب يتعرض لتحرشات ومضايقات شتى من لحظة وصوله إلى لحظة مغادرته (أو قتله أيهما أقرب).
أما برج إيفيل فهو بكل حق معجزة هندسية بكل المقاييس وتحفة جمالية تستحق أن تكون رمزا لباريس مدينة النور والجمال. ولا يعكر صفو المكان هناك إلا إلحاح المتسولين من العالم الثالث وإلحاح الباعة الجائلين من العرب والأفارقة، والعجيب أن الشرطة الفرنسية تطاردهم بواسطة أفراد أمن يركبون دراجات أنيقة ورقيقة ويكتفون بهروبهم من المكان دون محاولة للقبض عليهم أو إيذائهم أو مصادرة بضائعهم (كما يفعلون عندنا مع الباعة الجائلين).
وشعرت بالفخر حين تجولت في الشانزليزيه وقارنته بوسط البلد في القاهرة فوجدت أن الحركة التجارية لدينا أكثر نشاطا وحيوية، وشعرت بالفخر أكثر حين أكملت المسير ووصلت إلى أكبر ميادين باريس، ميدان الكونكورد حيث تقف المسلة المصرية شامخة على قاعدة رخامية تزيدها جمالا، وأسفت على آثارنا المبعثرة، ولكنني عاودت نفسي وحمدت الله على أنها في مكان تلقى فيه الرعاية والتكريم، وتذكرت مأساة رمسيس الثاني عندنا، والذي نزعوه من ميدان رمسيس حيث كنا نراه صباحا ومساءا وأودعوه المخازن لتدب فيه الأمراض، وتذكرت أيضا المسلات الملقاة على الأرض في الأقصر وفي غيرها، فأحسست أن مسلة الكونكورد "أمها داعيالها".
وذهبنا لزيارة ما يسمى ب "معهد العالم العربي" على شاطئ نهر السين، وهو معهد اشترك في بنائه حوالي 15 دولة عربية (لأول مرة تتفق خمسة عشرة دولة عربية على عمل شيء)، ولست أدري الهدف من بنائه إذ لم يقابلنا أحد من المعهد ولم يشرحوا لنا ما فيه، ولكننا فقط تناولنا العشاء على حسابنا الخاص في مطعم أعلى المعهد. والمعهد يختلف عن كل بنايات باريس إذ يتكون من أعمدة وشرائح معدنية تخلو من أي جمال، بل إن داخله يثير رهبة وانقباضا، وشعرت بندم شديد على تضييع الوقت في زيارة هذا المكان الموحش والخارج عن منظومة الجمال والشياكة الباريسية.
وعدت إلى القاهرة ونزلت المطار لأجدني في محطة سكة حديد قديمة ينادي فيها المنادون على أصحاب الحظوة والمكانة ويذكروننا بالتفرقة وانعدام العدل في التعامل، ويتسول فيه المتسولون بأشكال سمجة، وتعجبت لماذا يصرون أن تحط رحلات مصر للطيران في هذا المطار القديم ليحط من شأنها بينما تحط الخطوط الأجنبية في المطار الجديد الأنظف نسبيا وكأننا نريد أن نحارب الشركة الوطنية فنعاقب من يطير عليها بأن يحط في محطة سكة حديد ثم نشعره بانحطاطه حين يقف في طوابير مليئة بالهرج والمرج والمحسوبيات.
ولكن في النهاية، هي مصر أمنا التي نحبها ونعشقها رغم شيخوختها ورغم حزننا عليها وغضبنا من بعض أبنائها الذين آذوها وآذونا وجعلونا نشقى بمصريتنا وندفع ثمن الانتماء من دمنا وأعصابنا اللذان احترقا في زحام المرور واختناقات الحياة.
واقرأ أيضًا:
الإنسان السعودي بين الأمس واليوم مشاركات / الإنسان السعودي بين الأمس واليوم مشاركة / إشراف دولي على امتحانات الثانوية العامة / بين الماشين والسيارات الماشية