الساحر (تأملات في شخصية باراك أوباما)
أثار خطاب أوباما للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة يوم 4/6/2009 م اهتماما واسعا وجدلا أوسع حول آفاقه ومعانيه ودلالاته وإمكانية خروجه إلى حيز التنفيذ، وهل هو رؤية شخصية رومانسية لإنسان حالم طموح أم سياسة أمريكية جديدة صنعت في مطبخ المؤسسات الراسخة بناءا على التغيرات العالمية التي ترجح تكامل الحضارات على صراع الحضارات؟. ولا يمكن فهم كل هذا دون أن نفهم أوباما نفسه.. صاحب أكبر قصة نجاح في العصر الحديث، وصاحب أكثر السير الذاتية إثارة في تاريخ الساسة الأمريكيين..
نحاول أن نفهم نشأته وكيف أثرت في شخصيته.. وما هي مفاتيح تلك الشخصية التي تمكننا من فهم توجهاته وردود أفعاله.. والدافع إلى ذلك هو أن كثير من الدلائل تشير إلى أهمية وخطورة هذا الرجل في التاريخ الإنساني الحديث في حالة لو ترك حيا يستكمل آماله وأحلامه الجريئة كما وصفها هو في كتابه (جرأة الأمل) The audacity of Hope.. هذا بصرف النظر عمّا إذا كان سيمد يده للعرب والمسلمين أو يخذلهم .
ظروف النشأة ومفاتيح الشخصية:
حياة أبويه مليئة بمحاولات الصعود.. فأبوه حسين أوباما ينحدر من قبيلة "لوا" الكينية وقد عمل راعيا للماعز في قريته "ناينغوما"، ثم تابع دراسته في كينيا، ثم تركها بفقرها وبؤسها ومشكلاتها وانتقل إلى أمريكا في بعثة دراسية بحثا عن التفوق والتميز، وكان طالبا مجتهدا نشيطا ولذلك حاز إعجاب زميلته الأمريكية البيضاء والتي تنحدر من ولاية كنساس واسمها "آن دنهام"، فتزوجها وعمرها آنذاك 18 عاما. وبعد فترة قصيرة من ميلاد باراك انفصل الزوجان وكان عمره حينئذ سنتين.
وحصل حسين أوباما على الدكتوراه من جامعة هارفارد، ولسبب أو لآخر عاد إلى كينيا ليستثمر شهادته العليا وربما كان يحلم بفرصة كبيرة في بلده، ولكن الظروف السياسية حالت بينه وبين ذلك فانكفأ على نفسه وراح يتعاطى الكحوليات ليغيب وعيه وينسى إحباطاته، وقد مات في حادث سيارة في كينيا عام 1982 م، وعلى الرغم من أن باراك لم يكن يرى أباه إلا فيما ندر إلا أنه تأثر بشخصيته، وهو يصفه بقوله "كان مثاليا.. مات وفي نفسه مرارة عميقة"، ويبدو أن هذا الأب كان أحد روافد الرغبة في الصعود لدى باراك أوباما، كما كان أيضا رافدا لصفة المثالية لديه.
أما أمه فقد ماتت وتركت ألف صفحة من رسالتها للحصول على الدكتوراه، وكانت لديها روح المغامرة والخروج على المألوف وكسر قيود العادات والتقاليد السلبية، فتزوجت –وهي البيضاء الأمريكية– شابا إفريقيا أسود لتتحدى بذلك قيما ومفاهيم كانت سائدة بقوة في المجتمع الأمريكي تمنع على السود واليهود والكلاب دخول مطاعم البيض.
وننتقل من ظروف النشأة المبكرة إلى لقطة حديثة جدا فنتأمله وهو يصعد سلالم قصر القبة (إبان زيارته لمصر في 4 يونيو 2009 م) يقفز صاعدا السلم في خفة ورشاقة، ونتأمله مرة أخرى وهو يصعد سلم الطائرة المغادرة في خفة ورشاقة وحيوية وحذر في نفس الوقت، ومن هنا نلتقط مفتاح شخصيته "الرغبة في الصعود"، تلك الرغبة التي انتقلت إليه من أبويه، وهو يريد أن لا يسقط في وسط الطريق كما سقطا سواء بالتعاطي أو بالإحباط أو بالفشل أو بالموت لذلك تجده حذرا يختار الكلمات بعناية شديدة ويخشى الميل الشديد إلى أحد الأطراف على حساب الآخر فهو يراعي التوازنات حتى لا يسقط كما سقط أبويه من قبل.
ونظرا لعمق جينات وسلوكيات الرغبة في الصعود والنمو الدائم لم يأخذ وقتا طويلا في الوصول إلى قمة الحلم البشري في قيادة أقوى دولة في العالم (وهو ابن مهاجر إفريقي أسود)، وقد نفذ ذلك الحلم في غضون عشر سنوات إذ راوده لأول مرة بشكل واضح في سن الخامسة والثلاثين فحدد عشر سنوات لتحقيقه، وحققه فعلا.
وقد يقول قائل: لقد حقق أوباما حلمه ووصل إلى أعلى قمة وهو الآن في السابعة والأربعين فماذا بعد؟
لو عدنا إلى مفتاح شخصيته فسنجد أنه غير قادر –حتى لو أراد– على التوقف عند هذه النقطة بل هو يريد مزيدا من الصعود ومزيدا من الخلود، تراوده الآن أحلاما إنسانية هائلة لو نجح في تحقيقها فسيدخل التاريخ ليس كرئيس رسمي للولايات المتحدة الأمريكية ولكن كأحد الذين غيروا مسار التاريخ الإنساني، خاصة وأنه يمتلك قدرات ومهارات شخصية هائلة.
وعلى الرغم من هذه الرغبة الملحة في الصعود الدائم، ونجاحه حتى الآن في هذا الصعود، وتجاوزه للنقطة التي توقف عندها أبوه بالتعاطي والنقطة التي توقفت عندها أمه بالموت إلا أنه يحمل في تاريخه العائلي إمكانية الانكسار، أو السقوط عند الدرجة المكسورة من السلم.
وأوباما الذي ولد في أمريكا عام 1961 م لأب مسلم وأم مسيحية، وله أقارب في ثلاث قارات (إفريقيا وآسيا وأمريكا)، وزار أوروبا وإفريقيا وعاش في آسيا حتى سن عشر سنوات وقضى فترة التعليم الابتدائي (وهي فترة مهمة في وضع أسس ومفاهيم توجه السلوك بعد ذلك) في جاكرتا بإندونيسيا والتي انتقل إليها عام 1967 م مع أمه وزوجها الإندونيسي "لولو سويترو"، ثم عاد بعد ذلك إلى "هونولولو" ليتربى في كنف جده وجدته لأمه وتابع دراسته هناك حتى نهاية المرحلة الثانوية عام 1979 م.
هذه النشأة وتلك الظروف التي عاشها تعطينا مفتاحا آخر من مفاتيح شخصيته، وهو التعددية الثقافية، والقدرة على قبول الآخر المختلف واحترامه. وقد رأى الرئيس بشار الأسد أن شخصية الرئيس أوباما المتعددة الثقافات تعكس الآمال في إمكان حدوث تحول بين واشنطن ودول الشرق الأوسط.
وفي مقال في صحيفة نيويورك تايمز قبل زيارة أوباما لمصر ورد أن "شخصية أوباما غريبة جدا فهو لا يميل إلى طرف على حساب طرف آخر بشكل واضح، وكما أن له أصدقاء عرب يكرهون الصهاينة، له كذلك أصدقاء يهود وصهاينة يكرهون العرب"، وهذا الوصف يشير إلى مفتاح آخر من مفاتيح شخصيته وهو الميل إلى مراعاة التوازنات والحلول التوافقية التي ترضي جميع الأطراف.
ومن صفاته الأساسية الهدوء والحذر فنادرا ما يرتفع صوته، ونادرا ما يظهر انفعاله، ولذلك أطلق مساعدوه في الحملة الانتخابية عليه اسم "أوباما بلا دراما". ويؤكد النجم الأسمر "جيمي فوكس" على هذه الصفة في أوباما فيقول: "إن لديه طريقة في الكلام رائعة، دائما هادئ ومعبر بقوة عما يقول، حتى عندما كان يتنافس مع السناتور "ماكين" لم يتحمس ويرفع صوته ليعلن عن وجوده، بل ظل هادئا ومتمكنا من حديثه طوال الوقت".
وأوباما هو الولد الوحيد وله أخت واحدة، وكانت أمه شغوفة به وشديدة الاهتمام بكل شيء يخصه، لذلك نتوقع أن يكون لديه إحساسا عاليا بذاته وبأهميته، وقد يصل هذا إلى درجة من النرجسية (نلقاها عموما في كثير من الناجحين والمتميزين)، وقد اتضح هذا الأمر في اهتمامه بأن يكون حفل تنصيبه أسطوريا ومدويا، وهو ما لم يكن معتادا من قبل بهذه الدرجة لدى الرؤساء الأمريكيين السابقين.
وربما يكون المصريون قد التقطوا هذا الخيط الطاووسي الاستعراضي لدى أوباما فاستقبلوه في قصر القبة بموكب من السيارات يتقدمه عشر ضباط على الخيول في مشهد سلطاني مهيب.
وأوباما يعتمد كثيرا على سحره الشخصي ويعوض به قلة خبرته في عالم السياسة مقارنة بمنافسيه وقد ذكرت شبكة CNN (بناءا على استطلاع للرأي) في 28/4/2009 م أن شخصية أوباما أكثر شعبية من سياساته. وهذا ربما يستدعي الحذر في التعاطي مع أوباما كشخصية كاريزمية تأسر قلوب الناس بقولها وسحرها، ولكن ليس بالضرورة من خلال حقائق وأفعال وسياسات.
إذن نعود لنجمل مفاتيح شخصيته وسماته الأساسية في التالي:
الرغبة الشديدة في الصعود، الحذر، المثالية، الهدوء، الميل للحلول التوافقية، مراعاة التوازنات، إرضاء جميع الأطراف، الاعتزاز الشديد بالذات والذي قد يصل إلى درجة النرجسية.
ليس من المروءة أن نكذبه وليس من الحكمة أن نصدقه:
سمعت خطاب أوباما باللغة الإنجليزية على قناة CNN في قاعة "الأمباسادور" في فندق سميراميس حيث كنت أشارك في مؤتمر الجمعية المصرية للطب النفسي، وكانت القاعة ممتلئة بالأجانب مع بعض المصريين الذين شاركوني فكرة أن نستمع للخطاب بلغة أوباما نفسه فنتفادى أخطاء الترجمة كما نستشعر صاحب الخطاب بكليته وبلغته ومشاعره كما هي دون تدخل لصوت المترجم أو إيحاءاته أو تحيزاته أو تعديلاته (بقصد أو بغير قصد)، ثم استمعت للخطاب مرة أخرى أو أكثر من مرة على قناة الجزيرة مترجما لأرى ما وصل للناس مترجما.
ووجدتها فرصة أن المؤتمر يحوي عددا كبيرا من الأطباء النفسيين (مصريين وعرب وأجانب) فرحت أسألهم عن انطباعاتهم عن الخطاب ثم عن شخصية أوباما، وعن توقعاتهم للمستقبل في ظل هذا الخطاب المختلف، والموجه من رئيس أمريكي تحديدا للعالم لإسلامي.
وانقسم الأطباء النفسيون بين متفائل بلغة الخطاب ومتوقع توقعات إيجابية وبين متشائم من الخطاب على أساس أنه نوع من الخداع لنا ولكن بطريقة جديدة وبلغة مهذبة.
أما عن شخصية أوباما فقد اختلفوا أيضا حولها، والاختلاف متوقع في مثل هذه الظروف وفي غيرها، ولكن الملفت للنظر أن الاختلاف وصل إلى حد التناقض، إذ رأى بعضهم أن أوباما شخصية كاريزمية ساحرة، وأنه شخص عقلاني وفيلسوف وحكيم ورسول سلام جاء في هذا التوقيت ليعيد إلى البشرية حالة من التوازن والعقلانية والتسامح والسلام، وأن تركيبته العائلية وتنشئته في بيئات متعددة يسمحان بوجود نفس سمحة متسامحة ورؤية إنسانية رحبة.
ويرى هذا الفريق أن الناخب الأمريكي بعبقريته وحيويته ولياقته الديموقراطية العالية أراد أن يصحح أخطاء فترة حكم بوش باختياره لأوباما بهذه المواصفات كي تستعين به الإدارة الأمريكية ذات التركيبة المؤسسية الراسخة في تحسين صورة أمريكا بعد أن شوهها بوش وإدارته الغبية، وقد وصلت درجة التشويه للصورة الأمريكية درجة هائلة دفعت صحفيا عراقيا عربيا مسلما لأن يقذف وجه بوش بالحذاء، وقد جرت محاولات مؤسسية إعلامية وغير إعلامية متعددة لتحسين صورة أمريكا في العالم بوجه عام ولدى العالم الإسلامي بوجه خاص وفشلت هذه الجهود نظرا لانعدام الثقة الشديد لدى المواطن العربي المسلم في الإدارة الأمريكية والتي يراها متحيزة ضده في الصراع العربي الإسرائيلي ومدمرة للعديد من الدول الإسلامية على رأسها العراق وأفغانستان، ومحبطة لطموحاته وتطلعاته من خلال دعمها ومساندتها واحتوائها للأنظمة الاستبدادية التي تقهره.
ولقد نجح أوباما من خلال خطابه المؤثر والمتوازن والمدروس جيدا في أن يفتح مسارات عقلية ووجدانية مختلفة تسمح بالتواصل بين أمريكا والعالم الإسلامي بعد أن سدت كل هذه المسارات في فترة حكم بوش وإدارته العنصرية المتعصبة.
أما الفريق الآخر من الأطباء النفسيين وهم الأقلية فكانوا يتشككون بشدة في نوايا أوباما ويصفونه بأنه سيكوباتي مهذب وثعلب مراوغ يحاول أن يمسك العصا من المنتصف دائما ويرضي جميع الأطراف ليحقق أكبر قدر من المكاسب، وأنه أخطر بكثير من بوش الغبي لأن ذكاء أوباما يعطيه القدرة على المناورة والخداع، و"يلبسنا العمة" وربما "يقلوظ هذه العمة" لتعجبنا أكثر بما أننا شعوب عاطفية حماسية، وأنه يضع لنا طبقة من العسل فوق طبقات السم المتراكمة.
وفريق ثالث يراه مثاليا حالما يسعى إلى تغيير العالم وكأنه المهدي المنتظر أو المسيح.
وكانت حجة الفريق المتفائل بأوباما أنه شخص ناجح ومكافح وينتمي إلى جموع البسطاء في العالم وأنه كأنه واحد منا، وأن نبرة صوته مليئة بالصدق والنقاء، وأنه جاء بهذه المواصفات الإنسانية الرحبة لكي يصحح أوضاعا أمريكية وعالمية خطيرة كانت ستؤدي بالسلام العالمي في حالة استمرارها، وأن ظروف هذه المرحلة الحرجة واحتياجاتها هي التي فرضت صعود أوباما إلى هذا المنصب الرفيع، وكأن وعي المجتمع الأمريكي يسعى إلى تصحيح الأوضاع الخاطئة التي ورطه فيها بوش وغيره من المتعصبين السابقين في الإدارة الأمريكية، وأن أوباما جاء في هذا التوقيت ليمسح عن وجه أمريكا ما لحقه من التشوه ويعيد إليه بريقه وحيويته ومزاياه في إعلاء قيم الحرية والمساواة والديموقراطية والعدل.
أما الفريق المتشكك في أوباما فقد كان يستند إلى أن أوباما يريحنا بكلام معسول ويبيع لنا أوهام وأحلام من خلال خطاب توافقي تصالحي يرضي جميع الأطراف ويجد فيه كل شخص بغيته وراحته، ولكن على أرض الواقع تضرب القوات الأمريكية أفغانستان بقسوة شديدة ويقتلون المدنيين أكثر مما يقتلون من القاعدة أو طالبان، كما أن أوباما يتحدث عن إغلاق معتقل جوانتنتاموا، بينما يموت مواطنا يمنيا في هذا المعتقل في ظروف غامضة في 3/6/2009 م أي قبل زيارة أوباما للقاهرة بيوم واحد، وقد زعموا بأنه انتحر (في حين يتوقع العرب والمسلمون بأنهم "انتحروه" على طريقة جهات الأمن العربية حين يريدون التخلص من أحد).
ومن المعروف أن الشخصيات التي ينقسم حولها المتخصصون بهذه الدرجة هي شخصيات مثيرة للجدل وربما تكون على درجة عالية من الخطورة، وهذا ما يجعلنا نتوقع أن أوباما سيكون له أثر كبير في التاريخ الإنساني سواء بالإيجاب أو بالسلب، إذ أنه من الشخصيات المحركة لعجلة التاريخ، فإما أن تأتي هذه الحركة في الاتجاه الصحيح أو تأتي في الاتجاه العكسي، ولكن في الحالتين ستكون هناك تغيرات في التوجهات خاصة وأنه معروف عنه التمسك برؤاه ومحاولة إقناع معاونيه بها بما يملكه من تأثير قيادي كبير.
وبعد انتهاء الخطاب كنت على سفر، فرحت أتابع ردود أفعال الناس من خلال الإذاعات العربية والأجنبية وحين عدت إلى البيت تابعت تلك الردود على القنوات الفضائية بجنسياتها المختلفة، فكانت هناك –كما هو متوقع– آراء متباينة. فبعض الناس يرى أن السياسة الأمريكية سياسة ثابتة تضعها مؤسسات راسخة بناءا على معلومات هائلة ومتنوعة وأنها لا تتأثر برؤى وأحلام رومانسية يحملها في عقله وقلبه رئيس شاب جاء إلى مقعد السلطة في أقوى دولة في العالم على قاعدة الرفض والكراهية لإدارة سابقة ورطت أمريكا في مواقف جلبت لها كراهية العالم بشكل عام وكراهية وعداء المسلمين بشكل خاص.
وفي نظر هؤلاء فإن خطاب أوباما ما هو إلا نشاط علاقات عامة ورسالة ترضية للعالم الإسلامي الذي عانى الويلات في حياته اليومية بسبب السياسية الأمريكية العدوانية في أفغانستان والعراق والمنحازة بغباء شديد إلى إسرائيل في الصراع العربي والإسلامي مع إسرائيل.
وقد استغلت الإدارة الأمريكية أوباما بما يملكه من كاريزما هائلة لأداء هذه المهمة الوطنية الكبيرة وقد نجح أوباما في ذلك بعد أن فشلت جهودا مؤسسية كثيرة في تحسين صورة أمريكا في عيون المسلمين، وأن خطاب أوباما قد أعد بعناية شديدة على يد فريق من الخبراء في شئون العالم الإسلامي وخبراء في العلوم النفسية (يعرفون مداخل العقلية الإسلامية والعربية جيدا) بحيث يؤدي هذه الرسالة التصالحية التوافقية التي تمسك العصا دائما من المنتصف ولا تريد أن تغضب أحدا، وأن كل ما قيل يصعب تنفيذه على أرض الواقع خاصة فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل.
والبعض الآخر يرى أن أوباما رجل صادق ومحب وأنه جاء يمد يده للعالم الإسلامي ويجب علينا مساعدته خاصة وأنه يواجه معارضة في أمريكا ومعارضة في إسرائيل بسبب توجهاته المسالمة نحو العالم الإسلامي والتي ربما لا يشاركه فيها الكثيرون من أعضاء الإدارة الأمريكية.
وهذا الفريق ربما يبدي انبهارا شديدا بشخصية أوباما الساحرة وبقامته الفارعة ورشاقة جسمه وسرعة حركته وحيويته الظاهرة خاصة حين يقارنون ذلك بزعماء عرب تيبست مفاصلهم وتضخمت بطونهم وتكلست عقولهم بفعل الشيخوخة وطول المقام على الكراسي والعروش وأصبحوا عاجزين عن الحركة لخطوات قليلة وعاجزين عن التفكير المستقبلي وقد بلغوا أرذل العمر فأصيبوا ببطء في التفكير وتيبس في الآراء والسياسات وتشبث بالمصالح الشخصية وتعلق بتوريث السلطة للأبناء.
والجميل في آراء الناس أنها كانت متنوعة، وكانت تحوي رؤية نقدية وعقلانية لأوباما وخطابه وكان الكثيرون يقولون: "لننتظر ولنرى ما سيفعله أوباما على الأرض فالكلام الجميل سهل ولكن تنزيله على أرض الواقع هو الأهم"، وهذه نبرة جديدة على العقل العربي خصوصا لدى عامة الناس، ويبدو أن ثمة وعي يتشكل من خلال التعرض للعدوان الإسرائيلي الأمريكي المتكرر والتعرض لخبرات الاستبداد وخداعات المستبدين وأيضا التعرض لجرعات إعلامية من خلال البرامج التليفزيونية الجادة والنقد الإعلامي بشكل عام خاصة في الصحف المستقلة، مما جعل الناس تنظر بموضوعية وتنتظر بواقعية ماذا سيحدث على الأرض بعد أن خرجت كلمات أوباما من فمه في الهواء.
وهذا لا يمنع وجود فئة منبهرة بأوباما ومستسلمة بشكل لذيذ لأحلامه وأمنياته، وبعضهم للأسف ينتمي للنخبة، وهؤلاء هم الذين صفقوا له أثناء الخطاب أكثر من أربعين مرة، ولم يتمالك أحدهم نفسه فصاح: I love you Obama، ولهذا سخر منهم المصريون الظرفاء بأن تخيلوهم يقولون لأوباما بعد الخطاب: "أنت أوبابا، وأنت أوماما، وأنت أنور وجدي".
ومع تباين الآراء ربما يكون من المفيد ومن المروءة أن نصدق أوباما وأن ننتظر لنرى مدى تطابق أقواله مع أفعاله، وانتظارنا لا يجب أن يكون انتظارا سلبيا طفولياً ساذجا كمن ينتظر من بطل أسطوري أن يفعل كل شيء بالنيابة عنه وكأنه أب حنون أو مهدي منتظر أو جني خرج من مصباح علاء الدين، ولكن انتظارنا يحوي مبادرات إيجابية للتعاطي والتفاعل مع المبادئ التي أعلنها والبحث معه عن آليات واقعية للتنفيذ، وفي الوقت نفسه نعمل على تقوية أنفسنا حتى لا نحتاج لأن نستجدي العفو والسماح والقبول من أحد، ولا نراهن على رومانسية وإنسانية أوباما، ولا نراهن على تغيرات قد تحدث أو لا تحدث في توجهات أمريكا والغرب، وإنما نراهن على قوتنا الذاتية وقدرتنا على الدفاع عن أنفسنا وأهلينا ومصالحنا، وهكذا نجمع بين المروءة والحكمة.
أنتخبه رئيسا لمصر ولكن:
لو جاز لأوباما أن يترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، فسأقوم بعمل بطاقة انتخابية (حيث أنني لا أملك تلك البطاقة حتى هذه اللحظة، وعجزت في محاولات كثيرة أن أستخرجها حيث كانوا يتشككون في نواياي الانتخابية فيصعبون الإجراءات حتى أنصرف مللا ويأسا وقهرا) وسأذهب إلى اللجنة وأضع صوتي له وفي عقلي أنني أنتخب شخصا ذا قامة وقيمة، وأنه يتمتع بحالة من الشموخ والعزة والثقة بالنفس تليق بمقام مصر وقيمتها، ولأنه معتز بنفسه وبكرامته وبالتالي سيفعل ذلك مع بلده، وأنه رجل مثقف يعرف قيمة مصر الثقافية وأنها دولة عظمى ثقافيا، وأنه قادر على الحلم لنفسه ولوطنه، وأنه يتمتع بذكاء وجداني هائل يجعله قريبا من القلوب ويمكنه من حشد طاقات وعقول ومشاعر الناس حول أهداف قومية عليا، وأنه يتمتع بذكاء مرتفع وقدرات عالية على القيادة وله كاريزما آسرة ربما تمكنه من جمع قلوب العرب وربما تمكنه أكثر من جمع قلوب المسلمين؛
ولديه رؤية تعددية تساعده على قبول الآخر فيسمح بإقامة الأحزاب بحرية ولا يستبعد أي فئة اجتماعية أو سياسية أو دينية من التفاعل الإيجابي في المجتمع، ولديه قدر كبير من التسامح الديني والذي نحتاجه لننهي تلك التوترات الطائفية المتكررة والمتصاعدة، ولديه رغبة هائلة في النمو والتطور والصعود تجعله قادرا على إفساح المجال للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو يتمتع بمرونة الشباب وحيويتهم وتطلعهم للمستقبل، والأهم من ذلك أن ليس له أبناء ذكور يطمع في نقل السلطة إليهم فيتشبث بها إلى أن يكبروا ويمسكوا بتلابيبها.
وهو بالتأكيد سيدرك قيمة مصر الحضارية، فيكفي أن تنظر إليه وهو يقف أمام أبو الهول في انبهار واعتزاز، ثم دخوله إلى جوف الهرم (وهو أول مسئول أجنبي يفعل ذلك) ليصل إلى حجرة دفن خوفو، ثم رغبته (التي لم يسمح بها الوقت) لتسلق الهرم الأكبر، كل هذا يجعلنا نتوقع مدى قيمة هذه الرموز الحضارية في نفسه، وبالتالي فهو لن يبيعها ولن يفرط فيها، ولن يطمسها بالبناء حولها.
ولكن مع هذا سأكون حذرا في انتخابي له خوفا من طغيان شخصيته الكاريزمية، وأن ينبهر به الناس ويعظموه بل ربما يقدسوه أو يؤلهوه (كما فعلوا مع ملوك الفراعنة قديما ومع عبد الناصر حديثا) حيث سيمنحهم الإحساس بالعزة والكرامة والشموخ والقيمة، ذلك الإحساس الذي افتقدوه لسنوات طوال خيمت عليهم فيها أحاسيس الهوان وانعدام القيمة وقلة الحيلة.
ولو فعلوا هذا معه فسيحولونه إلى نصف إله وهنا تتغير ملامحه وتقسو نبرة صوته ويطمع في الخلود على الكرسي بل تلتصق مؤخرته بالكرسي ولا يستطيع القيام من فوقه، وندخل في دوامات استبدادية هائلة لا نعرف كيف نخرج منها، كما حدث معنا مرات عديدة على مدار التاريخ، وربما يطلب من زوجته ميشيل أن تلد مرات كثيرة حتى تنجب وليا للعهد.
ولقد سمعت إحدى النساء تعبر عن كاريزمته الطاغية بقولها: "إنه يشد العين" فما إن تراه حتى تتعلق عينك به وتلتفت إليه عمن سواه، وقد يكون هذا سحرا خاصا في شخصيته وانبهارا بقصة نجاحه الأسطورية ويضاف إلى ذلك هالة المنصب كرئيس لأقوى دولة في العالم.
ويزيد من مخاوفي من تحوله إلى شخصية تسلطية استبدادية استخدامه المتكرر لإصبعه السبابة اليمنى أثناء حديثه بشكل توكيدي سلطوي بما يوحي بوجود جذور سلطوية لديه قابلة للنمو في أي وقت خاصة إذا انتقل من البيئة الديموقراطية في أمريكا إلى البيئة المصرية التي تعلي من قيمة التسلطية وتراها الوسيلة الوحيدة لقيادة المصريين (ذلك الشعب النمرود الذي لا ينصلح حاله إلا بالعصا).
يتبع.................... : الساحر تأملات في شخصية باراك أوباما2
واقرأ أيضا:
لو لم أكن مصريا... لحمدت الله على ذلك / انتبه من فضلك: الجرّار يرجع إلى الخلف / بيّاع مصر يصيبنا بالنكد على بحيرة جنيف