هل التوحد الاجتماعي (Social Autistic Disorder (SAD نمطٌ جديدٌ من التوحد؟!
القارئ الكريم:
إن الدافع لكتابة هذه المقالة ليس كلياً يمثل ردة فعلٍ لموقفٍ تعرّضت له شخصياً، بل هو جزئيٌ وهذا الموقف الشخصي كان كمحرّض لكتابة هذه المقالة، فلابد للمشاعر والأفكار أن تتولد في ظلال ظروفٍ سلبيةٍ يمر بها الكاتب ثم يسطّرها على الورق منطلقاً من نظرة عمومية تحليلية توصيفيه لحالة عامة. والحالة العامة هنا هي حالة التوحد أو التفرّد أو الإنطواء لإنسان القرن 21..
ولست أقصد من تلك المقالة أن أشرح عن مرض التوحد أو الذاتوية Autism والذي أعايشه وأشخصه وأعالجه كطبيب نفسي، وهي حالة طبية نفسية تظهر في سنوات الطفولة الأولى يكون فيها الطفل غير قادرٍ على التواصل والتفاعل مع من حوله بالشكل الطبيعي.
الحالة هنا تتشابه من حيث المبدأ وتختلف من حيث المقصد، فهي حالة الوحدة وحب الوحدة والتفرّد والركون إلى العزلة عن المجتمع المحيط لإنسان القرن 21 وهو قادرٌ من ناحية بيولوجية وليس نفسية اجتماعية على التفاعل الاجتماعي، وما يرافقها من عدم التأثر والتعاطف والمشاركة لمناسبات وملمات أخيه الإنسان. وسأركّز حديثي حول مسلم القرن 21، لما للإسلام من دعوةٍ صريحةٍ للتجمع والتعاطف والتراحم ونبذ التفرّد.
قال تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) سورة الحجرات، وقال أيضاً عز من قائل واصفاً خير الأمم ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) سورة الحجرات. وقال رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم ((المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً)). وشَبَّكَ بين أصابعه. أخرجه البخاري ومسلم.
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم واصفاً أفراد المجتمع الإسلامي كأعضاءٍ في جسدٍ واحدٍ ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)). أخرجه البخاري ومسلم.
لكن ما حال هذا الجسد في أيامنا هذه؟! وهل نشعر كأفرادٍ في هذا المجتمع بهذا التداعي حين يشتكي أحدنا؟! وهل نحن كبشر أو كمسلمين بالأخص مصابون حقـــاً بالتوحد؟!
ولكي أجيب أو تجيب أيها القارئ الكريم على هذه تساؤلات وتعي معنى توحد الإنسان في القرن 21، تذكر (أو تخيّل) نفسك مرةً حين وقعت في مصيبةٍ أو مأزقٍ، وحاولت أن تستنهض همم من حولك من الأقارب والأصدقاء وغيرهم من المسلمين خاصة، لوجدت أن القليل منهم ممن يمد لك يد العون حتى ولو بالقليل من الدعم المعنوي. أما أكثر من حولك ممن تفترض مشاركتهم لمناسبتك وتقديمهم للدعم المادي والمعنوي لك، فيقابلك بالفتور والنفور والعبارات الباردة، من أمثال:
- (آه لقد نسيت، سامحني): يعني أنه غير مهتم، فلو كان مهتماً لما نسي.
- (كلنا مررنا بما مررت به فاصبر): يعني دبّر راسك لحالك، وخاصة إن لم يتبعها بتقديم ما يفيدك في مناسبتك وأزمتك.
- أو يقول لك (بيلزمك أي شي)، طبعا بيلزمني ألف شي مو شي: يعني ما بحسن قدم لك أي شي، وخاصة لما تتجرأ وتطلب منه ثم يقابلك بالرفض وبأساليب الرفض المتنوعة أو ما يُدعى فن الرفض المؤدب polite refuse أو الـ (لا) اللطيفة، ويُتبع كلامه بالحديث حول كم هو مشغول وكم في هذه الدنيا من مشاغل!!.
إلى آخره من العبارات الباردة والمواقف السلبية التي تدلل على توحد أفرادها وتفرّدهم، والأشد من ذلك كله هو اللجوء إلى معونتك عبر الكذب بالمشاعر والتلاعب بها و تقديم الوعود الفارغة، ومن ثم التهرّب حين طلب تحقيق تلك الوعود...
إن هذا الجسد الذي تحدّث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـقوله ((إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى))، تجده الآن في القرن 21 -للأسف- جسداً مخدّراً بارداً غائباً عن شكاوي باقي أعضائه، تجده إذا اشتكى منه عضوٌ تنائى وتباعد عنه معظم أعضائه، وأقول معظم وليس كل أعضائه لأن الخير لا يزال في أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم باقٍ إلى يوم القيامة...
نعم إني أشخصها حالة توحدٍ عن المجتمع اُبتليت بها الإنسانية وتسرّبت إلى أمة الجُمع والجماعات مع سريان الحضارة الحديثة المادية والعولمة، وضغوطات هذه الحضارة وكثرة ملاهيها ومغرياتها، إنك لتجد كل عضوٍ فيها يتألم ويحتاج من يساعده ولا يجد تلك الهمّة والهبّة الواحدة الجماعية لإنقاذه، ولا تجد هذا في مصائبك وحسب بل وأفراحك وكل ما يلمُّ بك..
فهل توحد إنسان القرن الحالي كمرض التوحد الطبي النفسي؟!!
لنقارن من حيث الأعراض:
التوحد كاضطراب طبي نفسي يتميز التوحد حسب التصنيفات الطب نفسية بالثالوث التالي: | التوحد كمرض اجتماعي |
خلل في التفاعل الاجتماعي، كغياب التواصل البصري عين لعين | - ضعف الشعور بالتعاطف والتراحم فيما بيننا ، أو وجود حالة تعاطف ولكنها باردة لفظية غير عملية لا تقدم المنفعة. - ضعف الهبة الجماعية أمام ملمات الأفراد. - ضعف المشاركة الفاعلة بالمناسبات الفردية والاكتفاء بالمشاركات المنفعلة، تجد المسلمين يلبون الدعوات لعرس أو مأتم أو ما شابه ولكنه يتناسون ما يتكبده صاحب هذه المناسبة من العناء والجهد والمال، يشاركون ولكن بشكل منفعل غير مفيد. - الركون في تقديم الدعم لبعضنا على الدعاء وحسب، دون القيام بتقديم دعم مادي يدلل على صدق النية والدعوة، وحتى أن الدعاء لبعضنا ولإخواننا المحاصرين في العراق وفلسطين وغيرها من بلاد الإسلام تجدنا مقصرين فيه. |
خلل في التواصل اللفظي وغير اللفظي كتأخر الكلام أو عدم القدرة على الكلام، وعدم القدرة على إيصال الأفكار والطلب عبر وسائل التواصل غير اللفظية كحركات الجسد | اللجوء إلى وسائل تواصل وتفاعل عن بعد، كالشات أو موقع الفيس بوك والهاتف والرسائل القصيرة. وتجنب وسائل التواصل المباشرة كالزيارة إلا في المناسبات الخاصة |
خلل في السلوك؛ كالميل إلى السلوكيات النمطية الرتيبة التي لا هدف لها | تفضيل النشاطات والسلوكيات الفردية وانتشارها فيما بين الناس، كالانترنيت والألعاب الإلكترونية ومشاهدة القنوات الفضائية. وتجنب السلوكيات الجماعية |
هل التوحد الاجتماعي ضمن طيف التوحد !! تساؤل يقتضي التفكّر:
من الملاحظ أن الاضطرابات والأمراض الطبية وخاصةً النفسية يكون لها ملامح منتشرة بين عموم الناس ولكنها لا تحقق معيار المدة والاستمرار ومعيار الشدة وعدد الأعراض لتسمى مرضاً أو اضطراباً، ولكنك تجدها تأتي عابرة أو بسيطة، ولنأخذ مثال اضطراب الاكتئاب الكبير Major Depressive Disorder ؛
فكل الناس تمر بحالة اكتئابية ولكنها تختلف عن بعضها من حيث شدتها واستمرارها، يبدأ من الشعور العابر بالحزن لفترة أيام وغالبا ما يكون مبرر بحدثٍ ما، ثم الشخصية التي تميل للحزن والتشاؤم ولكن لا تعيق الفرد عن حياته، ثم الشعور العميق بالحزن والكآبة المعيق عن قيام الفرد بواجباته. فمن ناحية تشخيصية يوجد طيف للاكتئاب -إن صح التعبير- عند البشر:
ارتكاس الحزن الطبيعي ¬ اضطراب الشخصية الاكتئابية ¬ عسر المزاج ¬ اضطراب الاكتئاب الكبير الخفيف الدرجة ثم المتوسط ثم الشديد أو السوداوية.
وإذا طبقنا هذا على اضطراب التوحد الطبي، يصبح طيف التوحد عند البشر على الشكل التالي:
التفرد والتوحد الطبيعي كارتكاس ¬ التوحد كمرض اجتماعي ¬ سمات الانعزالية كاضطراب في الشخصية ¬ طيف التوحد الطبي Autistic Spectrum Disorder.
كما يتضح في الشكل.
كلمة أخيرة:
لست أقصد من هذه المقالة اختراع المصطلح وصرف انتباه القارئ الفاضل (المختص وغير المختص) عن تلك الحالة الاجتماعية المؤسفة.
فهذه الحالة من عوامل الضعف التي لا بد فيها من تدخل الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين وأصحاب المنابر لتسليط الضوء عليها ووضع الحلول لها.. وأظن أن توحد أفراد هذه الأمة ليس كمرض التوحد الطبي النفسي من حيث ضبابية أسبابه والعجز عن علاجه، بل بالإمكان تفعيل جوانب القوّة في هذه الأمة وإخماد عوامل التوحد ومنابعه الآتية -في نظري- عبر الحضارة الحديثة ووسائل التقنية..
أم أنَّ للقارئ الفاضل عبر تجربته الحياتية رأيُ آخر في تشخيصي لهذه الحالة؟!
واقرأ أيضاً للكاتب:
اليوم أعـز أصدقائي / أما أنت يا رمضان فوداعاً / رسالة من مُتَحَرِّش!!