كانت الساعة حوالي التاسعة صباحا وأنا أجلس على منضدة لأتناول الإفطار في مطعم فندق "جراند أوتيل كيمبينسكي" المطل على بحيرة جنيف، والمشهد من فرط جماله وصفائه لا أستطيع وصفه بلغتي المصرية التي افتقدت الحس الجمالي منذ سنوات بعد أن طغى القبح على الشوارع المزدحمة المحشوة بالقمامة والنفوس الضيقة المشحونة بالزهق والغضب، وسماء القاهرة المختنقة بالسحابة السوداء والتي ظننا أنها من دخان قش الأرز ولكن يبدو أنه –كما قال لي أحد الخبراء غير المتخصصين– أنها من دخان الفساد.
ها أنذا تعاودني أعراض مصريتي وأنا الذي ذهبت لأقضي فترة نقاهة من تلك الحالة المصرية المستعصية التي لا أستطيع الفكاك منها رغم نصح الأطباء لي بأن ألتزم بيتي وعيادتي ومستشفاي وجامعتي وأن أكف عن الاهتمامات العامة المثيرة للحزن والغضب والضيق والزهق خاصة وأنه لا يبدو أن لها نهاية قريبة حيث تعقدت أسبابها وتداخلت بشكل خطير وتورط الجميع فيها بلا استثناء، وهنا حاولت أن أستبعد تلك الأفكار وأغسل همومي في تلك البحيرة الهادئة الصافية وأستمتع بالجو الهادئ النظيف ولو لعدة أيام أستعيد فيها لياقتي النفسية وإحساس الجمال بداخلي لكي أواصل رحلة الكفاح المضنية في بلدي بعد ذلك، ونجحت فعلا في تحقيق الهدف للحظات عشت فيها حالة تأمل لذيذة، لم يخرجني منها إلا صوت خشن يطلب من الجرسون إحضار بعض الأشياء فنظرت نحوه فإذا وجهه "من النوع المألوف"
ورغم ذلك شعرت بعدم ارتياح لقسمات ذلك الوجه وكأنها ارتبطت في وعيي بذكريات أو أحداث غير سارة لذلك ركزت بصري نحوه فإذا هو رئيس وزراء مصري سابق اشتهر بأنه "بيّاع مصر" حيث باع في فترة توليه رئاسة الوزارة أغلب أصول القطاع العام، باعها بثمن بخس وكأننا فيها من الزاهدين، وشاب عمليات البيع فساد هائل يعلو فوق وصف الشبهات بكثير، فقد كانت الشركة يتم تجفيف منابعها وإيقاف حركتها لتصنف على أنها خاسرة وعند هذه النقطة يتم بيعها بإجراءات وهمية لأصحاب الحظوة بأقل من عشر ثمنها، وتكرر هذا حتى أصبح عرفا لا يثير التساؤل أو الاستغراب.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل إنه سهّل ووافق ووقع على بيع مساحات واسعة من أرض مصر لأشخاص لهم شراكات إسرائيلية وفي أماكن حساسة وكان أشهرها تلك الأرض التي باعها في طابا، والتي تم إيقاف تسليمها نظرا لخطورة موقعها وأهميتها الاستراتيجية، وتكبدت مصر غرامة دولية بحكم محكمة وصلت إلى 750 مليون دولار ندفعها نحن المصريون من ميزانيتنا المرهقة بلا ذنب جنيناه .
إذن فقد عاودتني الحالة المصرية المستعصية مرة أخرى ولا فكاك منها هذه المرة فرئيس الوزراء السابق بكل ما يحمله من ارتباطات سلبية يجلس أمامي على بعد خطوات قليلة وهو يحجب عني رؤية البحيرة الساحرة، ويحجب عني نسمة الهواء الرقيقة القادمة من ناحيتها، ويحجب عني صفاء الذهن ونقاء الروح وراحة البال. رباه أي ذنب فعلته حتى يأتي هذا الشخص في هذا التوقيت وهذا المكان؟؟!!...
ألا يكفيه أن أصابنا بالنكد سنوات طويلة قبع فيها على صدورنا وتدهورت به (وبغيره) أحوالنا، وبيعت به (وبغيره) أرضنا وشركاتنا، وكان بعد كل صفقة بيع يظهر في وسائل الإعلام بابتسامة بلهاء مستفزة اشتهر بها، ويتحدث عن مصر وعن اقتصادها وكأنها حققت المعجزات في عصره وأصبحت من الدول العظمى اقتصاديا. كانت لديّ رغبة أن أتحدث إليه، أن أسأله عن أشياء كثيرة، وأن أعاتبه وأحاسبه، ولكنني احترمت خصوصيته في هذا المكان، فهو الآن ليس في موقع سلطة وإن كان يرأس بنكا يتقاضى عن رئاسته ملايين الدولارات في مصر التي شارك في إفقارها.
وقضيت بقية اليوم في رحلة استثنائية إلى منطقة "مونت بلاو" (الجبل الأبيض) حيث عبرنا الحدود بين سويسرا وفرنسا بلا أية إجراءات تذكر وكأنك تنتقل من ميت غمر إلى كفر شكر (مع الفارق أو اللافارق)، ولم نجد فرقا بين الأراضي السويسرية وتلك الفرنسية فالنظافة والجمال هما سيدا الموقف، والأرض إما مرصوفة أو مخضرة، والزهور تطل من الشرفات وعلى أعمدة الإنارة وفي الشوارع، والجبال تشكل لوحات فنية أبدعها الخالق وحافظ عليها المخلوقين، والسماء صافية والنسمة رقراقة (لاحظ أننا في شهر يوليو) والمياه تتدفق من أعلى الجبال لتصنع أنهارا نظيفة، والنظام في الشوارع وعلى الطرقات يجعلك تشعر بالراحة والأمان والطمأنينة.
وكنا –رفاق الرحلة- نتساءل: لماذا لا نسمع أصوات كلاكسات؟
لماذا لا نرى عسكري مرور في الشارع ومع هذا كل شيء منضبط؟؟
أين عربات الأمن المركزي؟؟
أين الميكروباصات التي تجوب الشوارع منادية على أرض اللواء ورمسيس ومدينة السلام والعاشر؟؟
أين الشتائم والسباب؟؟
أين أطفال الشوارع؟
أين المتسولين والباعة الجائلين؟
أين رائحة النشادر والفضلات الآدمية والحيوانية تحت الكباري؟
أين اختناقات المرور؟
أين الفهلوة ولاعبي التلات ورقات؟
أين المطبات في الشوارع، بل أين الإسفلت؟
أين غش الامتحانات؟
أين تزوير الانتخابات؟
أين التصريحات الكاذبة؟
أين الأحزاب الورقية؟
أين الرجال المستأنثين؟
أين الكتّاب المستأجرين؟
أين الخشونة والعنف وحوادث القتل؟
أين العاطلين؟ أين المعدمين؟
أين العشوائيات؟
أين الطعام الفاسد؟
أين القمح المسرطن؟
أين الماء الملوث؟
أين المرتشين؟
أين المستبدين؟
أين القابعين على الصدور؟
أين التحرشات؟؟
ألا توجد فتيات جميلات في سويسرا وفرنسا يثرن الرغبة في التحرش؟؟
أين المتحدثين في الموبايلات ليل نهار؟؟
أين الصخب الصادر من المقاهي وأغاني شعبولا وسعد الصغير وعصام بعرور وشفيقة؟ أشعر بغربة شديدة ها هنا!!.
ولقد كنت في باريس قبل هذا اليوم بعشرة أيام وشاهدت تجمعات شبابية ضخمة في ساحة برج إيفل وعرفت أن شباب أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص جاءوا ليعبروا عن مشاعرهم تجاه وفاة مايكل جاكسون، وكانوا يشكلون حلقات غنائية راقصة على تسجيلات لمايكل جاكسون، ورحت أراقب سلوكهم في هذا التجمع الهائل وفي خلفية تفكيري حوادث التحرش الجماعية التي حدثت في القاهرة في شارع طلعت حرب وشارع الجامعة العربية ومصيف رأس البر، وتوقعت أن أرى كما هائلا من المعاكسات والتحرشات الفردية والجماعية، ولكن ذلك لم يحدث، وتم الاحتفال وانفض في سلام عجيب رغم وسامة وفتوة الشباب وجمال الفتيات الصارخ!!....
وفي نفس ذلك اليوم الباريسي كنت أتمشى وحيدا على شاطئ نهر السين فجاءني صوت أخي وصديقي الحبيب الأستاذ إبراهيم عيسى، وشعرت وقتها بسعادة بالغة وأنا أسمع هذا الصوت المصري الجميل الأصيل الشريف، وأحسست أن نهر السين يتحول إلى نهر النيل، وكأني ببائعي الذرة والترمس الطيبين ينتشرون على ضفتيه، وكأن بائعي الفل يجوبون الشاطئ بحثا عن عشّاق الجمال، وكأن كلمات إبراهيم عيسى تزيل التلوث من مياه النيل وتزرع الخير والحق والعدل والجمال على ضفتيه، فشكرته ممتنا على تلك المصادفة التي أتمت علي سعادتي؛
وتداعت في خيالي صورة حمدي قنديل ويوسف القرضاوي وعبدالوهاب المسيري وأحمد ياسين وإسماعيل هنية ووائل الإبراشي وعبد المنعم أبو الفتوح ومجدي حسين وإبراهيم شكري وعصام العريان وفهمي هويدي ومحمد عماره وسليم العوا وبثينه كامل ومنى الشاذلي وطارق البشري وأحمد عكاشة ومحمد شعلان ويحيى الرخاوي وشوقي العقباوي وعادل المدني ومحمود حموده وأحمد زويل ونجيب محفوظ والشيخ الغزالي وعمرو خالد، وعلي جمعه ومحمد أبو تريكه و..... و....... و...... وغيرهم كثير صنعوا العلم والخلق وأظهروا الحق والجمال وما يزالون، وكانت تلاحق صورهم في خيالي الآية الكريمة: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون".
وفي مساء ذلك اليوم الذي تصبحت فيه بوجه "بيّاع مصر" جلسنا مجموعة من الأصدقاء المصريين في شرفة مطلة على بحيرة جنيف بعد تناول العشاء، وذكر أحد الحاضرين أنه رأى "البيّاع" في المطعم صباحا وكاد أن يحييه أو يسلم عليه ولكنه تردد، وبدأ كل شخص من الحاضرين يستدعي من ذاكرته أحداث فساد حدثت في عصر "البيّاع" أو كان هو طرفا فيها، واستمر الحديث لأكثر من ساعتين وذكريات الفساد تتداعى لمجرد رؤية هذا الرجل، وبدا واضحا أن ذاكرة المصريين محشوة عن آخرها بتلك الذكريات السوداء، وهذا الحشو لا يدفع أحدا للتغيير بل يجعلنا نتحسر على أحوالنا ويصيبنا بحالة من الحزن والنكد والكمد، بل ويعطي شعورا للكثيرين بأن الفساد هو القاعدة السائدة في المجتمع فيدفع إلى الجرأة نحو مزيد من الفساد. وشعرت بأسى شديد أن تكون مشاعرنا نحو مسئولينا بهذا الشكل، ولست أدري أهم المسئولين عن ذلك بما فعلوه فينا وبنا؟ أم نحن المسئولين أن تركناهم يفعلون ما يشاءون ثم اكتفينا بالغضب منهم وعليهم وإطلاق النكات الجارحة ضدهم؟. ومن النكات التي انتشرت في عهد "البيّاع" نكنة تقول: طلب أحد المسئولين منه شراء شقة لأحد ولديه في الإسكندرية وشقة أخرى لولده الآخر في أسوان ثم طلب منه أن يفتح الشقتين على بعضهما.
وتساءل أحد الحاضرين: أتدرون لماذا يأتي "البيّاع" إلى هنا؟.. فرد آخر مستنكرا السؤال: وكيف لا يأتي إلى هنا، ومن ذا الذي يرعى أمواله في بنوك سويسرا غيره؟
بل ربما جاء لتسهيل صفقات بيع أخرى يقوم فيها بدور السمسار بعد أن ترك الوزارة؟
وانتقل الحديث إلى الشخصية المصرية وما أصابها من خلل ساهم في استمرار وقائع الفساد وزيادة وتيرة العنف المجتمعي، وانهيار التعليم، وتلوث الأخلاق، وانحدار القيم، و..... و...... و .......، ودارت رأسي من كثرة ما سمعت من أشياء لا تسر، وأحسست بضيق شديد ومرارة في حلقي (عاودتني الحالة المصرية مرة أخرى) فاستأذنت للانصراف حتى لا يصيبني الغم أكثر من ذلك خاصة في هذا المكان الساحر الذي كان يفترض أن نسعد بوجودنا فيه. وفي طريقي إلى غرفتي طاردتني صور مسئولين آخرين أضروا كثيرا بمصر والمصريين، وكانت تلاحق هذه الصور في ذهني الآية الكريمة: "ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين".
واقرأ أيضا:
لو لم أكن مصريا... لحمدت الله على ذلك / انتبه من فضلك: الجرّار يرجع إلى الخلف / الساحر تأملات في شخصية باراك أوباما2 / خلل في الأنا الأعلى للصحافة والحياة المصرية