"يبدو أن مصر لم تعد أم الدنيا كما سمعنا عنها، ويبدو أن المصريون لم يعودوا مصدراً للفخر كما كانوا يرددون في أغانيهم الوطنية، ويبدو أن البيئة المصرية لم تعد حاضنة لأبنائها كما كانت في القديم وإلا لما هجروها ورموا بأنفسهم في قوارب تغرق بهم على شواطئ تركيا وإيطاليا وفرنسا بحثاً عن وطن بديل، ويبدو أن مصر لم تعد مستقراً لحلم شبابها فراحوا يحلمون بمستقبلهم في أي أرض إلا أرضها، ويبدو أن هذا الكلام مؤلم لمن يكتبه أو يقرؤه ولكنه ألم الحقيقة التي يجب أن نواجهها لنستيقظ من غفوتنا ونصلح ما اعوج من أحوالنا".
كانت هذه الكلمات جزءاً من خطاب أرسله لي أحد الأصدقاء بعد زيارة قصيرة لمصر قرر بعدها أن يعود لمهجره ويتخلى عن فكرة طالما راودته وهي أن يموت بين أهله ويدفن في تراب وطنه.
وليس ثمة شك في أنه قد حدث تجريف للشخصية المصرية في الخمسين سنة الأخيرة بسبب عوامل التعرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبسبب تسميم وإجهاد التربة المصرية حتى لم تعد قادرة على احتواء البذور ورعاية البشر كما كانت. كل هذا يجري والنخبة مشغولة بتثبيت كراسيها وتمديد مصالحها وتوريث مكاسبها وتصفية منافسيها، وكأن الشعب أصبح يتيماً لا يفكر فيه أحد ولا يرعاه أحد، فتدهورت أحواله وتضعضعت بنيته النفسية والاجتماعية فراح يأكل بعضه بعضاً كما تنبأ نجيب محفوظ في أحد أحلام فترة نقاهته.
مجتمع غير آمن
ذهبت ومعي بعض أفراد الأسرة إلى الإسكندرية لقضاء ثاني أيام عيد الفطر هذا العام (2009 م)، وتوجهنا لتناول الغذاء في أحد مطاعم السمك الشهيرة على الكورنيش، ونظراً لامتلاء مواقف السيارات المخصصة للمطعم اضطررنا أن نترك السيارة في أحد الشوارع ونتوجه على الأقدام إلى حيث المطعم المقصود، وفي هذه المسافة بدأنا نشعر بوطأة الشارع وخطورته في هذا اليوم حيث كانت توجد تجمعات من شباب ومراهقين أقرب ما يكونون إلى اضطراب السلوك بمعناه الطبنفسي؛
فهم مندفعون في تحركاتهم يتبادلون أقذر الألفاظ والإيماءات والحركات، ويمارسون عنفاً بينيّاً واضحاً، ولا تنجو فتاة تمرّ قريباً منهم من معاكسة أو تحرش أو عدوان. ثم شيئاً فشيئاً بدأت التجمعات تزيد، وبدأت تظهر صراعات بين المجموعات تفضي إلى مشاجرات تظهر فيها المطاوي والسنج والسيوف، وهنا توقفنا مشدوهين من المشهد حيث مجموعات تجري هنا وهناك تلاحق بعضها، وصراخ هنا وسبّ هناك والكل يضرب الكل بلا تمييز، ونحن ننتظر أن يظهر رجال الأمن المعلنون أو السريون لكي يستعيدوا الأمن والنظام على كورنيش الإسكندرية -الذي كان يوماً ما هادئاً وراقياً وجميلاً- ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث!.
وتكرر هذا المشهد في مدن أخرى حسب رواية بعض الأصدقاء والأقارب وكثير من الصحف؛ حيث سجلت حوالي 370 حالة تحرش في القاهرة في أحد أيام العيد -فما بالك بما لم يسجل وهو الأكثر- إضافة إلى حالات عنف ومشاجرات كثيرة، وإذا أضفت إلى هذه الصورة صوراً أخرى من البلطجة في الشوارع ووسائل المواصلات وحوادث التحرش في كل مكان -أصبح من النادر أن تنجو فتاة من حادث تحرش أو أكثر كل أسبوع- ومصر هي الأولى في معدلات التحرش في العالم، إضافة إلى وضع اليد على أراضي الغير ومساكنهم بالقوة لحين دفع الإتاوة للبلطجية، واستعانة كثير من الناس بالبلطجية لحل المشاكل وللدفاع عن ممتلكاتهم، كل هذا يجعلنا نتيقن أن الشارع المصري لم يعد آمناَ.
وإذا أضفنا إلى ذلك كثرة حوادث القتل داخل البيوت وبين أفراد العائلة بعضهم بعضاً لأيقنا أن المجتمع المصري لم يعد آمناً! وقد تتعرض لمن يعتدي عليك في أي شارع فتنظر يميناً أو يساراً لعلك تجد من ينقذك من هذا التعدي من رجال الشرطة فلا تجد، فالشرطة لم تعد تراها إلا داخل الأقسام وفي كمائن المرور التي تخنق الشوارع والطرق السريعة، بينما المخالفات المرورية الصارخة تملأ الشوارع والطرق بشكل كارثي ولا يرصدها أحد لأن الكمين واقف مكانه لا يتحرك!.
ولو حدثت مشاجرة بين شخصين أو أكثر أو بين عائلتين أو طائفتين فإن الشرطة لن تصل إلا بعد انتهاء الأمر، أو تنتظر ليذهب إليها الشاكون أو تذهب لعمل المحاضر وأخذ الأقوال من الجرحى في المستشفيات. ولو كان لك حق فسيكون من الصعب جداً الوصول إليه بطريق القانون، حيث الطريق طويل والنتائج غير مؤكدة.
هذا الوضع المؤلم والغريب يشكل انتهاكاً غير مباشر وربما غير مقصود لحقوق الإنسان، ويضعنا أمام تساؤلات مهمة: ماذا جرى للإنسان المصري، وإلى أين يتجه؟ وكيف السبيل إلى إعادة تأهيله أو ترميمه أو بنائه؟.
هل الإنسان المصري آيل للسقوط؟.. أم سقط فعلاً؟
والإجابة تتوقف على تعريفنا لنقطة السقوط؛ فهل السقوط يعني تحوله إلى كائن غير متحضر لا يحترم القانون ولا يحترم الأخلاقيات العامة ويأخذ حقه -كما يتخيله هو- بيده ويفتقد للضمير السليم الذي يوجه سلوكه؟ أم أن السقوط يعني تحوله إلى وحش كاسر يقتل لأتفه الأسباب؟ أم يعني السقوط انهيار المجتمع بالكامل وتحوله إلى غابة؟.
لقد كانت إرهاصات السقوط واضحة للعيان منذ سنوات، وهذا ما دفع أستاذنا الكبير الدكتور أحمد عكاشة لوضع كتاب "ثقوب في الضمير" وتبعه الدكتور جلال أمين بكتاب "ماذا حدث للمصريين؟" وواكب ذلك كتاب الدكتورة عزة عزت "التحولات في الشخصية المصرية" وكتاب العبد لله كاتب هذه السطور "الشخصية المصرية"، وكتاب الأستاذ رجب البنا "المصريون في المرآة"، وكتاب الأخ الزميل خليل فاضل "أوجاع المصريين"؛
وكل هؤلاء الذين كتبوا عن آفات ومشكلات وتشوهات الشخصية المصرية هم من المتخصصين وكان ينبغي أن يؤخذ كلامهم على محمل الجد وأن تبذل جهود حقيقية لدراسة المشكلات والأسباب وطرق العلاج، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث! بل ما حدث هو مزيد من التدهور في الشخصية المصرية وفي الشارع المصري وفي البيت المصري، ويصاحب هذا التدهور عمليات تجميل كاذبة يروج لها سياسيون أو إعلاميون -غير متخصصين في تشخيص الاضطرابات النفسية والاجتماعية، وإنما مدفوعين بأجندات معينة- حيث يرددون ليل نهار أن الإنسان المصري بخير وأنه أذكى إنسان وأطيب إنسان على وجه الأرض، وأنه أكثرهم مرحاً وتديناً وحباً للاستقرار وللوطن! وهؤلاء لا يخدعون غير أنفسهم، لكنهم يمارسون تضليلاً يؤخر محاولات العلاج ويجعل المرض يتفاقم، وبعضهم قد يكون حسن النية أو مدفوعاً بعاطفة وطنية جارفة تجعله يتنكر لأعراض المرض الظاهرة للجميع.
أسباب تدهور الشخصية المصرية
لسنا الآن في معرض الحديث عن الأسباب تفصيلاً فقد فصلناها في مواضع أخرى كثيرة يستطيع القارئ أن يرجع إليها في المؤلفات المذكورة، لكننا فقط نجملها حتى نستطيع متابعة الحديث عن إعادة التأهيل انطلاقاً من قاعدة واضحة:
1 – الفرعونية السياسية ذات الجذور الممتدة في التاريخ المصري، وأترك لجمال حمدان الحديث عنها في كتابه العظيم "شخصية مصر" حيث يقول: "ومصر التي كانت وما زالت هي حاكمها لن تتطور وتصبح شعباً حراً إلى أن تصبح هي شعبها لا حاكمها، وإلى أن تصبح ملكاً لشعبها راقياً عزيزاً أبيّاً في دولة حقيقية متقدمة ومتطورة، إلا إذا صار الشعب هو الحاكم والحاكم هو المحكوم في كلمة واحدة. لن تتغير مصر في جوهرها الدفين، ولا مستقبل لمصر إلا حين يتم دفن آخر بقايا الفرعونية السياسية والطغيان الفرعوني" ويقول أيضاً:
"من المركزية إلى الطغيان، فلا جدال أن الدولة المركزية، والمركزية العارمة ملمح ملحّ وظاهرة جوهرية في شخصية مصر. فبقوة المركزية الجغرافية فرضت المركزية السياسية والإدارية نفسها فرضاً في شكل حكومة طاغية الدور فائقة الخطر، وبيروقراطية متضخمة وعاصمة كبرى منذ الفرعونية وحتى اليوم، ومنذئذ وإلى الآن كقاعدة أيضاً.. أصبحت المركزية والحكومة والبيروقراطية والعاصمة أطرافاً أربعة و مترادفة لمشكلة واحدة مزمنة".
2 – ثورة يوليو؛ والتي كانت لها بعض الحسنات من حيث التحرر من الاستعمار، ولكنها قلبت النظام السياسي الحزبي رأساً على عقب، وثبتت قواعد الدكتاتورية والاستبداد، وقلبت الهرم الاجتماعي، وعسكرت الحياة المدنية، وأرست الكثير من القيم السلبية التي أسست قاعدة واسعة للفساد، وأسندت الأمر إلى أهل الثقة لا أهل الخبرة، وأحدثت شروخاً وتشوهات يعاني منها المجتمع حتى اليوم.
3 – نكسة يونيو 1967 وما تبعها من انكسار وطني ونفسي واجتماعي.
4 – الانفتاح الاقتصادي المنفلت وما تبعه من قيم انتهازية واستهلاكية.
5 – السفر إلى بلاد النفط والتأثر بالنماذج الثقافية والدينية والأنماط الاستهلاكية السائدة في تلك المجتمعات.
6 – قانون الطوارئ القابع فوق الصدور منذ ثمانية وعشرون عاماً.
إعادة تأهيل أم ترميم أم بناء؟
عادة ما تستخدم كلمة "إعادة تأهيل" في المواقف العلاجية الطبية حين تكون هناك إعاقة تركت أثراً واضحاً ونحاول أن نعود بوظيفة الكائن إلى أقرب نقطة من الصحة، وأعتقد أن هذا هدف متواضع وواقعي.
أما كلمة ترميم فربما تشير إلى عمليات قص ولصق، أو عملية رتق أو لحام أو أي تغييرات أو تعديلات جزئية، وهذا أمر قد لا يفيد نظراً لعمق التدهور الذي حدث على مدار سنين طويلة.
أما كلمة بناء فهي كلمة طموحة ورائعة لأنها تعني التجديد والإبداع، ولكنها قد تشكل سقفاً عالياً يصعب الوصول إليه في هذه المرحلة، وربما يكون البناء في الجيل الجديد، أي أننا نتوجه نحو إعادة التأهيل للجيل الحالي الذي أصابته الإعاقة لنحصل منه على أفضل ما يمكن الوصول إليه ثم نتوجه بالبناء في الجيل الناشئ الذي لم يتشوه بعد.
ولفظ إعادة التأهيل يستخدمه -للأسف- المجتمع الدولي حين يتحدث عن منطقة الشرق الأوسط تحديداً، فأمراضنا السياسية والاجتماعية تعطي صورة المجتمعات المعاقة أو المريضة أو في أحسن الأحوال "التي تمر بفترة نقاهة" وتحتاج لتأهيل! والمجتمع الدولي يفكر جدّياً في وسائل لتأهيلنا، ليس حباً فينا أو خوفاً علينا بل تجنباً للشرور التي تلحق به لو أن أمراضنا استمرت كما هي، فهنا يتسلل شبابنا إلى المجتمعات الغربية هرباً من البيئة الطاردة في بلادنا، وهو يذهب إلى هناك ويحمل معه ميراثاً من الاضطراب الخُلُقي والاجتماعي يؤثر به في سلامة أرض المهجر.
إذن فكلمة إعادة التأهيل رغم أن لها ظلالاً غير مريحة إلا أنها الآن ضرورة مرحلية نفعلها نحن بأيدينا حتى لا نغري غيرنا بفعلها بشروطه وبوسائله، فقد أصبحنا في نظرهم مرضى نحتاج للعلاج حتى لا نعدي غيرنا، وإذا لم نتقبل العلاج الاختياري فربما يقومون بفرض العلاج علينا كما يفعل الأطباء النفسيون مع فاقدي البصيرة والتمييز.
يتبع >>>>>>: إعادة تأهيل وبناء الإنسان المصري2
واقرأ أيضا:
خلل في الأنا الأعلى للصحافة والحياة المصرية / صندوق الانتخابات يضبط إيقاع الحياة في تركيا2 / دمعة المحرومين من الحج