كان من تداعيات وباء أنفلونزا الخنازير حرمان عدد كبير من الحج خاصة كبار السن، وذلك بناءا على اعتبار ضعف مناعتهم واحتمالات إصابتهم بشكل يهدد سلامتهم وسلامة غيرهم، وقد صدرت تعليمات من وزارات الصحة في بلدان كثيرة لتنظيم هذا الأمر، ونتج عن ذلك تأثيرات نفسية واجتماعية وروحية لدى الذين حرموا من الحج تستحق المتابعة والاهتمام.
فالحج بالنسبة للمسلم هو رحلة العمر، وهو فرصة التطهر من كل الأدران التي لحقت بالإنسان خلال مشوار حياته، وهو ميلاد جديد، وخاتمة أعمال، واعتذار ووعد وأمل، واشتياق جميل إلى الأرض المقدسة المطهرة التي خطا فوقها رسول البشرية وحبيب الله والناس محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار، وعود إلى تاريخ مضيء تحكيه جبال وأحجار وأشجار تلك الأرض المقدسة، ودخول في منظومة الكون الصحيحة من خلال طواف وسعي ودعاء ووقوف بعرفة ومرور بمزدلفة ومكوث بمنى ورمي للجمرات ونحر وعطاء وإفاضة ووداع، باختصار أشد هي إعادة تكوين وإدراك جديد وبرنامج مختلف تنهض به النفس من سقطاتها وترى النور الإلهي يتجلى فوق المشاعر المقدسة فتستبشر وتتطلع إلى رؤيته الدائمة في جنان الخلد، هي رحلة موجزة ومكثفة بين السماء والأرض بين الدنيا والآخرة بين ظلمة الطين ونورانية الروح.
وكل مؤمن صادق يشعر بحنين هائل إلى زيارة الأراضي المقدسة، حنين ربما يعرف بعض سره ولكنه يجهل أغلب أسراره، حنين مودع في القلوب بأمر خالقها استجابة لدعوة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام "واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم"، فالأفئدة منساقة محبة وشغوفة ومتعلقة بهذه الأرض الطيبة، يملؤها جلال البيت الحرام بمكة وجمال الحضرة النبوية في المدينة المنورة.
وتزداد تلك المشاعر الفياضة لدى أولئك الذين عقدوا النية على الذهاب وادخروا أموالهم على مدى السنين استعدادا لهذه الرحلة التي طالما حلموا بها، فإذا تصورنا أن شيئا ما حال بينهم وبين أداء هذه الفريضة كبعض الأحداث الطارئة، فلنا أن نتصور كيف تكون التأثيرات في نفوس من تشوقوا واستعدوا وحلموا برحلة العمر ولحظة الميلاد الجديد وأمل المغفرة مما تقدم من الذنوب وفرحة النظر إلى الكعبة ونورانية الجلوس في الروضة الشريفة بجوار أغلى الأحبة.
والمحرومون هنا هم كبار السن، وهؤلاء الكبار يشعرون أن الفرصة ليست طويلة أمامهم إذ لم يعد في العمر الكثير، ولم تعد لديهم آمال كثيرة في الدنيا ينشغلون بها، فهم مدبرون من الدنيا ومقبلون على الآخرة ويحلمون بالتطهر من الذنوب الماضية قبل فوات الأوان، وهم أكثر تذكر لها بعد هدأة الغرائز وخمود التطلعات وصحوة الندم ويقظة الضمير.
وفيما يلي نستعرض الاستجابات المحتملة والمتوقعة:
1- قد يسلم فريق من هؤلاء المحرومين من الحج بأمر الله وهم يعلمون أن هذا قدره سبحانه، وأن نيتهم واستعدادهم يعطي لهم أجر الحج (وإن كانوا حرموا متعته) ويسألون الله أن يهيء لهم الحج في الأعوام القادمة.
2 - وفريق ثان قد يشعر بالحزن والأسى على الحرمان من فرصة العمر، وقد تستعيد ذاكرته مواقف من حياته حرم فيها من أشياء كان يتطلع إليها بينما كان قاب قوسين أو أدنى منها، وقد يشعر بأنه قليل الحظ في أمور الدنيا وحتى في أمور الآخرة، وهذا الفريق معرض لاجترار مزيد من الأحزان وقد يصاب بالاكتئاب.
3 - وفريق ثالث قد تراوده فكرة أنه حرم من الحج لأنه لا يستحقه بسبب ما ارتكب من خطايا وموبقات في حياته، وكأن الله لم يقبل نيته ولم يتقبل سعيه، ورد له قربانه كما رده لقابيل، وهنا تتزايد مشاعر الذنب وتحقير الذات، وقد يصل الأمر إلى الشعور باليأس والإصابة أيضا بالاكتئاب النفسي.
4 - وفريق رابع قد يشعر بالغضب من التعليمات التي منعته من الحج ويصرخ محتجا في وجه من حرموه ذلك: "لماذا تحرمونني وأنا لا تهمني مسألة الصحة أو المرض فقد تجاوزت هذا الخوف التافه وأنا ذاهب وأتمنى أن ألقى الله على هذه الأرض الطاهرة المطهرة".
5 - وفريق خامس قد تصيبه صدمة فلا يشعر بشيء على الإطلاق، ويعيش حالة من الإنكار وكأن شيئا لم يحدث.
6 - وفريق سادس يعيش شعائر الحج ويزور المشاعر المقدسة في أحلامه وهو نائم وفي خياله وهو مستيقظ، فالحلم والخيال ملكتان نعوض بهما ما فاتنا في الواقع.
7 - وفريق سابع قد يفكر في التحايل على القوانين والنظم والتعليمات ليتمكن من السفر وذلك من خلال بعض الوساطات أو تغيير في بعض الأوراق، وهو يبرر لنفسه أن ذلك جائز له بما أنه ينوي خيرا.
8 - وفريق ثامن يشعر بالخجل من الناس، وقد يشعر بالشماتة ظاهرة على وجوه بعض كارهيه، وكأنهم يرددون: "إنك لا تستحق الحج بما فعلت في حياتك.. وهاهي علامة سوء خاتمتك يضعها القدر على جبينك بما كسبت يداك".
9 - وفريق تاسع يشعر بخيبة الأمل في حرمانه من لقب "الحاج" والذي يعني في بيئته ومجتمعه التفخيم والتعظيم.
تلك هي بعض الاحتمالات المتوقعة للمحرومين من الحج، بعضها برئ محتمل وبعضها غير ذلك، ويأتي واجب المجتمع تجاههم في التخفيف من محنتهم ومساعدتهم لتجاوز الصدمة ونذكر من ذلك:
1 – بيان الحكم الشرعي في ذلك بواسطة علماء دين ثقاة لهم مصداقية عند الناس، مستندين في ذلك إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والذي يقرر أنه إذا نزل الطاعون بأرض فلا يدخلها أحد ولا يخرج منها أحد، وهذا الحديث يشكل قاعدة شرعية للحجر الصحي للتقليل من آثار انتشار الأوبئة، وأن أي تعليمات يصدرها ولاة الأمر في هذا الشأن واجبة الاتباع، وأن من حرم الحج بسبب خارج عن إرادته فإنه يأخذ ثواب الحج (وإن كانت الفريضة لا تسقط طالما ظل حيا مستطيعا). هذه المفاهيم الدينية تصحح من أفكار الناس الذين حرموا الحج وتضع الأمور في نصابها فتنضبط أفكارهم وبالتالي مشاعرهم وسلوكياتهم.
2 – مناقشة الأفكار السلبية التي تدور بأذهان هؤلاء الناس حتى لا يقعوا في هوة الشعور بالذنب وتحقير الذات والاكتئاب خاصة وأن هذا السن لديه قابلية عالية للإصابة بالاكتئاب.
3 – فتح أبواب بديلة لفعل الخيرات كالصدقة والسعي في مصالح الناس ورعاية الفقراء والأيتام مع بيان أن كل أبواب الخير تصب في النهاية عند رضا الله تعالى، وأن الله قد يفرغ الإنسان من شيء ليسخره في شيء آخر.
4 – فتح باب الأمل أمام كل من حرم من الحج هذا العام، فالأمور تتغير والأحوال تتبدل، وما حال دون حجه هذا العام قد يزول في أي وقت، وما عليه إلا أن يحتفظ بالنية الصادقة والجاهزية للذهاب حين تفتح الأبواب.
5 – الدعاء المستمر بالتيسير للحج، إذ لا توجد عقبة أمام دعوة صالحة صادقة مخلصة.
وأخيرا لا ينسى المحرومون من الحج أن الكون كون الله، وأنهم وسائر مخلوقاته جنود له سبحانه يضعهم حيث يشاء وقتما يشاء كيفما يشاء، وأن الخالق العظيم الرحيم وضع قاعدة ذهبية تحمي النفس البشرية من الضعف والزلل والسقوط حين تريد شيئا ويحدث شيء آخر، تلك هي قاعدة: "..... وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة:216).
واقرأ أيضا:
إعادة تأهيل وبناء الإنسان المصري1 / صندوق الانتخابات يضبط إيقاع الحياة في تركيا2 / شوية مصريين ماتوا في حادثة وشويه أصيبوا!