ربما يبدو الأمر غامضا لأول وهلة خاصة وأن الرئيس يميل للكتمان والتحفظ بطبعه، كما أن اللغة غير اللفظية (لغة الجسد) لديه لا تعطي فرصة كبيرة لقراءتها فهي أيضا متحفظة، ومع هذا فإن تسعة وعشرين عاما من حكم الرئيس وقراراته كافية لأن تعطي فرصة لفهم منهجيته في التفكير وتعطي فرصة لتصور رؤيته في الأحداث، وهذا ما سنحاوله الآن بهدف فهم أعمق لقرارات السيد الرئيس ومحاولة توقع ردود أفعاله في المواقف المختلفة.
وأهمية معرفة "كيف يفكر الرئيس" ترتبط بكون المجتمع المصري مجتمعا متمركزا حول الرئيس، وحتى الوزراء والمسئولين الكبار دائما ينسبون خططهم ومشاريعهم إلى توجيهات السيد الرئيس.
وكثيرا ما تستجد مواقف أو تحدث مشكلات أو يمر المجتمع بأزمات، ويتحاور الناس، ويهمسون أو يصرخون، وتتبارى الصحف والمجلات في الكتابة، وتنشط البرامج الحوارية على الفضائيات ولا شيء يتغير في الموضوع، ثم يكتشف الجميع أن الحل يأتي من عند السيد الرئيس في الوقت الذي يراه "هو" وبالطريقة التي يراها "هو" مناسبة، ولهذا ترسخ في أذهان الناس أن السيد الرئيس هو المحرك الرئيسي وربما الوحيد للأحداث، وبناءا عليه يتوجهون إليه مباشرة يتلمسون عنده الحل في كل مشكلة صغيرة أو كبيرة. وقد تضفي هذه الصفة صورة الرئيس الأب لدى المؤيدين بينما تأخذ معنى آخر لدى المعارضين لسيادته.
فالرئيس طيار عسكري محترف تعلم مبدأ أساسي هام وعلمه لتلاميذه الكثيرين حين كان قائدا للكلية الجوية، هذا المبدأ هو السرية في المهمة حتى تكتمل، لأن الطيار إذا أفصح عن مهمته أو وجهته فإنه قد يتعرض لخطر هائل يتمثل في ملاقاة وسائل الدفاع الجوي المعادي له، لذلك يقاس نجاح الطيار بمدى قدرته على كتمان توجهاته حتى اللحظة الأخيرة، وعلى الرغم من انتقال الرئيس للعمل السياسي لسنوات طويلة "جدا" إلا أن هذا المبدأ ما زال حاكما لكل قراراته، فهو ربما يستشير من حوله ويستطلع آراءهم ولكن يظل الأمر يختمر في ذهنه لفترة تطول أو تقصر ولكنه لا يفصح عن ذلك، ولهذا تكثر التكهنات والتساؤلات عما ينويه الرئيس وعما سيصدره من قرارات (والرئيس يرى ذلك ولا يعلق عليه) ثم يصدر القرار في توقيت معين يختاره الرئيس "وحده".
وربما تحدث تمويهات أو يترك الناس يضعوا احتمالات مختلفة دون أن يتدخل أو يؤكد أو ينفي بل يترك الباب مفتوحا لكل الاحتمالات حتى يحتفظ لنفسه بمساحة كافية للحركة واتخاذ القرار الذي يراه "هو" في الوقت المناسب الذي يحدده "هو".
وربما تعود كلمة "هو" إلى طبيعته كطيار، فعلى الرغم من التزام الطيار بمهام محددة تحددها خطة القيادة، إلا أن الطيار كثيرا ما تصادفه ظروف مفاجئة فيضطر إلى أن يعتمد على استقرائه للمجال الذي يتحرك فيه ويتصرف بشكل منفرد في إطار تنفيذ المهمة. وربما يقيس الطيار مدى نجاحه بمدى قدرته على السرية والاحتفاظ بالأمر لآخر لحظة، وعلى العكس تصبح الشفافية في مراحل الإعداد أمرا يعرض المهمة للخطر.
هذا المفتاح المهم لمنهجية التفكير واتخاذ القرارات يجعلنا نفهم الكثير من الأحداث التي مرت والتي حرص السيد الرئيس فيها على الكتمان حتى اللحظة الأخيرة. وإذا طبقنا هذا الأمر على موضوع يشغل الجميع الآن سواءا الموالين أو المعارضين، وهو موضوع خليفة الرئيس، وهل سيكون السيد جمال مبارك خليفته بالتوريث (والذي يمكن تفعيله بأشكال دستورية أو شبه دستورية) أم سيكون شخصا آخر؟.... وطبقا للقاعدة التي ذكرناها آنفا فإنه لا أحد يعلم ما في نية السيد الرئيس (حتى ولا أقرب المقربين منه)، ولكن الأمر محسوم في عقله إلى أن يحدد توقيت تفعيله.
وقد لا يعجب هذا الأمر كثير من المعارضين، على اعتبار أن أمور الدولة الحيوية ليست سرا يحتفظ به الرئيس وحده، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة صحة هذا الأمر من عدمه ولكننا نكتفي بمعرفة منهجية التفكير دون التعليق على آثارها. والاحتمال الأكثر قبولا هو أن السيد الرئيس سيظل بنفسه في قمة السلطة إلى آخر نفس حيث يشعر في قرارة نفسه أن تركه لمنصبه يعرض مصر لمخاطر هائلة، وأنه لا يوجد شخصا مناسبا يخلفه حتى الآن، وكثير من مستشاريه يعتقدون نفس الاعتقاد.
النقطة الثانية في فهم منهجية التفكير نشأت في لحظة اغتيال الرئيس السادات حيث رأى وعايش الرئيس هذه اللحظة بكل تفاصيلها وقد عايش ما سبقها من أحداث وأخطاء حين كان السادات يتبع سياسة الصدمات والمفاجآت والابتكارات والمواجهات وأحيانا الاستفزازات، ومن هنا وعى الرئيس مبارك هذا الدرس، وحرص طوال حكمه أن يبتعد عن هذه الألغام التي انفجرت في الرئيس السادات، وربما وافق هذا شخصية كل من الرئيسين، فالسادات كان يميل للدرامية في الأحداث والدينامية المستمرة في القرارات، والإبداعية العالية في الأفكار، والرؤية التاريخية والإستراتيجية البعيدة، إضافة إلى قدرة هائلة على المغامرة والمناورة يعكسها تاريخه الثوري والسري معاً؛
أما الرئيس مبارك فشخصيته تميل إلى الثبات والاستقرار، والالتزام بالقواعد واللوائح، كما يعكس هذا تاريخه الوظيفي سواءاً العسكري أو السياسي. إذن فمسألة الثبات، والتي تترجم سياسيا بالاستقرار مسألة شديدة الأهمية والمحورية، وهي مرتبطة بالشعور بالأمان، فهو يشعر بالأمان طالما أن الأمر في نطاق الثبات، ويعتبر التغيير المفاجئ أو المتكرر تهديدا للاستقرار، ولهذا نجد درجة عالية من ثبات الأشخاص المحيطين به والمتعاونين معه، ودرجة عالية من الثبات في السياسات، وهو يحافظ على هذا الثبات على الرغم من كل التحديات المحيطة به، وكل العوامل التي تدفع للحركة، ولا نبالغ إذا قلنا بأن المبدأ الأساسي لفترة حكم الرئيس مبارك هو "استمرار الاستقرار، واستقرار الاستمرار".
وهذا الثبات لا يتوقف فقط عند المواقف والقرارات، ولكن تلمحه أيضا في ملامح الوجه والتي تعكس حالة من الثبات والاستقرار، ولو قارنت صوره منذ تولى الرئاسة حتى الآن فلن تجد تغييرا كثيرا في الملامح والقسمات، بل هي نفس النظرة ونفس الجلسة، ونفس لون الشعر، أي أن هناك ميلا فطريا لتثبيت الصورة خارجيا وداخلي، ويساعد هذه القدرة على التثبيت حالة من الثبات الانفعالي الهائلة يتمتع بها ويتحدث عنها ويعتبرها أحد مزاياه، فهو يواجه المواقف الصعبة بأعصاب هادئة وانفعالات قليلة، وليس من السهل استفزازه، أو دفعه لاتخاذ قرارات انفعالية، وقد يصل هذا الأمر إلى تأخر صدور قرارات أو عدم تناسبها مع المواقف (على الأقل في نظر معارضيه).
وربما يقول قائل: كيف تستقيم هذه الرغبة في الثبات مع شخصية الطيار التي يتوقع منها أن تتصف بالحركة السريعة والمغامرة والمخاطرة؟.. وتفسير هذا التناقض الظاهر يكمن في ثلاثة أشياء:
الأول: أن الإنسان في مطلع شبابه قد يختار مهنة أو هواية قد تبدو متناقضة مع شيء في داخله، فمثلا تبين أن كثيرين من هواة صعود الجبال لديهم خوف من الأماكن المرتفعة، وأن مقتحمي الغابات لديهم خوف من الحيوانات، وأن الخطباء المفوهين لديهم درجة من الخوف الاجتماعي، وكأن كل هؤلاء حين وعوا ما بداخلهم حاولوا التغلب عليه بالمواجهة في أقصى درجاته، وأن يقتحموا المناطق التي يخافونه، وأن يتفوقوا في نفس النقطة التي كانت تعوقهم.
الثاني: أن الشخص قد يتصف بصفة في مطلع شبابه، وتتحول الصفة إلى عكسها في الكبر بناءا على التجارب والخبرات والأحداث، أو بناءا على تغير الظروف والمسئوليات.
الثالث: أن الرئيس عاش فترة طويلة من عمره في عالم الطيران العسكري، وكان متميزا فيه حسب شهادة الكثيرين، وقد انتقل إلى عالم السياسة على غير ترتيب أو اختيار منه، هذا العالم المليء بالدهاليز والمناورات والتداخلات والذي يختلف كثيرا عن عالم الطيران المحدد وعن حدود الوظيفة الثابتة. ومن هنا تأتي الرغبة في الثبات بهدف التأني لحين التثبت واستكشاف الغموض والخوف من المجهول والقلق من اتخاذ قرارات قد تؤدي إلى مشكلات معقدة في ظروف محلية صعبة وظروف عالمية شديدة التعقيد والتداخل.
وهو لا يميل إلى التغيير بالطفرة، وإنما يميل إلى التغيير بالتراكم الهادئ أو حتى البطيء، ويستعيض عن الابتكار ببذل المزيد من الجهد وبالعمل الدءوب. ولو نظرنا إلى أغلب الإنجازات فسنراها في إطار البنية التحتية، وقد يكون في هذا اختيارا حسب احتياجات المجتمع ولكنه من ناحية أخرى يعكس اهتماما شخصيا بالثوابت والأساسيات والضروريات.
وإذا تخيلنا أن السيد الرئيس يجلس مع نفسه الآن (وقد تجاوز الثمانين من العمر والتاسعة والعشرين سنة من الحكم)، فكيف يرى الصورة؟. إنه قد يرى أنه حافظ على توازنات مهمة جنبت البلد مشاكل كثيرة فهو يدرك أن مصر مثل طائرة عريقة ولكنها تحوي أعطالا فنية كثيرة، لذلك حين يقودها يكون غاية في الحذر حتى لا تتهاوى أو تتعرض لنيران معادية أو صديقة، فهو يعرف عن هذه الطائرة كل شيء (على الأقل في نظره)، ولديه خبرة طويلة في قيادته، ويعرف عدم تحملها للمناورات أو المخاطرات، ولذلك يطير بها ببطء وثبات يناسب حالتها والظروف المحيطة بها (قد يرى معارضوه غير ذلك بالطبع)؛
وقد يرى أنه ابتعد بها عن الدخول في صراعات حادة مع إسرائيل طوال هذه السنين، ولم يتورط في مواجهات غير محسوبة إبان اعتداءات إسرائيل وإهاناتها واستفزازاتها المتكررة في فلسطين ولبنان، وأنه لم يطلق طلقة واحدة طوال حكمه حفاظا على السلام الذي يحقق الاستقرار وبالتبعية يحقق التنمية (كما يتمناها). وقد يرى أنه جنب مصر مخاطر التورط في أحداث دولية ومحلية جسيمة مثل حرب الخليج وحرب لبنان والمشكلات المزمنة بين الفرقاء العرب، وفي ذات الوقت حافظ على شعرة معاوية مع الجميع (ننبه ثانية إلى أننا نعرض لتخيلنا لرؤية الرئيس وليس لرؤية معارضيه والتي نتوقعها ونحترمها أيضا).
وقد يرى أنه حافظ على السلام الداخلي وحمى بلده من تهديدات إرهابية كانت كفيلة بزعزعة الاستقرار في أي بلد آخر كما حدث في لبنان والجزائر والعراق والسودان واليمن. كما أنه يرى أن سياسته مع الإخوان المسلمين كانت أنجح من سياسة عبد الناصر وسياسة السادات، إذ نجح هو في ضبط إيقاع هذه الجماعة الكبيرة والمؤثرة، فهو لم يمكنها من شرعية العمل الذي يسهل لها الانطلاق بلا حدود، وفي ذات الوقت لم يحاول اجتثاثها بما يؤدي إلى مواجهات خطرة، وإنما حافظ على قدر من التوازن بين بقائها الحتمي (وإتاحة الفرصة لوجود 88من أعضائها في مجلس الشعب)، وبين ضبط حركتها وإجهاض انتفاضاته، بل وتوظيف وجودها حين التعامل مع الخارج والداخل المعارض لها.
وقد يشعر الرئيس بالارتياح للتجربة الديمقراطية –كما يراها – من حيث أنه أتاح فرصة كبيرة لحرية الرأي تبدو واضحة فيما يكتب في الصحف وما يقال في البرامج الحوارية على الفضائيات، وفي نفس الوقت كانت الأمور تحت السيطرة سواء من ناحية الأحزاب أو من ناحية الإخوان أو من ناحية الإعلام. ومسألة السيطرة غاية في الأهمية لدى السيد الرئيس، فهو لا يمانع في حرية التعبير، ولكن بشرط أن يحتفظ "هو" بحرية القرار وحرية الفعل، وربما يفسر هذا اهتمامه الكبير (كما ونوعا) بالجهاز الأمني وإعطائه صلاحيات واسعة في إدارة الكثير من الأمور.
وقد يرى أنه نجح في تفادي المشكلات التي كانت ربما تحدث إبان فترة حكم بوش الابن، فقد كان هذا الرئيس الأمريكي المتغطرس والطائش يمارس ضغوطا على مصر لتجاري سياساته بشكل حرفي، وكان الأمر صعبا حيث لم يكن ليحتمل معارضته، كما أن طاعته كانت مكلفة للغاية ومؤثرة على صورة مصر ومكانته، وأن الطريقة التي اتبعها الرئيس كانت تتسم بالحكمة والروية، ونجح في العبور من هذه الفترة بدون خسائر مصرية، أو على الأقل بقدر قليل من الخسائر.
وقد يرى أنه أعطى فرصة للشباب في الحكومة حيث تحوي عددا من الوزراء صغار السن، ومع هذا احتفظ ببعض رموز وقيادات الحرس القديم في الحزب الوطني ليحافظ على ثبات الأمور "كما يريدها".
وعلى الرغم من انتقاد معارضيه له على الاستمرار في الحكم كل هذه السنين الطويلة "جدا" إلا أنه قد يرى الصورة من جانبه بشكل آخر، فعلى الرغم من تجاوزه سن الثمانين، وعلى الرغم مما بذله في حياته العسكرية والمدنية من مجهودات هائلة، وعلى الرغم من احتياجه للراحة والهدوء والاستمتاع بحياته العائلية، إلا أنه ضحى بكل هذا وآثر أن يستمر في تحمل المسئولية كأي جندي مخلص لبلده حتى آخر قطرة دم في حياته، خاصة وأنه يشعر كما ذكرنا أنه لا يوجد –على الأقل حتى الآن– طيار مثله يعرف أسرار قيادة هذه الطائرة القديمة (مصر)، ويعرف مشكلاتها وكيفية التصرف في أعطاله، وكيفية تفادي الأخطار المحيطة بها. وفي سبيل ذلك تحمل الكثير من الانتقادات التي طالته بشكل شخصي وطالت أفراد أسرته، ومع ذلك كان يتغاضى ويتسامح، ويتنازل عن حقه الشخصي.
وقد يشعر بالقلق تجاه مستقبل مصر من بعده، إذ هو لا يتخيل مصيرها إذا صارت الأمور بيد المعارضة الأقوى ممثلة في الإخوان، إذ كيف تسير الأمور وهم يغامرون (في نظره) بمصير البلد وسط معارضة دولية شديدة، أو كيف يكون حال البلد من بعده وقد تنازع الجميع على الحكم، وظهرت الطائفيات والعصبيات والجماعات من تحت السطح، كما حدث في العراق والجزائر ولبنان، ويحدث في اليمن والسودان.
وقد يكون استمرار الأمر بابنه السيد جمال مبارك أقرب إلى الاستقرار (في رأي مستشاريه) حيث أن الابن موجود فعلا في السلطة وممارس لها وقد تشرب أسلوب الأب في القيادة، وله علاقات واسعة بذوي التأثير في الأمور، وتعتبر السلطة قد انتقلت إليه فعلا ولو بشكل غير رسمي، ولكنه في ذات الوقت يدرك بحكم خبرته مدى المشكلات التي تترتب على هذا الأمر في حالة إعلانه بشكل واضح خاصة مع ما يظهر على السطح في الوقت الحالي من معارضة شديدة للتوريث مع ضعف شعبية الوريث رغم كل الجهود التي تبذل.
وهنا قد يكون الخيار –طبقا لمنهجية التفكير التي ذكرناها– بين أن يتولى الابن مقاليد الأمور طبقا للاعتبارات السابقة (على الرغم من الصعوبات والمشاكل المحتملة)، أو يكون البديل أحد العسكريين الذين يحملون نفس المدرسة في التفكير، وأقربهم إلى ذلك هو السيد عمر سليمان، وقد يفاجئ الرئيس الجميع في اللحظة الأخيرة ببديل لا يخطر لأحد على بال، ولكنه يحقق اعتبارات الثبات والأمان والاستقرار كما يراها الرئيس.
ومن يتأمل صور الرئيس في الصحف أو على شاشات التليفزيون يلمح قدرا كبيرا من الرضا والارتياح والسكون، ويبدو أن الأمور محددة ومحسومة وبسيطة لديه، فلا ترى على وجهه علامات قلق أو توتر أو حيرة (باستثناء الغضب في بعض الأحيان القليلة)، ولا ترى ذلك أيضا في حركات يديه أو جسمه، فهو دائما يتحرك حركة محسوبة وهادئة وأحيانا بطيئة، مما يعطيه الفرصة لالتقاط الأنفاس، ولا يستجيب لمن يستعجله أو يضغط عليه لتغيير مواقفه أو حساباته، ولكي يحتفظ بهذه الحالة فهو يحرص على أن تكون الأمور دائما تحت السيطرة السياسية والأمنية، وأن يمسك بكل الخيوط حتى لا يفلت من حساباته شيئا يقلقه، أو يهدد الاستقرار.
ولهذا لا يميل إلى الحركة كثيرا أو إلى تحريك المواقف أو خلق المواقف، وإنما يكتفي بمواجهة الآثار والتداعيات، وفي أعماق أعماقه الرغبة في العودة إلى حالة الثبات والاستقرار والهدوء في أقرب فرصة ممكنة، فهو لا يميل إلى الفعل بقدر ميله إلى رد الفعل، ولديه نزعة إطفاء الحرائق وربما امتد الأمر إلى إطفاء الجذوات حتى لا تتحول إلى حرائق في يوم ما. ولما كان للثبات والاستقرار (الذي يصل إلى درجة السكون) كل هذه القيمة لديه فإنه قد ضحى بالكثير حتى يحتفظ بهم، وعانى هجوما ومعارضات واستفزازات هائلة من معارضيه كانت تهدف للضغط عليه لأخذ مواقف أو اتخاذ قرارات ساخنة أو حادة أو مؤثرة.
وهو فوق هذا يميل إلى الواقعية (كما يراها) وإلى الموضوعية (كما يراها)، ولا يرغب في المواقف الدرامية، والكلمات الحماسية والشعارات البراقة. وهو يميل لتحقيق الأساسيات، ولا يصبو إلى الخيالات والأحلام والانتصارات الثقافية أو الحضارية أو التاريخية التي لا تنعكس في آخر الأمر في صورة لقمة عيش للمواطن، وربما لهذا يتحمل لوم معارضيه له بأنه قلل من دور مصر الثقافي والسياسي والحضاري، وهو لا يلتفت إلى ذلك حيث لديه قناعة بأن هذا الكلام هو من قبيل الشعارات والعنتريات التي ربما تكلف البلد الكثير وتجلب عليه الكثير من المشاكل، وربما يكون قد وعى هذا الدرس من الحقبة الناصرية التي اتسمت بقدر كبير من الأحلام والشعارات القومية الكبيرة ثم تمخضت عن هزيمة ساحقة، وأيضا من الحقبة الساداتية التي اتسمت بالتهور والحركات والقرارات والتحولات المفاجئة والعنيفة والتي أسفرت عن حالة احتقان شديدة وانتهت أو كادت تنتهي بكارثة.
وقد يرى الرئيس أنه كان على حق في كل ما فكر فيه وقام به والدليل لديه هو هذه الحالة من الاستقرار التي استمرت طيلة حكمه، وهذه الحالة من السيطرة على إيقاع المجتمع والمعارضة والحياة والاحتفاظ بهذا الإيقاع في الحدود الآمنة.
ورغبة السيد الرئيس في الثبات تقابلها رغبة شعبية ونخبوية أيضا لا يتسع المجال للخوض فيها ولكن نكتفي بذكر بعض الأمثلة الشعبية مثل: "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش"... "إمشي سنه ولا تعدي قنا"... "طولة البال تبلغ الأمل"... "في التأني السلامه وفي العجلة الندامه"... "الصبر مفتاح الفرج"... "يا مستعجل عوقك الله"، أما على مستوى النخبة فنكتفي بذكر الشعار الذي ردده الصحفيون إبان انتخاب نقيبهم: "الكبير كبير.. مش عايزين تغيير"، وفعلا فضلوا انتخاب النقيب الكبير ورفضوا التغيير.
كانت هذه هي رؤية السيد الرئيس كما تخيلناها بناءا على منهجيته في التفكير كما استقرأناها من الأحداث والمواقف على مدى تسعة وعشرين عاما من حكمه المديد، وقد يكون في رؤيتنا هذه بعض الصواب وبعض الخط، وقد يوافقه البعض على رؤيته (الحقيقية أو التخيلية) وقد يعارضه الكثيرون فيه، وهذه سنة الله في خلقه، وننوه للمرة الأخيرة أننا حين استعرضنا هذه الرؤية لم نكن نحاول التفتيش في نوايا السيد الرئيس ولم ندّع العلم بخبايا النفوس، وإنما هي محاولة متواضعة لفهم طريقة ومنهجية التفكير للشخص الذي يمسك بزمام الأمور في بلدنا (إلى أمد لا يعلمه إلا الله) وتؤثر قراراته في حياتنا وحياة أبنائنا؛
وفي ظروف نفتقد فيها لمعرفة ما يدور برأسه بطرق معهودة، وفي أحوال نشعر فيها بالقلق على المستقبل الذي لا نعرف توجهاته، ولا نملك التأثير في قراراته (على الأقل حتى هذه اللحظة)، وهذا ليس تكريسا للأمر الواقع وإنما رؤيته بقدر المستطاع على أمل أن يأتي اليوم الذي تتغير فيه آليات ونظم الحكم في بلدنا فتصبح الكلمات واضحة والسطور مقروءة والسياسات معلنة والمؤسسات فاعلة والمستقبل معلوم من معطيات الواقع ومقدماته المنطقية الظاهرة للعيان، ونصبح جميعا مشاركين في صياغته وصناعته . وأخيرا خالص تقديري واحترامي لشخص السيد الرئيس.
واقرأ أيضا:
شيخوخة الضمير: دلالات النتائج / الانتماء الهستيري: الجرح النرجسي / همام خليل من رعاية الحياة إلى عشق الموت