يقترب أول مايو هذا العام (2010م) بشكل مختلف،فالمفترض أنه يوم "عيد العمال"،ولكن العمال ينامون (هم وأسرهم) الآن على الأرصفة المحيطة بمجلس الشعب ومجلس الوزراء،ويقفون معتصمين هنا وهناك للمطالبة بالحد الأدنى من ضرورات الحياة المفقودة،بعد أن طردهم أو تحكم فيهم المستثمر الأجنبي الذي اشترى المصانع التي عاشوا يعملون فيها طيلة عمرهم.
لقد اختلف المشهد كثيرا عما كان عليه الحال وقت أن تقرر أن يكون للعمال عيدا،فقد كان عبد الناصر –رغم أخطائه الجسيمة– منحازا للعمال والفلاحين والفقراء عموما،وقد أطاح بالملك والباشوات والأحزاب والرأسماليين وتوجه بالرعاية نحو جموع الكادحين والفقراء فأنشأ لهم المصانع في حلوان وكفر الدوار والمحلة وشبرا الخيمة والصعيد،واستكمل منظومة الاقتصاد الوطني التي بدأها طلعت حرب،وكانت سعادته تتحقق وهو يفتتح المصانع كل يوم ويعين آلاف العمال فيها،وتتحقق كلما زادت أعمدة المداخن،وتتحقق كلما سلم أعدادا كبيرة من الفلاحين عقود الأراضي الزراعية؛
وتتحقق وهو يعيش وسط الشعب ويصافحه في غبطة وسعادة،وتتحقق وهو يخصص 50% من مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين حتى يمنع طغيان رأس المال على الحكم،لذلك لم يكن غريبا أن يغفر الناس لعبد الناصر كارثة 5 يونيو ويطالبونه بالاستمرار في السلطة لحين إزالة آثار العدوان،ولم يكن غريبا أن يخرج أربعة ملايين مصري يودعون جثمانه حين مات في أكبر جنازة شعبية في التاريخ،حيث كان يشعر المصريون باليتم لوفاته.
وربما يكون العهد الناصري قد بالغ في تدليل العمال والفلاحين بما أوحى لهم بأن الدولة هي بمثابة الأب والأم والراعي الحنون،تلك الفكرة التي مازال يتوهمها العمال والفلاحون حتى اليوم رغم تغير الظروف والأحوال.
وفي عهد السادات بدأ التراجع في الحفاوة بالعمال والفلاحين والكادحين والمطحونين،وبدأ عصر الانفتاح بفتح الأبواب على مصراعيها لرجال المال والأعمال يغترفون من ثروات البلد تحت دعوى تشجيع الاستثمار وتمهيد الطريق للاقتصاد الحر،والتحول من الاشتراكية للرأسمالية،ومنذ هذا الوقت وحتى الآن انقطعت الصلة الودية بين الدولة وبين الطبقات الفقيرة بكل تنويعاتها،وأصبح رجال المال والأعمال هم أصحاب الحظوة ومحل الحفاوة،وصارت ألقاب العمال والفلاحين صفات انتخابية يستخدمها الرأسماليون للوصول إلى مقاعد مجلسي الشعب والشورى لتسهيل مصالحهم وتأمين مكتسباتهم،أما العامل الحقيقي والفلاح الحقيقي فقد خرج من اللعبة تماما.
واستمر نفس النهج في الثلاثين سنة الأخيرة،فبدلا من افتتاح المصانع أصبح هناك بيعا متسارعاً للمصانع،وبدلا من الاحتفاء بالعمال والفرح بهم وهم يهتفون للثورة وزعيمها نجد الآن حكومة تهرب من مقرها في شارع القصر العيني حتى لا تواجه جموع العمال المفترشين للأرصفة هناك وتذهب لتعقد اجتماعاتها في "القرية الذكية" في "دريم لاند" بعيدا عن العمال وما يصدر عنهم من روائح وما يصدرونه من احتجاجات وصرخات.
ولم يعد قصر الرئاسة في "منشية البكري" أو في "قصر القبة" في القاهرة قريبا من الناس بل صار هناك هناك بعيدا في شرم الشيخ حيث تفصله عن الناس مئات الأميال والتحصينات ونقاط التفتيش،ولم يعد العمال مصدر حفاوة للدولة بل صار منظرهم مثيرا للاشمئزاز،وأعدادهم الكثيرة مثيرة للغضب،ومطالبهم مثيرة للخوف والتوجس،ولم يعد العمال يرون القيادات تسلم عليهم في المناسبات وتهنئهم بالوظائف الجديدة وبالمنحة بل صار العمال لا يرون إلا جنود الأمن المركزي وهم يحوطونهم حتى لا ينتشروا كالوباء في أماكن اعتصامهم.
وربما يرجع ذلك إلى إحساس المسئولين تجاه العمال حيث يرونهم كائنات زائدة عن حاجة العمل،وأنهم ليسوا ثروة بشرية يمكن الاستفادة منها بل مخلوقات طفيلية كثيرة الشكوى تتكاثر بشكل عشوائي وتسبب عبئا وحرجا للمسئولين على المستويات المختلفة.
وهناك من يقول بأن العمال المفترشين للأرصفة ليسوا فوق مستوى المساءلة والمحاسبة فهم قد تركوا أعمالهم وأهملوا مسئولياتهم وهم يطالبون بزيادة الأجور دون أن يحسنوا من أدائهم ومن إنتاجيتهم وجودة عملهم،وأنهم أدمنوا الشكوى والبكاء وأهملوا العمل والإبداع. وقد يكون بعض ذلك صحيحا،ولكن علينا أن نعرف أن غالبية العمال هم من الفئات البسيطة التي لا تتمتع بمهارات حياتية عالية،وأنهم تحت الضغوط المزمنة قد يكتسبون صفات سلبية من التواكل والاعتمادية وإهمال العمل والتحايل على الإدارة وإدمان الشكوى والمطالبة بالحقوق دون تقديم الواجبات.
وهذه الفئة تحتاج لمن يضعها في منظومة حياتية وإنتاجية مناسبة تخرج منها أفضل ما فيها،وتساعدها على الإتقان والإبداع وتحسين جودة الإنتاج وأن تكون هناك علاقة حقيقية بين أداء العامل وراتبه والحوافز التي يحصل عليها.
إذن فتغير المشهد يستدعي مراجعة فكرة عيد العمال إذ لم يعد ثمة أجواء عمالية تستدعي تسمية العيد،إذ كيف يعيش العامل عيدا وهو لا يجد لقمة العيش له ولأولاده،وكيف يعيش عيدا والمستثمر الأجنبي يطرده من المصنع أو يهدده بالطرد ليصفي المصنع ويبيعه أرض بناء ويجني الأرباح الطائلة ويعود لبلده سالما غانما،وكيف يعيش عيدا وأولي الأمر يتأففون من منظره ومن رائحته ويعيشون بعيدا عنه وعن مشاكله التي لا تنتهي،وينظرون إليه على أنه ضيف غير مرغوب فيه.
وليس فقط عيد العمال هو الذي يستدعي المراجعة بل أيضا عيد الفلاح وعيد العلم،إذ لم يعد ثمة اهتمام بالعامل أو الفلاح أو العلم. وربما من الأنسب أن يستبدل عيد العمال مثلا بعيد المال (نسبة إلى أصحاب الأموال الذين يرتعون ويسعدون بما كسبوا في هذا العصر)،أو عيد رجال الأعمال (حيث أنهم هم الطبقة المدللة في هذه الحقبة من الزمن)،أو أي اسم آخر غير عيد العمال الذي لم يصبح له وجود على أرض الواقع،بل أصبح مثارا للشفقة والسخرية.
فإذا انتقلنا إلى ما أصاب التركيبة النفسية للعمال نتيجة هذه الحياة التي يحيونها وتلك المعاملة التي يعاملهم بها المجتمع لوجدنا أن العامل المصري قد تغير كثيرا فلم تعد لديه الرغبة في إتقان ما يعمله فخرج إنتاجه ناقصا أو مشوها،ولم يعد لديه الانتماء لمصنعه أو شركته بل أصبح يشعر بالغربة تجاه مكان عمله ور بما تجاه وطنه،ولم يعد مبدعا في عمله إذ يتطلب الإبداع حالة من انشراح الصدر وصفاء البال والرضا،وهي أشياء يفتقدها العامل المصري بشدة؛
ولم يعد العامل المصري مهتما بالنواحي الجمالية في إنتاجه إذ هو يفتقد الرؤية الجمالية في مسكنه العشوائي وفي الشوارع التي يسير فيها كل يوم وفي الميكروباصات التي يركبها وفي الأغاني التي يسمعها،ولم يعد العامل المصري طيبا وصبورا ومتسامحا بل صار خشنا عنيفا جراء ما يجده في المجتمع من فقر ومرض وضغوط حياتية ومصادر للقهر،ولم يعد العامل المصري مؤمنا بالعمل والجهد والكفاح طريقا للكسب والترقي وإنما اتجه للنفاق والفهلوة والدسائس ليقترب من مديريه ويحصل على ما يريده،ولم يعد العامل المصري كريم النفس بل صار يقبل الرشوة أو التسول في بعض الأحيان ليحل مشاكله خاصة في وقت الأزمات وما أكثرها في حياته.
وهذه الصفات السلبية ليست لازمة للعامل،إذ نجد أنه يتخلى عنها ويظهر معدنه الأصيل حين يوضع في منظومة إنتاجية صحيحة وسوية وخالية من الفساد والإفساد في داخل أو خارج الوطن.
وربما يكون من الأنسب أن نضم عيد العمال إلى يوم اليتيم،فقد أصبح العامل المصري يتيما بعد أن تخلت عنه الحكومة أو لم تعد قادرة على حمايته ورعايته وسلمته وسلمت مصيره إلى المستثمر الذي باعت له المصنع أو الشركة،وهذا المستثمر لم يأت إلى هنا ليرعى ذلك العامل بل جاء ليخطف خطفته من المال ليستمتع بها في بلده،وليذهب العامل إلى الجحيم.
وهذه هي الأزمة التي ستواجهها مصر في الأيام المقبلة،أزمة العمال المسرحين والمطرودين والمظلومين والجائعين والغاضبين،تلك الأزمة التي ظهرت بوادرها منذ فترة في تلك الجموع المعتصمة في المصانع أو على الأرصفة أو في الشوارع. ولم يعد أحدا قادرا على رعاية هذا العامل،وما يصدر من تطمينات ووعود ما هي إلا مسكنات لن تصمد كثيرا أمام قسوة الجوع والحاجة والإحباط والغضب وتراكم أعداد المسرحين،ولا حل سوى أن تعلن الدولة مرة أخرى تصحيح انتمائها لهذا الشعب؛
وتخليصه من سيطرة وسطوة رجال الأعمال الذين ما عملوا يوما إلا لمصالحهم الخاصة،وعلامة ذلك أن يستطيع رئيس الوزراء الذهاب إلى مقره في شارع القصر العيني وأن يتحدث مباشرة مع العمال المفترشين للأرصفة ويسمعهم جيدا وفي نيته حل مشاكلهم (بحق وحقيق وليس الالتفاف حول مطالبهم) وأن يعود العمال إلى مصانعهم وشركاتهم ومنازلهم وقد تأكدوا أنهم أصبحوا محل الرعاية والحب والاحترام،وأن يعود قصر الرئاسة من منتجع شرم الشيخ إلى وسط القاهرة،وأن تتراجع جحافل الأمن المركزي لتعطي الفرصة لحوار مباشر بين الناس وحكامهم،وأن تتخلى الدولة عن حالة الصمم السياسي والعناد السلطوي وتنزل إلى الشارع دون خوف أو قرف أو اشمئزاز من العمال والفلاحين والكادحين والجائعين وكل من أكلهم الفقر والمرض وصاروا تحت خط الإبادة ونحن عنهم غافلون.
واقرأ أيضا:
نبوءة نجيب محفوظ للبرادعي وزويل / انتصار أخلاقي / المصريون من الحراك إلى العراك