"في ظل نخلة على شاطئ النيل استلقت على ظهرها امرأة فارعة الطول ريانة الجسد. وكشفت عن صدرها ونادت يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم، وخيل إليّ أن الحال تقتضي التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون في النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمي وأطبق على صدري ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم.
ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمي. وشعرت بأنه كان يجب عليّ أن أفعل شيئا أكثر من النداء الذي لم يخرج من فمي، وأذهلني أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا في معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحني بعض منهم فأقبلوا نحوي أنا لعمل المستحيل في رحاب الرعب الشامل" (الحلم رقم 11 من أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، دار الشروق).
يطاردني هذا الحلم (الكابوس) وأنا أرى المجتمع المصري يتحول من الحراك الذي كنا نستبشر به خيرا في التغيير الإيجابي إلى العراك الذي ينتقل من طائفة لأخرى ومن شارع لشارع ومن بيت لبيت ونحن عنه غافلون. تساورني الرغبة أن أمشي في الشارع وأنادي في الناس: "مصر تحترق... مصر تحترق.... مصر تحترق"، نعم مصر تحترق، والنار في كل مكان بعضها في حجم الشرر وبعضها يرتفع لهبه إلى السماء.
صراع مرير بين القضاة والسلطة اعتراضا على تزوير الإنتخابات وإهانة القضاة حين فضحوا التزوير، ثم سعيا نحو استقلال السلطة القضائية... صراع بين المحامين والقضاة سعيا نحو العدل الذي يشعر المحامون أنهم افتقدوه في حادثة اشتباك بين وكيل نيابة ومحام ثم سعيا نحو حصانة يرجوها المحامون لأداء وظيفتهم... معركة بين محام وضابط شرطة في قاعة محكمة.... صراع بين الكنيسة والدولة حول قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين.... صراع بين المطلقين وبين الكنيسة حول أحقيتهم في الزواج الثاني، والكنيسة ترفض الطلاق وترفض الزواج الثاني....
عنف أسري يجعل 60% من الجرائم جرائم عائلية بمعنى أن الجاني والضحية من نفس البيت... انتشار العنف وازدياد وحشية الجرائم.... الناس تقتل لأتفه الأسباب، 245 حكم إعدام في عام 2009 و75 حكم إعدام في شهر يونيو وحده العام الماضي (أيضا 2009).... مظاهرات ضد قانون الطوارئ ومع هذا يتجدد بلا نهاية.... اشتباكات بين أنصار البرادعي ومنتفعي الحزب الوطني... صراع بين الإخوان والسلطة لم يصل إلى حل منذ عشرات السنين... صراع بين التيارات والجماعات الدينية المختلفة وكل منها يدّعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وكل ما عداه باطلا....
مظاهرات واحتجاجات واعتصامات من أجل لقمة عيش جافة افتقدها عمال فقراء جاءوا من ربوع مصر الجافة وافترشوا رصيف مجلس الشعب ومجلس الشورى ومجلس الوزراء وهم يصرخون على شاشات التليفزيون ويستغيثون من قسوة الجوع ومعهم أبناءهم ينطق حالهم بالبؤس الشديد... ضباط شرطة ومخبرين يعذبون شبابا ورجالا حتى الموت فتخرج الجموع الغاضبة تحاصر قسم الشرطة عدة ساعات أو عدة أيام ثم تفرقها القوة لتعود مع حادث جديد بعد عدة أيام أو عدة أسابيع ولا جديد....
الستار الحديدي من عربات الأمن المركزي يحيط بالجامعات والنقابات وأي مكان يصدر منه نبض شعبي أو نداء بالتغيير... البلد يأكل بعضه بعضا بالضبط كما صورنا نجيب محفوظ - أو تنبأ لنا في حلمه العبقري - وهو لم يتنبأ فقط بالصراع بين المصريين بعد نهبهم لمصر وإنما تنبأ أيضا بسلبية المصلحين وخفوت صوتهم وضعف تأثيرهم وترددهم حتى يعم الخراب والرعب الشامل... تقارير منظمة العفو الدولية تدين مصر كل عام وأذن من طين وأذن من عجين... نتقدم الصفوف في قائمة أكثر الدول فسادا وأكثر الدول فشلا بمعايير منظمات دولية محايدة ولا تهتز لنا شعرة... نفقد ريادتنا السياسية والعربية والإسلامية والإفريقية ولا نشعر بأي أسى....
تهددنا دول حوض النيل بقطع المياه أو تقتيرها ثم نروح في سبات عميق.... ويتعلق الناس بالتغيير ويزداد الوعي من خلال ما يكتب في الصحف المستقلة وبعض البرامج شبه المستقلة، ويزداد الحراك ونأمل أن يتمخض هذا الحراك المجتمعي عن تغيير سلمي وتبادل للسلطة وشفافية في الحكم وحرية وديموقراطية سليمة، ولكن تأتي انتخابات الشورى الأخيرة وما حدث فيها من تزوير سافر لتغلق باب الأمل أمام كل هذه التوقعات ولتقول لكل المحبين لهذا البلد والمشفقين على مصيره:
هيهات أن يحدث التغيير وسترون نفس الأسلوب في انتخابات مجلس الشعب وفي انتخابات الرئاسة وفي كل الإنتخابات. ويعم اليأس من الإصلاح في ظل الإصرار على بقاء الحزب الوطني في السلطة إلى أن يعم الخراب والرعب الذي تنبأ به نجيب محفوظ، ونظل نحن أبناء هذا البلد الأصليين نصرخ: "مصر تحترق... مصر تحترق.... مصر تحترق...."
واقرأ أيضا:
نبوءة نجيب محفوظ للبرادعي وزويل / هل ما زال للعمال عيدا؟ / النقطة الحرجة في العنف