(ألمانيا بلد الموضة؟ يفاجأ البعض بهذه المقولة. ولكن من لا ينظر للملابس على أنها مجرد سلعة اقتصادية، وإنما مادة ثقافية، فإنه يجد هنا مستقبل الموضة...).
هذا ما قاله "يوآخيم شيرماخر" -الألماني الذي يعمل كمستشار وصحفي في مجال الثقافة والاقتصاد والتصميم والموضة- مفتتحًا به ملفه الذي كتبه حول الموضة في ألمانيا، في مجلة دويتشلاند الألمانية.
استوقفتني هذه العبارة، وشدت انتباهي، ودفعتني لقراءةٍ أكثر تمعنًا في ذلك الملف، الذي لا تكاد تخلو صحيفة من صحائفه عن عبارة تبرز ذلك المعنى المذكور...
الملف سِيقَ أصلًا للتعريف بالموضة الألمانية، وبمكانتها في مجال تصدير الأزياء للعالم، حيث تعد ثاني أكبر مصدر لأزياء الموضة في العالم بعد إيطاليا. ويركز على أن الموضة ثقافة تعبر عن المجتمع الذي نشأت فيه، وتفتخر بأن الموضة الألمانية تعتمد على التفرد، والتعبير، والشخصية....
وهو –أيضًا- مليء بالعبارات التي تؤكد أن: الموضة مرآة المجتمع، وأنها تعبر عن شخصيتنا وطريقة حياتنا، وأنها وسيلة مهمة في التواصل، وفي التقييم والتصنيف.
كيف تعبِّر الموضة؟
عنوان المقال الأول في الملف كان: (موضة ألمانيا، القوة الصامتة). الموضة والتصاميم –إذن- تملك قوة فريدة في التعبير، وإن لم يُشاهد لتلك التصاميم لسان، أو يسمع لها صوت...
إنها معانٍ تغرسها في شعورك ومخيلتك من خلال ألوانها، وأشكالها.
ففي التعبير الذي توحي به ثياب المرأة العصرية يقول الكاتب: (تتناول الموضة الألمانية الحالية تصميمات شخصية وفردية، تتناسب وروح القرن الواحد والعشرين، وبدلًا من السيدة ذات المظهر الأرستقراطي يغلب اليوم مشهد المرأة العملية المندمجة في المجتمع، والتي تجمع بين العمل والأسرة).
وفي مقابلة مع "سوزي مينكس" –أهم صحفية مختصة بالموضة، وناقدة حادة- سُئلت: (هل ترين الموضة كوسيلة للتعبير بالنسبة للمجتمع؟) فكان جوابها: (هذا هو تمامًا ما يسحرني في الموضة. وبالنظر إلى الماضي تتوضح هذه الفكرة.
تذكر على سبيل المثال: موضة الأكتاف العريضة في الثمانينيات، التي عادت اليوم لتصبح موضة حديثة. في ذلك اليوم كانت حشوة الأكتاف تعبيرًا عن الحركة النسائية، وعن أن المرأة تقف في عالم العمل جنبًا إلى جنب، أو كتفًا إلى كتف مع الرجل. هذا يوضح بشكل لا يقبل الشك لماذا تعتبر الموضة دومًا مرآة المجتمع).
حتى اختيار الأقمشة فيه تعبير عن فكرة ما! ففي ظل الاتجاه السائد في الغرب، في الحفاظ على البيئة واستغلال الموارد الطبيعية للطاقة وغيرها، تتجه موضة المستقبل لإنتاج ثياب أكثر ملائمة للبيئة، لتعبر بصمت على ضرورة الحفاظ عليها. وهناك شركات كبيرة تختص بهذا النوع من الألبسة، قامت على إنشاء مشروعات كبيرة من أجل إنتاج الأقمشة ذات المعايير الحيوية، كشركة "هيس ناتور" الألمانية.
يقول الكاتب: (هكذا كانت هيس ناتور المبادرة في العام 1991 في سيكم (مصر) إلى أول مشروع للقطن الحيوي (بيو) في العالم. وما لبث أن تبع ذلك مشروعات أخرى في البيرو والسنغال وتركيا وبروكينا فاسو. كذلك شاركت "هيسة" في تطوير نبات الكتان الحيوي، والصوف الجديد الحيوي، والحرير الحيوي).
وبهذا تغدو الموضة أيضًا أحد وسائل التعبير عن ضرورة الحفاظ على البيئة، إذ يقول لنا القماش الحيوي بلسان حاله: حافظوا على بيئتكم! تمامًا كالأبحاث والمقالات في هذا الموضوع، وكالمشروعات التي تقام في سائر أوربا من أجل استغلال موارد الطاقة الطبيعية، وهندسة المنازل الموفرة للطاقة من أجل العناية بهذا الأمر.
الموضة تعبر عن المجتمع الذي نشأت فيه
يقول البلجيكي "راف سيمونس" مدير الابتكار لدى شركة "جيل ساندر": (أنا من الشمال! غالبًا ما تعرض البلجيكيون للنقد بسبب تصميماتهم وموضتهم شديدة التشاؤم، شديدة الجدية. كانت الموضة بالنسبة لي زمنًا طويلًا جادة وعميقة: الأفكار والجوانب النفسية والسلوك الاجتماعي كلها كانت تلعب دورًا في شعور الناس بالانتماء والارتباط بصورة معينة...... الموضة ترتبط كثيرًا بالبلد الذي تنشأ فيه. فالموضة في إيطاليا مسترخية جدًا وهامدة).
إذن فأفكار الناس، وطبيعتهم النفسية، وسلوكهم الاجتماعي الذي اعتادوا عليه، كلها أمور لها تأثيرها في اختيار الناس لهيئة معينة من اللباس والتصاميم. لهذا يمكننا التمييز وبوضوح بين ألبسة الشعوب المختلفة. وما زالت مختلف الشعوب تعتز بتصاميمها التراثية، كثقافة تميزها عن غيرها، رغم توحد هيئة اللباس -غالبًا- بين شعوب العالم حاليًا، في ظل العولمة.
وكما تعبر الموضة عن ثقافة المجتمعات، وتختلف باختلافها، تعبر عن ثقافة الشخص نفسه، وتتنوع حسب تنوع الأفكار في المجتمع الواحد.
نقلت مجلة الأسرة عن صاحبة إحدى المشاغل والمهتمات بمتابعة الموضة في الخليج العربي، ما قالته في مقابلة أجرتها معها: (الجمال مطلب جميع النساء، ولا توجد امرأة لا تبحث عن التميز. ولكن هناك علاقة بين المظهر الخارجي للمرأة وبين ثقافتها، فالمرأة المثقفة دائمًا تبحث عن البساطة في المكياج، وغالبًا ما تطلب قصة شعر عملية ومريحة، أما أزياؤها فهي نسيج متناغم من الأناقة والبساطة والهدوء ورقي الألوان، والمرأة المثقفة لا تسمح للموضة بطمس شخصيتها. أما الفتاة الصغيرة التي لم تكمل تعليمها فغالبًا ما تطلب الصرعات الغربية الملفتة للانتباه وتساير الموضة إلى أبعد الحدود، حتى في الأشياء التي لا تتماشى مع تقاليد المجتمع وثقافته...).
وتقول الشاعرة والناقدة العراقية الراحلة "نازك الملائكة": (قد يبدو أول وهلة، أن الزيَّ عَرَضٌ خارجي لا يرتبط بأعماق الإنسان، غير أنني لست من أنصار هذا المذهب، وإنما أدين بأن كل مظهر من حياة الإنسان مرتبط بصميم روحه، فالحياة مترابطة موحدة لا يمكن تجزئتها) [من ملخص في مجلة الأسرة لمحاضرة الشاعرة "مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية" ألقتها في جامعة البصرة عام 1968م].
وباعتبار أن اختيار شكل اللباس نوع من أنواع السلوك البشري، فهو مرتبط بأفكار الشخص ومعتقداته، لارتباط السلوك بالأفكار، كما يصرح علماء النفس: (فأذواقنا، وأساليبنا وأخلاقنا تعكس اتجاهاتنا، وبالتالي فإن القيم الاجتماعية تستقر تحتها.... ولهذا يمكننا تصور الاتجاهات والقيم كحالات (إدراكية –دافعية) توجه السلوك، بمعنى أنها تعمل كدوافع للسلوك) [علم النفس المعاصر: د.حلمي المليجي: ص155]
هل تخلق الموضة فينا ثقافة جديدة؟
إذا كانت الموضة تعبر عن ثقافة مصدرها، فهل تملك مفعولًا عكسيًا؟
بمعنى: هل تستطيع الموضة الوافدة على مجتمع ما، أو المخالفة لفكر شخص ما، أن تخلق ثقافة جديدة عنده في حال تبنيه لها؟
الجواب: نعم وبالتأكيد!
هذا ما عرفه المسلمون الأوائل من عصور طويلة، يقول الإمام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم [1/93]: (المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة –مثلًا- يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع). وهذا نص صريح في أن اللباس ينقل ثقافة الشخص إلى الآخر، ويقرب بين الثقافات.
ولا يخالف المعاصرون في هذا، تقول "نازك الملائكة" في محاضرتها المشار إليها: (تظن المرأة أن تبرجها شيء ظاهري لا يمس عقلها، فهي تستطيع أن تكون حرة رغم إمعانها في الأناقة، وإسرافها في التصنع. وهي في هذا مخطئة، فإن لكل عمل يقوم به الإنسان آثارًا فكرية روحية بعيدة المدى. إن أعمالنا تؤثر في عقولنا وأرواحنا وتعيد صياغتها، فإذا لم يتحكم العقل في سلوكنا، تحكم سلوكنا في عقلنا).
ويقول يوآخيم شيرماخر في مقاله: (الموضة هي دومًا مرآة للمجتمع. إنها تتفاعل مع الهوية والتراث، وتضع في ذات الوقت خطوطًا عريضة لاتجاهات المستقبل). فالموضة إذن هي التي ترسم المستقبل، وطبعًا: من خلال رسمها لمفاهيم المستقبل!!
ومن أوضح الأمثلة على هذا الكلام: الثقافة الغذائية الجديدة التي بثتها فينا، فقد كان المعهود عند العرب وإلى فترات قريبة، الرغبة في المرأة الممتلئة ذات السِّمَن، وهذا نلمسه بوضوح في الحديث الذي رواه البخاري أعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: ((دَخَلَ عَلَيّ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي مُخَنَّثٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أُمَيَّةَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلاَنَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ....)).
فقد قام هذا المخنث بترغيب عبد الله بابنة غيلان لامتلائها وسمنها، فالمقصود بقوله: (تقبل بأربع وتدبر بثمان): أنها لسمنها يوجد طيّات في بطنها، فهي أربع طيات، عندما تكون مقبلة مواجهة لك، وتصبح ثمانية عندما تدير ظهرها مدبرة، حيث يبدو للناظر أربع طيات من كل جهة في خاصرتيها، فالمجموع ثمان طيات!!
كذلك نجد في كتب الفقهاء أسئلة وفتاوى تسأل فيها المرأة عن جواز أكلها فوق شبعها لأجل السمن إرضاءً لزوجها، حيث من المعلوم أن الأكل فوق الشبع مكروه، ويأتي الجواب: بجواز هذا للمرأة. وذلك لأنها تحقق بسمنها غاية مشروعة وهي التحبب إلى الزوج، الذي يرغب في ذلك!!
أما اليوم فقد انعكس الذوق، وانتشرت ثقافة النحافة، إذ بدأت الموضة ترتبط بالحمية، والجسم النحيل، دون نظر لفارق التغذية بين الشرق والغرب تقول مجلة الأسرة: (خلصت دراسة علمية في كندا إلى أن واحدة من بين كل أربع مراهقات تعاني من اضطرابات في التغذية.
وقد تبين في استطلاع حديث للرأي أجري بين أكثر من 37 ألف فتاة غربية تتراوح أعمارهن بين 12 و 15 عامًا، أن 57.5 % منهن يُعد مظهرهن العام مصدر القلق الأول لهن بسبب هوسهن بالموضة، وأوضح استطلاع آخر أن أكثر من 200 ألف امرأة يصبن بمرض فقدان الشهية في بريطانيا كل عام. وتقول وزيرة المرأة البريطانية "تيسا جويل": إن السبب الرئيسي في ذلك هو عارضات الأزياء اللاتي يظهرن في مجلات الموضة في منتهى الرشاقة، مما يثير في نفسية الفتيات الإحساس بالعجز عن التشبه بهن!)
كيف نقرأ الموضة؟
بعد أن تبين أن الموضة تتكلم وتعبر، وأنها تفصح عن ثقافتنا وما بداخلنا، وأنها يمكن أن تزودنا بثقافة جديدة، وتصوغ داخلنا صياغة مختلفة....، يبدو واضحًا للعيان أهمية تعلمنا لقراءة أبجدية الموضة.
فالتصميمات الجديدة على مختلف الأصعدة غدت من معطيات العصر الحديث، ولا بد من تعلم أبجديتها، تمامًا كما نتعلم التعامل مع التكنولوجيا الحديثة الوافدة، فليس من الحضارة في شيء أن نكون أميين لا نحسن قراءة كتاب نحتاجه ليل نهار...
وليس المطلوب منا أن نكون نقادًا في عالم التصميم، ولا أن نحسن –جميعًا- قراءة التفاصيل الدقيقة للموضة، ولكن على الأقل أن نعرف كيف نفهم الرسالة المجملة التي ترسلها إلينا الثياب. وبهذا نستطيع أن نستخرج غذاء أرواحنا وعقولنا، من خلال الأمور المادية المحضة، ونتحرر من جمود المادة وطغيانها، ونخلق توازنًا بين المادة والروح في جميع أمورنا الحياتية.
ومما يساعدنا على القراءة: معرفتنا بثقافة مصدر الزيّ، إذ لا بد من التوافق بين الزيِّ ومصمِّمه، فمن لم يستطع القراءة المباشرة، يمكنه الاستعانة بقاموس ثقافة المصمِّم في ترجمة المعاني.
محاولة في قراءة ما نرتديه
من الملاحظ أولًا: أن ما نرتديه اليوم لم يعد ثقافة خاصة بنا، فالموضة الأمريكية في ارتداء الجينز، وال(تي شيرت)، والثياب الضيقة، والرياضية...، أصبحت ثقافة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها، حتى لم نعد نرى فروقًا واضحة بين الشعوب في هذا المضمار.
وثانيًا: أن الموضة لم تعد تسلط أضواءها على ألبسة الإناث فقط، بل أصبح الذكور هم الضحايا الجدد للموضة، -كما بينت دراسة للموضة في برلين- والذكور يتفننون في استخدام أسماء الماركات الشهيرة، وفي توظيف الألوان والإكسسوار.
كذلك لم تعد الموضة قضية ثياب فقط، بل نمط معيشي متكامل من التصميم الهندسي للبيت وديكوره، إلى السيارة، إلى الطعام، والثياب.... فكلها إذن ثقافة متكاملة لا تفهم إلا بقراءتها من جميع الجوانب، والإحاطة بجميع مجالاتها.
ولا بد لنا من التنبُّه تمامًا لمصدر ثقافة الموضة الجديدة لفهم الرسائل المبثوثة فيها. ولا أحد ينكر أن ثقافة الجينز المنتشرة، هي ثقافة أمريكية. كذلك من بدهيات عالم الأزياء أن غالب دور الأزياء يديرها اليهود منذ زمن بعيد، فَهُم أبرز المختصين في هذا المجال، يقول شيرماخر في تاريخ الموضة في ألمانيا: (..وقد بدأ التحول مع تأسيس الرايش الألماني في 1871 واختيار برلين لتكون العاصمة. فاستقر حول ساحة هاوسفوغتاي العديد من صالونات الموضة ودور الأزياء والملابس، وخاصة تلك التي تعود ملكيتها للمواطنين اليهود).
وتقول "نازك الملائكة" في محاضرتها السابقة: (وإني لأحب أن ألفت النظر في هذا الباب إلى نقطة جوهرية في مسألة الأزياء التي نستوردها، هي أن أغلب معامل الأقمشة ومصانع العطورات والمساحيق إنما يملكها اليهود في الغرب، واليهود كما ثبت في هذا العصر يسعون إلى أن يسيطروا على العالم، ويحكموه بعد القضاء على الحكومات العالمية جميعًا، وأسلوبهم في السيطرة ذو شقين:
أولهما الاستيلاء على المال في كل بلد ينزلونه....، وثانيهما هدم الأخلاق والمثل والقيم والمعتقدات،.... ومن هنا نصل إلى النقطة الجوهرية في بحثنا: فقد عمل اليهود على السيطرة على معامل الملابس، والمساحيق والعطور وسواها من مستلزمات الموضة، وهم بذلك يتوصلون إلى تحقيق الغرضين، فيسيطرون على المال، ويفسدون الدين والأخلاق).
وإذا تبين هذا: ماذا تقول لنا ثيابنا اليوم:
- تقول لنا ثيابنا الضيقة اليوم، وننطق باسمها حين نلبسها ذكورًا وإناثًا: جسدي متاح للجميع، وليس حكرًا على أحد، فاستمتعوا به كما شئتم، بعد تلوينه وتحسينه ليبدو أجمل في أنظاركم.
- تقول لنا الثياب ذات المنظر المهلهل، والثياب المخالفة للذوق العام المتفق عليه على مر السنين، في ألوانها، أو تصاميمها الممزقة، والمرقعة، أو التي يكون فيها اللباس الفوقي أقصر من الذي تحته، وأضراب هذه الغرائب...، تقول: أنت إنسان حر تفعل ما بدا لك، دون حدود أو قيود، لا تبالي بالمجتمع، ولا بقواعده ولا بآدابه!! حرٌّ إلى درجة التحرر من عقلك، واللامبالاة!!
فهل يستغرب بعد هذا، ضياع الهدف، واللامبالاة الشائعة بين شبابنا في الغرب والشرق على حدٍّ سواء؟!
- يقول لنا البنطال ذو الخصر القصير: انتظروا لحظة! بعد قليل سأسقط على الأرض!! وقد حصل هذا أمامي إذا سقط بنطال الزي المدرسي لطالبة لا تتجاوز الثالثة عشرة عند قيامها من على مقعد شركة الاتصالات، وقد أنقذ الموقف بنطال الرياضة التي كانت تلبسه تحته، وقامت برفعه بكل برود دون أي تعبير على وجهها!!! هذا يجعلنا ندرك أن الثقافة التي يتبناها لابس هذا البنطال دون أن يشعر هي: أنا مستعد لخلع بنطالي في أي حين، وأمام أي إنسان!!
فهل يستغرب بعد هذه النسبة العالية للاستشارات التي تأتي إلى الموقع في اختراق العلاقات بين الجنسين؟!
وهل يتضح حينها التناقض بين وضع غطاء الرأس مصاحبًا لتلك الثياب؟ وهل يتضح لماذا يعترض العلماء عليه ولا يقبلونه كحجاب شرعي ترتديه المرأة؟ ثقافة الحجاب قائمة على قوله تعالى: ((ولا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ)) [النور:31]، وثقافة غطاء الرأس الحالي قائمة على: انظروا إلى مفاتن جسمي كلها!!
وهل اتضح لمَ أقامت موضة الثياب الضيقة طويلًا طويلًا في العالم، وقد كان المعهود في ما مضى تغير شكل الثياب وتصاميمها -طولًا وعرضًا- سنويًا؟!! لقد حققت ما لم يحققه أي تصميم قبلها في مجال الانحلال الأخلاقي، فكيف يُستغنى عنها؟؟!
ولا أريد أن أخوض في تفاصيل التصاميم المبثوثة، فأنا أخجل من ذكر رسائل العهر التي تنطق بها، ولكن أترك لكم ولكنَّ قراءة تلك التفاصيل ورسائلها، في محاولة لتعلم تلك الأبجدية!
قد تقولون لي: قد بالغت كثيرًا!! إنما هو مجرد ألبسة تروق لنا نلبسها ولسنا نقصد شيئًا خبيثًا!!!
أقول: إن لم تقصدوا، فالثوب يقصد، وإن لم تنطقوا، فالثوب ينطق، وإنما وضع لينطق بهذه العبارات، فلن ينطق بغيرها!! يقول "فولفغانغ يوب" صاحب الماركة الألمانية الشهيرة "فوندركيند wunderkind " عن ماركته: (نريد إثارة المعهود وتحريكه، وخلق وجودية اجتماعية جديدة، وإيقاظ الرغبة والعشق)!!!
إذن الإثارة، وتغير المجتمع، وتحريك العشق هو ما وضعت له الثياب المستوردة!! وهذا مذكور حرفيًا في ملف شيرماخر في دويتشلاند!! ويقول أيضًا: (أكرر دومًا مقولة: نحن نقوم بصياغة الجوهر)!! إذن هو جوهر، وليست مجرد شكليات نتزين بها!!
وارجعوا إن شئتم فاقرؤوا ما يكتب تعليقًا على الأزياء، في مجلة الأزياء الألمانية الشهيرة: "بوردا".
- تقول لنا ثقافة الموضة اليوم: إن الجمال هو الذي ينقصك! ولا يمكنك الحصول عليه إلا باتباع آخر صيحاتي، والتذلل لما آمر بها وأنهى!! وهذا ما قررته نازك الملائكة بقولها: (مبدأ التأنق يقوم على الإقرار بأن المرأة لا تملك جمالًا، وإنما هي ناقصة، عليها أن تصنع الجمال صنعًا لتجذب عيون الرجل).
- نقول حين نرتدي الثياب المماثلة لما يرتديه نجوم الفن العاهر: هؤلاء هم قدوتي!! ومن منا يرضى لنفسه –لو فكر أدنى تفكير- أن يترك مشاهير العلماء، والمفكرين، والمخترعين، فضلًا عن الأنبياء خيرة خلق الله، ويختار هؤلاء قدوة يسير على خطاهم؟؟!
- نقول حين نرتدي ثيابًا صممتها لنا أمريكا، وأضرابُها بأيدٍ يهودية: جعلت لكم أمري، فمُرُوا ما شئتم، فأنا مُحِبكم، وأنا العبد المطيع!! تقول "نازك الملائكة" بهذا الصدد أيضًا: (والأناقة بما فيها من تكلف وصناعة، تفرض على ذهن المرأة صنوفًا شتى من العبوديات، تعمل في حياتها وهي خانعة راضخة، لا تحتج ولا تقوى على اعتراض).
فهل عرفنا لماذا لا نقوى على مقاطعة البضائع الأمريكية/اليهودية حين يُطلب منا ذلك؟ لقد غرس في قلوبنا حبها ونطقنا بذلك في مأكلنا وملبسنا، وإن كنا نعتقد أننا نكرهها ونكره وحشيتها!!
وأذكر بهذا الصدد: قريبةً لي اشترت حقيبة من الماركات الغالية، وأخذت تزهو بها وتتفاخر...، ومرة كانت في زيارة فوجدت امرأةً قد تشاجرت معها، تحمل ذات الحقيبة. فما كان منها إلا أن رمت حقيبتها تلك، وعدلت عن حملها إذ هي لا ترضى أن تشبه امرأة تكرهها!!!
هكذا يفعل من يكره، أما من يرتدي ويتبع، فينطق بأبجدية الموضة: أنا أحبكم يا أعدائي!!
هذا غيض من فيض!!
والمجال فسيح لمن أراد تعلم الأبجدية، وقراءة الموضة في كل ما يطرح في الأسواق، أو يروج له في الشاشات...
فمن أراد أن يبقى أميًا فليهنأ بالجهل وعواقبه!!
ومن أراد أن يتعلم، فقد خطى خطوة حضارية، يتطلبها عصرنا، لكن ليحذر بعد أن عَلِم، من أن يتصرف تصرف الجهَّال!!
المراجع:
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: ابن تيمية، دار إشبيليا-الرياض، 1998م، تحقيق: د.ناصر العقل.
- صحيح البخاري: دار العلوم الإنسانية-دمشق: 1993م. تحقيق د.مصطفى البغا.
-علم النفس المعاصر: د.حلمي المليجي، دار النهضة العربية-بيروت: 2000م.
- مجلة دويتشلاند، عدد شباط/آذار 2010. [نسخة مطبوعة، ونسخة الكترونية].
- مجلة الأسرة: العدد 109، ربيع الثاني 1423هـ
واقرأ أيضاً:
سيكولوجية المرأة / جغرافية الجسد... بين الفورسيزونيين والدويقيين