(الصندوق الأسود في مذبحة أتوبيس "المقاولون العرب")
عم محمود كان يعمل معي لمدة ثلاث سنوات، ولم يتأخر يوما عن ميعاده، وهو هادئ الطبع صبور وطيب (الكلام على لسان أحد المهندسين بشركة المقاولون العرب – صحيفة الوفد 9 يوليو 2010م)، وهو رجل بسيط من قرى أسيوط "متزوج من ابنة عمه ولا يعاني من مرض نفسي ولم يسبق أن تناول أي مواد مخدرة ولا يحتاج المال فهو يمتلك منزلا مكونا من ثلاث طوابق يقيم فيه مع أفراد أسرته... وأولاده متدينون ويتمتعون بخلق حسن يشهد به الجميع" (صحيفة صوت الأمة 10يوليو 2010م).
نحن إذن أمام شخص ليس له تاريخ في العنف أو الإجرام، يعيش في حاله ويتجنب الاختلاط بالجيران حتى لا تحدث مشاكل، وإذا تشاجر أحد أبنائه مع الجيران فإنه يحاسب ابنه ويسحبه إلى داخل البيت تجنبا لأي مشاحنات، وهو يعيش في منطقة عرب غنيم بحلوان ولا توجد فوارق مادية أو اجتماعية كبيرة بينه وبين جيرانه، وحسب ما نشرت الصحف المختلفة لا يوجد في سجله الطبي ما يوحي بإصابته بمرض نفسي، إذن فما الذي حول هذا الشخص المسالم الطيب الهادئ الصبور إلى شخص آخر يقتل بهذه الشراسة وينتقم بهذا العنف؟.. وإذا كانت بينه وبين بعض زملائه خلافات أو مشاحنات حول موضوع التنقيب عن الآثار أو غيرها فلماذا لم يكتف بما هو متوقع في مثل هذه المواقف من الرد اللفظي أو الشجار أو الشكوى، ولماذا لجأ إلى هذه الدرجة القصوى من العنف؟... ثم لماذا وزع انتقامه وعنفه بعد ذلك على أشخاص في الأتوبيس ليس بينه وبينهم أي خلاف؟
وكما هو الحال في نكبات الطيران نحاول أن نتفحص الصندوق الأسود لهذا الحادث (ولغيره كلما أمكن) لتفادي تكرار تلك الحوادث المروعة، وللوصول إلى أسرار النفس البشرية في مثل تلك المواقف لنفهم كيف تعمل وكيف تتحول، وما هي القوانين الحاكمة لسلوكها في مثل هذه المواقف الاستثنائية التي يصعب علينا فهمها في إطار قوانين الحياة اليومية العادية.
ولابد أن نعترف من البداية أننا نستند في قراءتنا للحدث على ما توافر من معلومات في وسائل الإعلام المختلفة، وقد تكون قاصرة بعض الشيء ومتناقضة أحيان، ولكننا مع ذلك سنحاول الربط بين ما تواتر من معلومات في أكثر من وسيلة إعلامية؛
ونعمد إلى تحليل الأحداث في ضوء القواعد التي تحكم السلوك البشري في مثل هذه الظروف لنصل إلى استنتاجات تفك شفرة الحدث وتلقي الضوء على عوامل الخطورة التي تضافرت حتى أنتجت هذا السلوك العدواني وفجرته في نفس مواطن بسيط يبلغ من العمر 54 عاما ومتزوج ولديه أسرة مستقرة ويعمل في وظيفة معقولة (بمقاييس الحياة المصرية المتواضعة).
والخطورة في هذه الحالة تكمن في صدور هذا العنف المفرط عن شخص عادي، وهذا يعني أننا أمام احتمالات صدور عنف مشابه من أشخاص عاديين آخرين يعيشون بيننا ولا ننتبه إلا إمكانية تحولهم المفاجئ إلى سلوك بهذا العنف، وربما نكون نحن أحد هؤلاء الأشخاص أو نكون ضحاياهم.
"أشارت التحقيقات إلى أن المتهم كان يثور ويغضب طوال ساعات التحقيق.. وحاول أن يضرب رأسه في الحائط أكثر من مرة كلما تحدث عن الألفاظ والكلمات التي كان يستخدمها الضحايا في التهكم عليه، فكانت لديه دوافع الانتقام لكرامته، خاصة بعد أن وصلت السخرية منه إلى ذروته، فكان الضحايا يقولون له وسط الضحكات:
إنهم يريدون أن يفعلوا به......... الأمر الذي أفقد المتهم توازنه وقرر الانتقام منهم، خاصة زميله عبد الفتاح عبد الفتاح، فأمسك بالسلاح الآلي ووضعه على النظام السريع في إطلاق الرصاص ووقف ينادي بصوت عال: ياعبد الفتاح يابن.... وظل يطلق النيران على جميع مستقلي الأتوبيس البالغ عددهم 23 موظفا" (صحيفة الدستور صفحة 2 ، 9 يوليو 2010م).
إذن فمسألة السخرية منه وما تبعها من رغبة في الثأر لكرامته مسألة محورية ومفتاحية في هذه الجريمة، ويبقى السؤال: هل كانت هذه السخرية حقيقية فعل، أم كانت متوهمة أو مبالغ فيها؟.. والإجابة على هذا السؤال غاية في الأهمية، والحصول عليها أمر بسيط، أما عن الأهمية فهي تشكل الحد الفاصل بين حقيقة موضوعية وحقيقة نفسية، بمعنى إن كانت السخرية قد حدثت فعلا فإننا أمام ثأر للكرامة مبالغ فيه تجاه شيء كان يكفي فيه الزجر أو الشكوى أو الرد بسخرية مقابلة أو إعلان الرفض أو حتى ممارسة العدوان اللفظي أو الجسدي في الحدود المتوقعة اجتماعي؛
أما إذا ثبت أن تلك السخرية لم تحدث إطلاقا وأنها توهمات (Delusions) في عقل المتهم استجاب لها بهذا الفعل الوحشي فإن الأمر هنا قد يستدعي عرض الحالة على لجنة طبية شرعية للتأكد مما لو كانت مسألة السخرية والألفاظ الخادشة للحياء والمهينة للكرامة حقيقة أم ضلالات مرضية.
والاستقصاء عن هذا الأمر ليس صعبا إذ يمكن التأكد من ذلك من خلال سؤال زملائه ورؤسائه والمحيطين به، ومعرفة ما إذا كانت لديه مشاعر أو أفكار أو ضلالات اضطهادية تجاه أناس آخرين من عدمه. أعرف أن هذا الأمر قد لا يروق الكثيرين ممن يتمنون القصاص السريع من القاتل، وممن يخشون تمييع القضية في دهاليز الطب الشرعي أو الطب النفسي، وأن ذلك يمكن أن يعطي مبررا طبيا للمذبحة البشعة، وأن ذلك يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه لكل من يقتل ويسفك الدماء تحت غطاءات مختلفة ومبررات واهية...
أعرف كل هذا وأحذر منه، ولكن البحث عن الحقيقة يجب أن يتجاوز مخاوفنا من إفلات شخص من العقاب، وقد ورد في كثير من وسائل الإعلام أن المتهم لا يعاني من اكتئاب نفسي، وكأن الاكتئاب النفسي هو المرض الوحيد الذي يدفع الشخص للقتل، في حين أن الاضطرابات الضلالية (Paranoid Disorders) تشكل خطرا أكبر في مثل هذه الظروف حيث يعتقد الشخص أن الناس تهزأ به أو تتآمر عليه أو تحاول إيذاءه، وكل هذا يكون غير حقيقي، وفي مثل هذه الحالات يرتكب الشخص جريمته بدم بارد ويشعر بالراحة بعد ارتكابها لأنه يشعر أنه قتل أعداء متآمرين يستحقون القتل.
مرة أخرى نحن لا نجزم بوجود مرض من عدمه (لأننا ببساطة لم نقم بفحصه طبيا) لدى هذا المتهم ولكن نضع هذا الاحتمال في الاعتبار ونترك لسلطات التحقيق الحق في التصرف وفقا للتفاصيل المتاحة لديه، والتي ربما لا تكون متاحة إعلاميا.
فإذا استبعدنا توهمات السخرية، وكانت فعلا سخرية حقيقية، فكيف يكون تأثيرها على رجل ذو أصل صعيدي يعتز بكرامته ويمثل له الشرف قيمة عليا لا يمكن التنازل عنها خاصة إذا كانت السخرية تطال من رجولته حين تحمل إيحاءات جنسية جارحة. بالتأكيد نتوقع أن تكون الاستجابة عنيفة خاصة في شخص عرف عنه الهدوء والطيبة والصبر، فهذه الصفات تجعله يتحمل الإهانة مرة وراء مرة ولكنه يختزنه، فيؤدي ذلك إلى تراكم شحنات من العنف بداخله حتى تصل إلى النقطة الحرجة التي تنهار أمامها محاولته لضبطها فتنفجر تلك الشحنات في كل اتجاه بشكل مدمر ومروع. ومعروف عن المصريين شغفهم بالتنكيت و"التريقة" و"المألسة" و"النقورة"؛
وأنهم إذا وجدوا في شخص ما نقطة ضعف فإنهم يستغلون ذلك ويصبح هذا الشخص هدفا لمزاحهم و"إفيهاتهم" وترويحهم عن أنفسهم، دون أن ينتبهوا لما يتراكم داخل نفس هذا الشخص من مشاعر سلبية، خاصة إذا كان هذا الشخص ينحدر من بيئة صعيدية تتسم بالجدية والصرامة ولا تعرف اللف والدوران ولا تجيد التلاعب بالكلمات (كما هي عادات البحاروه من أهل الدلتا)، وأهل الصعيد معروف عنهم الصبر والاحتمال وطول البال إلا أنه معروف عنهم أيضا عدم التهاون في مسائل الكرامة والشرف، وأنهم لا يتركون حقهم، وأن فكرة الثأر للشرف والعرض والكرامة هي من أبجديات الحياة في الصعيد.
وبالتوازي مع مشكلة السخرية والاستهزاء كانت هناك خطوط تغذي شحنات الغضب نذكر منها:
1 – "أنه يعمل بالشركة منذ ثلاثين عاما وكان في البداية يعمل سائقا لرؤساء ومديري الشركة لتوصيلهم لمواقع العمل إلا أنه فوجئ منذ عامين بصدور قرار بنقله لمقر الشركة بأبي النمرس للعمل كسائق للموظفين والعمال" (صوت الأمة صفحه13، 10\7\2010 م). وهذه النقلة تعتبر هبوطا وظيفيا فبعد أن كان ينقل الرؤساء والمديرين في سيارات خاصة أصبح ينقل العمال والموظفين في أتوبيس، "وأضافت التحريات أن المتهم أصيب باكتئاب شديد وحاول توسيط كبار الموظفين للعدول عن قرار نقله دون جدوى" (نفس المصدر السابق) في نفس الوقت الذي تم فيه نقل موظفين آخرين إلى أماكن يرغبونه، مما يفتح احتمالات الإحساس بالظلم والمهانة، والذي ربما يكمن في توجهه نحو بقية الموظفين في الأتوبيس برصاصاته وكأنه يقتص من الشركة بكل من فيه، وربما يكون ذلك قصاص رمزي من المجتمع ككل حيث عمم العنف الصادر من أعماقه على كل من أهانه أو ضغط عليه أو إذاه في حياته.
2 – هناك أنباء عن مشكلات حدثت بينه وبين جيرانه بسبب تورطهم في التنقيب على الآثار تحت بيوتهم، وقيامه بالإبلاغ عنهم مما جعله يشعر بالتهديد منهم انتقاما لإبلاغه عنهم، وفي هذا التوقيت اشترى السلاح ليحمي نفسه من إيذائهم المحتمل خاصة وقد توافر لديه المال بعد أن حصل على ثلاثين ألف جنيه دية لابنه الذي توفي في حادث.
3 – ويبدو أنه في وقت من الأوقات قرر أن يفعل مثل جيرانه وأن يحفر تحت بيته بحثا عن الآثار، وكما قيل في وسائل الإعلام فإنه اتفق مع زملاء له في العمل على أن يشتركا معه في تكاليف الحفر مقابل نسبة فيما يستخرج من الآثار، ولكنهم –طبقا لبعض الروايات- أخلا بذلك الاتفاق خاصة بعد فشله في الحصول على الآثار واعتبر هو ذلك الإخلال غدرا به، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل راح زملاؤه يسخرون منه وانتقلت السخرية وشاعت في الشركة حتى أصبح هدفا لتسليتهم؛
وقد ورد في صحيفة صوت الأمة على لسانه "عرض علي جيراني أبو عبده وأحمد الصعيدي التنقيب على الآثار أسفل منزلي إلا أنني رفضت في البداية وتوجهت لقسم شرطة 15 مايو وحررت لهما محضرا" وعن خطة تنفيذه للجريمة قال "اشتريت السلاح الآلي المستخدم في الحادث من محافظة أسيوط بمبلغ 8آلاف جنيه بهدف حماية نفسي من جيراني بعد تقديمي بلاغا ضدهما بعد أن انتابني هوس الآثار، واتفقت مع ثلاثة من زملائي بالشركة على التنقيب بمنزلي ولكنهم لم يجدوا شيئا فراحوا يسخرون مني وخططت لقتلهم قبل الحادث بأربعة أيام ووضعت السلاح الآلي أسفل كرسي القيادة، ويوم الحادث حينما استفزني زملائي بالسخرية مني فاجأتهم بإطلاق الرصاص العشوائي عليهم".
وهنا يتجسد إحباطه في الحصول على الآثار، وإحباطه مما أنفقه على الحفر، وإحباطه من زملائه الذين تخلوا عنه، وزاد على كل هذا سخريتهم منه.
وربما لو نظرنا إلى كل حدث من الأحداث التي سبقت الجريمة نرى أنه لا يبرر هذا العنف الوحشي، ولكن في علم الجريمة والعنف هناك ما يسمى بالتآزر، وهو أن تأثير الأحداث مجتمعة يعتبر أكثر من المجموع الحسابي له، بمعنى أن الأحداث المتتالية والمتزامنة تؤازر بعضها بعضا وتنتج أثرا هائلا أكبر مما نتوقعه حين ننظر إلى الأحداث مضافة إلى بعضها البعض. وإذا أضفنا لذلك طبيعة شخصية الجاني وكونه شخصا طيبا مسالما هادئا وقادما من أصل صعيدي، فإننا نتوقع أنه يصبر ويكظم غيظه، ولا يفتح مجالا للتنفيس التدريجي، بل يختزن غضبه ويشعر بالقهر الشديد، ويختل لديه في لحظة ذلك التوازن بين دوافع الغضب وضوابطه فينفجر عنفا في مشهد مفاجئ للجميع، ولذلك قالوا قديما "اتق شر الحليم إذا غضب".
كان هذا على مستوى الجريمة المذكورة بعينه، ولكن هناك دروسا مستفادة على المستوى العام ومنها أن ثمة أشخاص عاديين جدا في المجتمع المصري يرزحون تحت ضغوط متراكمة ويقتربون يوما بعد يوم من النقطة الحرجة لانفجار العنف، وهذا يفسر زيادة معدلات الجريمة في السنوات الأخيرة في مصر بل وزيادة شحنات العنف المنطلقة في الجرائم حيث هناك إفراطا في العنف والانتقام يتجاوز حدود الحدث بكثير. وربما يرجع ذلك إلى كثرة الضغوط النفسية والاجتماعية والمادية بسبب اضطراب منظومة الحياة في مصر إضافة إلى الفقر والزحام والتلوث وغياب العدل وحالة الانسداد السياسي والصمم السياسي والعناد السياسي.
وهناك ما يسمى بإزاحة العنف وهو يعني توجيه العنف إلى أشخاص ليسوا هم المقصودين أساسا بالعنف ولكنهم –لسوء حظهم- تواجدوا أمام الجاني لحظة انفجار عنفه، وهذا يضع أي شخص في فوهة مدافع العنف حتى ولو لم يكن سببا مباشرا في تفجيره، فالجاني لحظة انفجار غضبه يصب كل إحباطاته وإهاناته التي عايشها في مراحل مختلفة وظروف متباينة على من أمامه بصرف النظر عن مسئوليته عن ذلك.
كما أن ثمة حالات مصابة بأمراض نفسية لا ينتبه إليها أحد وتصل في لحظة حرجة إلى انفجار العنف، فيظلمها المجتمع مرتين: مرة بإهمال علاجها ومرة بتوقيع العقوبة عليها دون اعتبار لظروف مرضها.
وأخيرا فإن قواعد تراكم العنف، وتآزر العنف، والنقطة الحرجة للعنف، وإزاحة العنف لا تتوقف عند الأحداث الفردية بل تنطبق أيضا على سلوك الشعوب، وهو ما يستوجب اليقظة خاصة وأن الشعب المصري في السنوات الماضية لديه الكثير من أسباب التراكم والتآزر والإزاحة، وبقيت فقط حالة الوصول إلى النقطة الحرجة التي لو حدثت (لا سمح الله) فإنها تهدد بكوارث لا يعلم مداها إلا الله، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
واقرأ أيضا:
نبوءة نجيب محفوظ للبرادعي وزويل / هل ما زال للعمال عيدا؟ / المصريون من الحراك إلى العراك / انتحار البراءة