الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن أحكام الشريعة الإسلامية في النصوص الشرعية القرآنية تتوجه إلى المكلفين بصيغة الجمع غالباً، سواء كانت مطلوبة من كل فرد مكلف، أم كانت مطلوبة من الهيئة الاجتماعية للأمة ممثلة بشخص ولي الأمر؛ لأن ولي الأمر يمثل الهيئة الاجتماعية وينبثق عنها.
وأعني بالأحكام المطلوبة من كل فرد: تلك الفروض العينية؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج والأخلاق وغيرها، فقد جاء الخطاب فيها موجها إلى الأمة والمراد كل فرد مكلف من أفرادها.
من ذلك قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله).
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وقوله سبحانه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين).
أما الأحكام المطلوب تنفيذها من الهيئة الاجتماعية ممثلة بولي الأمر: فهي لا توجه إلى كل فرد من أفراد الأمة، بل تتوجه إلى المجتمع من خلال ولي الأمر فيه. لأن هذه الأوامر يتوخى منها تحقيق مصلحة مقصودة، وليس تكليف كل فرد بعمل معين؛ فالمطلوب مثلاً معاقبة المجرم والأخذ على يده، وليس المطلوب قيام كل فرد بمعاقبة المجرم. والمطلوب وجود من يحقق للمجتمع مصلحة التطبيب، أو غير ذلك من المصالح، وليس ممارسة كل فرد للطب أو غيره من الاختصاصات...
ومن أهم هذا الأحكام أحكام العقوبات الشرعية؛ وهو مقصد الموضوع الذي نحن بصدده، فإنها وإن كان الحكم قد جاء فيها بصيغة الجمع، إلا أن الذي يتولى تنفيذه السلطة القضائية وحدها، وإنما جاء الحكم بصيغة الجمع لأن القضاء إنما يمثل إرادة الأمة، بالإضافة إلى أنه يرعى مصالح وأمن وحرمات الأمة. ولذلك فإن معاقبة المجرم واجب فرضه الله على الأمة من خلال السلطة القضائية.
فالسلطة القضائية هي وحدها المخولة بمعاقبة المجرم المرتكب لأي جريمة نص الشارع على تحريمها وتجريم فاعلها، وليس من حق الأفراد أن يقوموا بتنفيذ العقوبة المشروعة أو أي نوع من الانتقام أو نحوه بالمجرم، إنما يتولى معاقبة المجرم المجتمع ممثلاً بولي الأمر أو السلطة القضائية.
ومن ثم فإنه ليس من حق أي فرد في المجتمع الإسلامي، حتى وإن كان أبا أو نحوه، أن يباشر تنفيذ الأحكام؛ بدءاً من التجريم وانتهاء بالعقوبة؛ فإن وصف فعل ما بأنه جريمة إنما يعود تقديره إلى القانون والسلطة القضائية، أضف إلى ذلك أن إثبات تجريم شخص ما يتطلب إجراءات هي من اختصاص القضاء، وليس متروكاً لتقدير الأفراد، هذا فضلاً عن العقوبة؛ لذا فإن من واجب المعتدى عليه أن يرفع الأمر إلى السلطة القضائية التي تحقق في الدعوى، ثم تصدر الحكم، ثم تنفذه.
وبما أننا نتحدث عن موضوع محدد هو ما يسمى (جريمة الشرف)، والتي يقصد بها أن يتولى أحد الناس معاقبة المعتدي على عرضه، أو على من يخونه من أهله. وبعبارة أخرى أن يتولى الفرد معاقبة من مارس الفاحشة أو نحوها في أهله أو من يخونه من أهله.
ولا شك أن جريمة ارتكاب الفاحشة أمر خطير و سبب خطورتها:
1- بشاعة جريمة الزنا وما ينجم عنها من انتهاك للقيم الأخلاقية التي أمرت الشرائع باحترامها والتمسك بها، وإساءة لسمعة الأسرة.
2- كون هذه الجريمة تؤدي إلى اختلاط الأنساب، ومن ثم إلى الاتهام بالخيانة، وتؤدي إلى التنصل من المسؤوليات التي تترتب على العلاقة الزوجية ونتائجها المادية والمعنوية.
3- إثارة الغيرة الفطرية نتيجة معرفة المرء بوجود علاقة محرمة خارج إطار الحياة الزوجية. أو إقامة علاقة لموليته مع رجل خارج إطار الحياة الزوجية المشروعة.
إلا أن ذلك كله لا يخول الفرد أن يتولى معاقبة المجرم بنفسه، مما يؤدي إلى نوع فوضى، أدناها ما يسمى بجريمة الشرف.
أيها الإخوة والأخوات؛
إن البداية الحقيقية لمعالجة مشكلة ما يسمى بجريمة الشرف إذا كنا جادّين في ذلك إنما تتمثل في حماية المجتمع من أسباب الجريمة، وذلك بنشر الفضائل، ومنع ترويج الرذيلة ومعاقبة من يشجع عليها في جميع المجالات. إن الوقاية من عوامل الإغراء بالرذيلة والانحراف هو الشرط الأول لمنع جريمة الشرف.
إن المجتمع الذي تنتشر فيه مظاهر الإباحية والتحلل مجتمع يتجه نحو الانتحار، ويسير نحو نهايته. لأنه مجتمع تتقوض فيه الأسرة، فإذا تقوضت الأسرة انهار المجتمع، ولا أدل على ذلك من الحالة التي يتجه إليها المجتمع الغربي الذي تقوضت فيه الأسرة، فهو يجني الثمار المرة لذلك في ظاهرة الضمور السكاني، وقتل الطفولة وتناقص الشباب... [ويضيق الوقت عن بيان تفصيلي لذلك].
وإن أي إنسان يتمتع ببقية من إحساس فطري وغيرة على أسرته ومجتمعه يثيره أن تجري في بيته الخيانة والانحراف، بل إن هذه التجاوزات تشكل خطرا يهدد سلامة الأسرة والمجتمع معاً، كما أنه ينتهك من حرمة القيم الدينية والأخلاق.
وبما أن النظام العام مستمد من القانون السائد في بلادنا فإن أسئلة ترد هنا:
- هل يجرم القانون السائد في سورية الفاحشة ومقدماتها؟
- وهل وضع القانون العقوبات الرادة التي تحمي الأسرة والمجتمع من آثار الفواحش؟
- وهل تقوم السلطة القضائية بواجبها تجاه هذا النوع من الجرائم؟
ذلك لأن المجتمع ينتظر من القانون والسلطة القضائية التي عهد إليها بتنفيذه أن يحققا له الأمن والكرامة، وحماية الحرمات والقيم وحقوقه المادية والمعنوية.
فإذا حققت نصوص القانون ذلك، وقامت السلطة القضائية بتنفيذ واجبها بتطبيق تلك النصوص نحو المنتهكين لحرمات المجتمع والأسرة بالعقوبة، ونحو أبناء المجتمع بالحماية والدفاع عن الحقوق والحرمات والقيم، فإن الفرد والمجتمع سيتمتعان بنوع من الطمأنينة بأن كرامتهم وحرماتهم مصانة، ويثقان بأن القانون والسلطة القضائية سيحميان حقوقهم وحرماتهم.
أما إذا كان القانون أو السلطة القضائية لا يكترثان لبشاعة الفاحشة، ولا يحققان ما يمكن أن يردع المعتدي ومنتهك الحرمات والمستخف بالقيم الأخلاقية، فإنهما بذلك يشجعان الفرد على أن ينتقم لكرامته وحرماته ومقدساته بنفسه، مما يؤدي إلى الفوضى وانتشار الجرائم، وأن يتحول المجتمع إلى نظام الغابات وعالم التخلف.
إن ما يسمى بجريمة الشرف لون من ألوان الفوضى سببها غالباً عدم تحقيق القانون والسلطة القضائية لحماية الحرمات التي يحرص المجتمع عليها، في حين يجب أن يكون القانون والقضاء انعكاسا لمعتقدات المجتمع وتطلعاته وقيمه وأعرافه، بل يجب أن يكونا التصور الأمثل للمجتمع النظيف وحصنا للحرمات والقيم.
ولعل هذه الجريمة تجري بسبب حالة انفعالية نتيجة مشاهدة المرء للجريمة على فراشه أو في بيته، وعندئذ قد لا يتحمل الشخص الأثر النفسي الذي يتعرض له، ويكون وقع الخيانة أو العمل المشين على نفسه شديداً، وردّة الفعل الناشئة عنها لا يملك السيطرة عليها... فإذا ثبت ذلك لدى السلطة القضائية فإن عليها أن تراعى هذه الحالة بالنظر إلى فقد المرء السيطرة على نفسه عند حصول مثل هذا الأمر، ولذلك جعل القانون من الحالة النفسية عذراً مخففاً.
وإن كان المرء في نظر الشريعة لا يملك الحق في معاقبة المجرم خارج إطار القضاء.
والخلاصة:
1- أن تنفيذ العقوبة بالمجرم ينحصر بالقضاء، وبموجب النص المجرم والمحدد لنوع العقوبة ومقدارها.
2- أن حماية المجتمع من أسباب الجريمة بنشر الفضائل ووقايته من عوامل الإغراء بها هو الباب الأول لمنع جريمة الفاحشة التي هي سبب وقوع جريمة الشرف.
3- أن القانون والقضاء إذا وضعا الروادع الفعالة للجرائم التي تنتهك الحرمات وتروج للفواحش فإن من شأن ذلك أن يحد من وقوع ما يسمى بجرائم الشرف. أما إذا لم يضعا الروادع الفعالة لتلك الجرائم فإن الكثير من الأفراد قد يسعى للانتقام، ومعاقبة من أساء إلى حرماته بنفسه، وهو أمر خطير يهدد سلامة المجتمع وأمنه.
أرجو للقائكم هذا أن يكون مثمراً، وأن يصل إلى خير يرضي الله وينفع المجتمع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
واقرأ أيضاً:
المجرم الأخير!!!