"انتحر طالب بالصف الأول الإعدادي (12سنة) بالإسكندرية لعدم رغبته في الذهاب للمدرسة، فقد قام بشنق نفسه بحبل مربوط في عرق خشبي بسقف حجرة أعلى سطح البيت"
حين قرأت هذا الخبر انتابني مشاعر مختلطة منها الشفقة ومنها الدهشة ومنها الغضب ومنها الحيرة، إذ كيف تهون الحياة على طفل في هذا السن؟... وكيف اختل توازنه النفسي حتى يصبح الموت عنده أفضل من الحياة؟.... وما هي الظروف الأسرية التي عاشها؟.... وما هو حجم الضغوط المدرسية والدراسية التي تعرض لها في السنوات الماضية؟.... وكيف أصبحت المدرسة منفرة والدراسة موحشة إلى هذا الحد؟.... ومن المسئول عن وصول طفل إلى هذه الحالة من الإحباط واليأس؟... أهي الأمية التربوية لدى المدرسين والقائمين على العملية التعليمية؟.... أهي الأمية النفسية لدى الأسرة والمجتمع بحيث لم يستشعر أحد معاناة الطفل حتى وصل إلى هذه الحالة؟.
ويطارد خيالي مشهد هذا الطفل وهو يصعد إلى سطح المنزل لا ليلعب أو يطّيّر طيّارة ورقية –كما كان الحال من قبل- ولكن ليقف على كرسي ويربط الحبل في العرق الخشبي، ثم يلفه حول رقبته، ثم يضرب الكرسي بقدميه الصغيرين ليشنق نفسه هربا من جحيم المدرسة أو من جحيم الحياة التي يعيشها هو وأسرته.
وتتوالى الصور من حوادث انتحار الأطفال في السنوات الأخيرة: طفلة عمرها 9 سنوات انتحرت بسبب سوء معاملة زوجة أبيها لها، وتدهور مستواها الدراسي..... انتحار طفل في قرية للأطفال بالإسكندرية حيث وجد معلقا في سقف حجرته يرتدي كامل ملابسه، وقد قام بشنق نفسه بجنزير حديدي لمروره بأزمة نفسية قيل إنها بسبب سوء معاملة المشرفين والمشرفات على الدار..... طالب في الإعدادية يلقي بنفسه من فوق سطح منزله لحصوله على درجات متدنية وخوفه من عقاب والده.... طالبة في الصف الثاني الثانوي تلقي بنفسها من شرفة غرفتها بعد فشلها في الحصول على المجموع الذي تريده وتريده أسرتها للالتحاق بأحد كليات القمة..... طفلة في الحضانة تتحدث لأمها عن رغبتها في أن تموت لأنها لا تستطيع فهم دروسها بالشكل الذي يرضي أباها... طفلة في الصف الثاني الابتدائي تقف على كرسي لتقفز من فوق سور البلكونة وينقذونها في اللحظات الأخيرة والسبب هو ضغط الدراسة والواجبات.
قد نرى مثل هذه الأحداث في بلدان أخرى ولكنها تكون متناثرة ولا تشكل هذا الزخم الانتحاري المقلق في هذا السن، فمن المعروف أن الانتحار يكون نادرا في الأطفال، حيث يقضون وقتهم في اللعب واللهو والمرح، ولا يتحملون مسئوليات كثيرة، ولا يدركون من مشكلات الحياة وضغوطها كما يدرك الكبار، وأنهم في حماية ورعاية من والديهم ومن المجتمع.
فهل يا ترى انتقلت الضغوط والمعاناة من الكبار إلى الصغار حسب نظرية الأواني المستطرقة، أم أن وعي الأطفال زاد عن ذي قبل وأنهم كبروا قبل الأوان وعانوا ما يعانيه الكبار؟... أم أن العملية التعليمية يشوبها خلل هائل أحدث ضغطا على الأسرة حين استنزف جهدها ومالها ووقتها بلا عائد وأحدث ضغطا على الأطفال بلا مبرر؟
قد نفهم بسهولة لماذا تضاعفت نسب الانتحار في مصر فزادت خمس أضعاف في عام 2010م مقارنة بعام 2005م، ولكن لكي نفهم الزيادة في انتحار الأطفال ربما نحتاج إلى مزيد من القراءة والتحليل للظاهرة وخاصة في ارتباطها بالعملية التعليمية.
منذ سنوات والجميع يشهد بتدهور العملية التعليمية في مصر بدءا بالمقررات ومرورا بالمدرسين وانتهاءا بنظام الامتحانات (ولا أحد يفعل شيئا). ولا يخفى على أحد دخول الدروس الخصوصية على الخط بحيث كانت في فترة نوعا من التعليم المساعد، ثم تحولت إلى نوع من التعليم الموازي ثم أصبحت الآن تعليما بديلا للمدارس، وأصبح الذهاب للمدرسة بلا جدوى في نظر الطلاب، وحين يذهبون فهم يفعلون ذلك مرغمين لتفادي تجاوز نسب الغياب والفصل من المدرسة. وقد أصبحت المدارس خالية من الطلاب خاصة في مرحلتي الثانوية العامة حيث يجد الطلاب أن من الأجدى لهم أن يذهبوا إلى الدروس الخصوصية، وأن وقت المدرسة يعتبر وقتا مضيعا.
ولم يتوقف ضعف دور المدرسة على الجانب التعليمي بل ظهر هذا الضعف أكثر جلاءا في الجانب التربوي الذي يكاد يكون قد تلاشى في المدارس الحكومية والخاصة على حد سواء، حيث لم يعد أحد يهتم به أو حتى يشعر بجدواه فالمدارس تضع أمام أعينه –إذا وضعت- درجات آخر العام، تلك الدرجات التي تهيئ للطالب في الثانوية العامة دخول ما يسمى تجاوزا وخطئا بكليات القمة. ولما أصبحت الدرجات هي الهدف (وليس العلم) استعان أولياء الأمور بالمدرسين الخصوصيين المحترفين ليصنعوا من أبنائهم وبناتهم "كائنات امتحانية" تحقق درجات تتجاوز الدرجات النهائية (في مشهد لا يحدث في أي مكان في العالم أن يحصل طالب على 105%)، وراحت قيمة العلم وتلاشت أهمية التربية، وأصبح الجميع يعيش حالة تنافسية ضاغطة على أعصاب الطلاب وأولياء الأمور والمدرسين.
ولما كانت الدرجات هي الهدف حاول الطلاب بتأييد ومباركة من أولياء الأمور وإغماض عين من لجان المراقبة، الحصول على الدرجات بالغش، أو الحصول على الامتحان قبل موعده، وهكذا تلوثت العملية التعليمية بما تلوث به الشعب المصري في السنوات الأخيرة من الغش والتزوير والتلفيق على مستويات أعلى. وقد باءت كل المحاولات –إن كان ثمة محاولات جادة- بالفشل لوقف تسريب الامتحانات إلى الدرجة التي تقرر فيها هذا العام نقل امتحانات الثانوية العامة بواسطة طائرات عسكرية!!!!! وهو أمر مثير للدهشة والحيرة، إذ لم يعد أحد مؤتمن على أسرار الامتحانات.
وقد أحدث هذا ضغطا هائلا على الشرفاء من الطلاب وأولياء الأمور واختل ميزان العدل، إذ قد يحصل طالب ضعيف المستوى على الدرجات النهائية بالغش ويأخذ فرصة طالب مجتهد رفض أن يغش، ومن هنا بدأ الخلل في الحياة المصرية حيث يتعلم الطالب مبكرا أن العدل مفقود في هذا المجتمع، وأن الحياة فيه تحتاج إلى طرق ملتوية وغير شريفة لتحقيق الإنجاز المطلوب، وأن النجاح ليس مرتبطا بالضرورة بالعمل الجاد والصدق والأمانة والإخلاص، بل قد تكون تلك القيم الإيجابية غير مجدية في هذا المجتمع... كل هذا يسبب خللا هائلا في ميزان القيم في وعي الطلاب في هذا السن المبكر. ومن ينجح بالغش يستمر في حياته على هذا المنهج فيرتشي بعد ذلك ويلفق القضايا ويزور الانتخابات ويسرق أموال البنوك بلا ضمانات ويشكل قاعدة واسعة للفساد.
وهذا ما يطلق عليه الكتّاب والمفكرون "انهيار العملية التعليمية"، وهو في الحقيقة ليس انهيارا فقط في العملية التعليمية بل "انهيار في العملية التربوية" و"انهيار في بناء المنظومة الأخلاقية" و"انهيار في المنظومة النفسية" و"انهيار في المنظومة الوطنية" و"انهيار لقيمة العدل وتكافؤ الفرص".
وعلى الرغم من كل تلك الانهيارات التي يسببها الخلل متعدد المستويات في العملية التعليمية، فإن تلك العملية تشكل استنزافا لموارد الأسرة المصرية بلا عائد حيث يتخرج الطالب ويحصل على شهادة لا تتيح له فرصة عمل ويحصل قبل ذلك على تعليم لم يمنحه مهارات تؤهله لسوق العمل فيحدث إحباط للطالب وإحباط للأسرة ولكن الجميع لا يجد بديلا متاحا لهذا التعليم المتدهور فيستمر التنافس للوصول إلى اللاشيء، ويظهر التعليم الخاص ليعطي الناس أملا، ولكنه لظروف خاصة يتحول إلى وهم. وتبقى الوظائف مرهونة بعوامل أخرى مثل الرشوة والوساطة والمحسوبية. كل هذه العوامل أهدرت العلم كقيمة واستبدلته بدرجات امتحانية بلا معنى، وأهدرت التعلم كقيمة واستبدلته بشهادة ورقية لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولنعود مرة أخرى إلى انعكاس هذه السلبيات على الحالة النفسية للطلاب وأولياء الأمور، فنرى عزوفا من الطلاب عن الذهاب إلى المدارس ثم بالتالي احتياجا شرها للدروس الخصوصية. وإدراك الطلاب لانعدام أو ضعف قيمة الشهادة التي يحصلون عليها في النهاية يجعل الدافع للدراسة ضعيفا لديهم مما يستلزم ضغوطا متوالية من الآباء والأمهات لكي يذاكروا ويحققوا أعلى الدرجات (لاحظ أنه لم يعد أحد يفكر في العلم أو في القدرات والمهارات ولكن فقط في الدرجات والتي أصبحت هي الهدف)، ومن هنا اضطربت العلاقة بين الأبناء من ناحية وبين والديهم من الناحية الأخرى حيث أصبحت هذه العلاقة تتحدد بمدى التزام الطلاب بما يريده منهم والديهم في الأمور الدراسية، ومن هنا تراجعت تلك العلاقة الأبوية الفطرية الدافئة في البيوت واستبدلت بعلاقة محورها المذاكرة والامتحانات وتحصيل الدرجات، وهذا يفسر حالات العناد والتمرد من الأطفال في كل البيوت تقريبا والشكوى المزمنة من الآباء والأمهات من أن هؤلاء الأطفال لا يسمعون الكلام ولا يحرصون على مصلحتهم.
ثم ننتقل إلى المدرسة لنرى حالها في الوقت الحالي:
فمن ناحية البنية نجد أن كثيرا من المدارس تخلو من الحدائق والملاعب وصالات الأنشطة، بينما تتكدس بالفصول الأسمنتية الكئيبة والمظلمة، وإذا انتقلت إلى دورات المياه فإما أنك تجدها محطمة أو تجدها مليئة بالقاذورات. قد تكون هناك استثناءات في بعض المدارس الخاصة عالية المصروفات، ولكن القاعدة تميل إلى أن تكون البنية المدرسية منفرة أو على الأقل غير جاذبة.
أما من ناحية البنية البشرية من إداريين ومدرسين فنرى أنهم في حالة لا تتيح لهم أداء وظيفتهم وهم منشرحي الصدر مرتاحي البال فالمرتبات غالبا متدنية، والأحوال الاجتماعية متدهورة، والظروف النفسية ضاغطة، وربما يخرجون معاناتهم في حياتهم في صورة معاملة فظة في بعض الأحيان أو في صورة لا مبالاة بالعملية التعليمية في أحيان أخرى.
والجو العام في المدارس عموما يخلو من اللمسات الوجدانية الإيجابية، فالمدرس في حالة "زهق" و"قرف"، وهو مضغوط من الإدارة لإنهاء المناهج الكثيفة في موعدها، ولهذا السبب ولغيره تقلصت الأنشطة المحببة إلى نفس الطلاب مثل الأنشطة الرياضية، أو المسابقات أو الرحلات، أو الأنشطة الفنية، وأصبح المتاح هو التعليم الجاف الخشن المنفر، علما بأن سن طلاب المدارس يحتاج لعمليات تلطيف للمادة التعليمية وأن تكون مقترنة بأنشطة استمتاعية وترفيهية، ومقترنة قبل ذلك بعلاقة ودودة محبة من القائمين على تلك العملية وهو ما يغيب بشكل كبير عن مدارسنا أو عن معظمها.
وتظهر صورة الاضطرابات جلية في فترة الامتحانات حيث تشاهد حالات الإغماءات وتسمع الصراخ والعويل في اللجان وتظهر الأعراض الهستيرية في الطالبات والطلاب، وقد حدث في بعض اللجان أن قام عشرات الطلاب بتمزيق أوراق الأسئلة وأوراق الإجابة احتجاجا على صعوبة الامتحانات. وقامت طالبة في محافظة البحر الأحمر بمحاولة إلقاء نفسها من الطابق الثالث أمام لجنة الامتحانات، وطالب آخر من الإسكندرية حاول الانتحار داخل لجنة الامتحان بعدما كسر الشباك الزجاجي وتم إنقاذه في اللحظات الأخيرة. كما قام أولياء الأمور باقتحام إحدى مقار الامتحان في لجنتين بمدرستين في القاهرة بعدما سمعوا صراخ بناتهم في الداخل، ووقف عشرات من أولياء الأمور يتظاهرون أمام ديوان عام وزارة التربية والتعليم مرددين هتافات ضد الوزير ومطالبين للرئيس بالتدخل لإنقاذ أبنائهم. ويقوم الإعلام بعملية تسخين قبل الامتحانات وأثنائها وبعدها بما يوحي أننا نعيش حالة طوارئ شديدة الوطأة على الجميع.
هذا الجو المضطرب يجعل درجات القلق ترتفع كثيرا قبل الامتحانات مما يجعل كثير من الطلاب غير قادرين على التركيز وتظهر لديهم أعراض التوتر النفسي فتقل ساعات نومهم أو تزيد بدرجة ملحوظة ويصبحون أكثر انفعالا وحساسية وتزداد لديهم الأعراض السيكوسوماتية مثل الصداع والقيء والإسهال، وتزيد لديهم السلوكيات الهروبية فيقضون أوقاتا طويل أمام التليفزيون أو على الإنترنت أو يقررون عدم دخول الامتحانات. وهنا يزداد ضغط الأسرة على الطالب على اعتبار أنه مستهتر ولا يحرص على مصلحته فيزداد توتره وهروبه من المذاكرة والامتحانات، وربما يود لو يهرب من الحياة نفسها.
ونعود لما بدأنا به: كيف تتكون الفكرة الانتحارية لدى طفل وكيف يصل إلى قناعة بأن الموت أفضل له من الحياة؟
باختصار شديد فإن الآباء والأمهات يشعرون أنهم مرهقين ومستنزفين في التعليم والدروس الخصوصية وأن أبناءهم لا يقدرون ذلك ولا يشعرون بالمسئولية، وتتحدد علاقة الأبوين بما ينجزه الطفل في المدرسة بحيث يشعر الطفل أن أبويه لا يحبانه لذاته وإنما لما يحققه من تفوق دراسي، وهنا تختزل العلاقة –على الأقل في عقل الطفل- في مسألة الإنجاز الدراسي.
وقد يكون الطفل غير قادر على تحقيق توقعات أبويه في التفوق الدراسي أو حتى الاستمرار في المدرسة، وهنا يشعر الطفل بأنه أغضب أبويه وأنه سبب لتعاستهما وأنه فاشل وسيء وعاق، وهنا يتوجه إحباطه وغضبه نحو ذاته فيدمرها في لحظة يشعر فيها أنه قد خسر الحياة مادام قد خسر حب والديه، خاصة وأن الوالدين بالنسبة للطفل هما العالم كله. ويساعد على خيار الانتحار ما يشاهده الطفل عبر وسائل الإعلام من حالات انتحار لدى الكبار تزداد يوما بعد يوم تحت وطأة الحياة القاسية والضاغطة على الجميع بلا رحمة.
بعد هذا الاستعراض لأزمة الطفل وأزمة الأسرة وأزمة التعليم في بلادنا فإن الأمر يستدعي مراجعة لدوائر ومناطق كثيرة في حياتنا... فمثلا نحن نحتاج أن نمحو أميتنا التربوية فنفهم احتياجات أطفالنا في مراحلهم المختلفة، وأن نمحو أميتنا النفسية فنستشعر معاناة الطفل وأحاسيسه خاصة وأنه في هذا السن لا يستطيع التعبير عنها بشكل مباشر بل تظهر في صورة اضطرابات سلوكية كاضطراب النوم والشهية أو العصبية الزائدة أو العنف والتمرد. ويحتاج الأمر دورات تربوية للوالدين للإحاطة بكل هذا.
أما العملية التعليمية والتربوية في المدارس فهي تحتاج لرؤية مختلفة تماما عما هو سائد في الوقت الحالي بحيث يعود الطلاب إلى حب مدارسهم واحترام مدرسيهم في مدرسة جاذبة لهم من حيث الشكل والأنشطة ومعاملة البشر. ولو أنفقنا كشعب وحكومة غالبية مواردنا وجهدنا في إصلاح التعليم فإننا نكون قد حققنا أهم هدف وبدأنا مسيرة التنمية الصحيحة فكثير من نماذج النهضة لدى الأمم المختلفة بدأت بإصلاح التعليم، أما لو استمر الحال –كما هو الآن– فسيتوالى انتحار الأطفال والكبار بما يشكل حالة انتحار لوطن بأكمله.
_________________________________
إذن فثمة تزايد لحالات الانتحار في الأطفال والمراهقين، وثمة ارتباط وثيق بين الضغوط الدراسية وبين غالبية حالات الانتحار
واقرأ أيضا:
هل ما زال للعمال عيدا؟ / المصريون من الحراك إلى العراك / النقطة الحرجة في العنف / الخطيئتان الأعظم في حياة المصريين