إذا ما وجه لي سؤال عن أجمل بقاع الأرض التي أتيح لي أن أراها سأرد على الفور، "كوردستان العراق" جبالها الشاهقة المكسوة بالخضرة الخصبة، الباقية على حالها منذ أن انتظم كوكبنا في مداره، هذا الممر الطويل المتعرج، ممر كلي علا بك، والذي يعتبر أعجوبة منتظم الطبيعة؛
البحيرات فوق الجبال الكهوف العميقة التي تجمع فيها المال فاتخذ أشكالا غريبة، القرى القابعة في الوديان الخضراء بعيدا عن الطرق المأهولة، أو عند السفوح، هذا الجمال الطبيعي يكتمل بالجمال الإنساني والذي يتجسد في الشعب الكردي سيء الحظ، فبقدر جمال المنطقة بقدر ما عرفت حروبا شرسة وحملات إبادة، معظمها جري في العصر الحديث.
والمثير للتأمل أن من يقرأ التاريخ الوسيط لن يجد مشكلة كردية، بالعكس. كان الأكراد جزءا أصيلا من الحضارة العربية وأزالوا عن العالم العربي والإسلامي الخطر الصليبي. ولست بحاجة لكي أذكر ب صلاح الدين الأيوبي الكردي، وخلفائه.
بدأت المشكلة مع دخول الاستعمار إلى المنطقة، سواء كان تركيا أو إنجليزيا ومع ظهور الحركات القومية في العالم العربي التي لم يكن لديها رؤية واضحة أو واسعة الأفق في التعامل مع القوميات الأخرى، تلك الموجودة في قلب العالم العربي، أو التي تتعايش معه، وإلى جواره، وهنا أشير إلى سعة أفق الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي تنبه إلى تلك المشكلة مبكرا، ودعا إلى ضرورة تفاعل وتفهم القومية العربية للقوميات الأخرى، وفي حوار خاص معه، قال لي أنه كان يتطلع على الأكراد في شمال العراق، وإلى جنوب السودان.
هكذا انتبه جمال عبد الناصر إلى أهمية تلك النقطة، فسعى إلى علاقات وثيقة بالأكراد، ويرجع أول لقاء جلال الطلباني بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى أوائل الستينات، جاء إلى القاهرة ضمن وفد عراقي، وكان يرتدي الملابس الكردية التقليدية،
ويبدو أن الرئيس انتبه إلى شخصه وإلى تميزه فعامله معاملة خاصة، ومن ذلك الحين بدأت صلة وثيقة بينه وبين الأستاذ هيكل ما تزال مستمرة حتى الآن، ولجلال الطلباني جانب ثقافي مجهول يكشف عنه الحوار الذي أجراه معه الزميل ياسر عبد الحافظ في كوردستان العراق، ويتضمنه بستان العدد الذي يستهدف إقامة صلات ثقافية مباشرة بين الثقافتين العربية والكردية،
وإذا كانت هذه الصلة موجودة ومستمرة عبر التاريخ بحكم الواقع، إلا أن العمل على تعميقها الآن بالتحديد يكتسب أهمية خاصة لجميع الأطراف، ينظم جلال الطلباني الشعر، ويتحدث في حواره عن إعجابه بالجواهري في الشعر، وعن ماوتسيتونج في السياسة، وعن هيكل في الفكر الحديث، كما يتحدث عن الصلات بين الثقافتين، وعن وضع اللغة العربية وإقرارها في التعليم العالي، في البستان أيضا حوار مطول؛
لعله يكون الأول في الصحافة الثقافية العربية مع الشاعر العظيم شيركوبيكس، وهذا الشاعر أول من نبهنا إليه الصديق طلعت الشايب الذي ترجم له العديد من قصائده على صفحات أخبار الأدب عن اللغة الإنجليزية، إلى أن تمكنا من الحصول على ترجمات لشعره من اللغة الكردية إلى العربية مباشرة فنشرناها على الفور.
لا أبالغ إذا قلت أن شيركوبيكس واحد من أعظم شعراء العالم، وإذا كان الاهتمام بالأدب العربي في كوردستان موجودا، فإن اهتماما مقابلا يجب أن يتعمق، وإذا كان الزميل ياسر يسأل عن تراجع اللغة العربية في كوردستان، فإنني أنوي التوسع في الاهتمام باللغة الكردية، ونشوء حركة ترجمة مباشرة عنها باللغة العربية، وهذا ما نحرص عليه في أخبار الأدب، وإن كان المترجمون من الأصدقاء الأكراد، لقد قمنا من قبل قصائد للأكراد الذين يعيشون في سوريا.
وبستان هذا العدد خطوة مهمة في سبيل التواصل الثقافي بين ثقافتين عريقتين تفاعلتا على امتداد التاريخ.... باستثناء فترات عصيبة قصيرة في التاريخ الحديث.
إننا نفكر في المستقبل ونتطلع إليه، ولا نبالغ إذا قلنا أن التواصل الثقافي بداية حقيقية للمعرفة، وعندما تتعمق المعرفة ينتفي سوء الفهم، ويوضع حد لأولئك الذين يصيدون في الماء العكر. لقد تكبد الزميل ياسر عبد الحافظ مشاق رحلة صعبة إلى كوردستان العراق لكي يعود إلينا بثمارها.
0 هذا البستان الذي يعد الأول من نوعه في الصحافة المصرية –وربما العربية- ويضمن رؤية ثقافية عميقة هي منطلقنا للعلاقات بين الثقافات المتجاورة، المتداخلة، بعيدا عن أي رؤية قومية محدودة الأفق، وجهدا صحفيا رائعا على مستوى الأداء المهني، وليس هذا البستان إلا بداية، فسوف نقدم في أعدادنا القادمة أشعارا كردية وقصصا ومقالات ورؤية مباشرة بدون وسيط.
واقرأ أيضا:
أسبوع في مصر المحروسة: زمن القاهرة / فتوى بتحريم التماثيل الكاملة