أثارت هذه القضية المطروحة حول مفهوم العلمنة وخطاب مجانين، على هذا القسم الجديد أخبار وتقارير مجانين اهتمامي، لأنني قد لاحظت منذ زمن طويل–أي منذ أن كنت أنا على مقاعد الدراسة في المدرسة– أن هناك مشاكل كثيرة في الخطاب الديني.. والإصلاحي على وجه التحديد..
وبحكم عزلتي عن العالم، لم أكن أعرف ما يدور خارج جدران منزلي ومدرستي، ولهذا فقد كنت أحاول جاهدة البحث عن حلول لهذه المشاكل، بل لقد كنت حين أُفصح عن أفكاري أُتهم بالجنون بل وبالخروج من الملة، باعتبار أن ما أعارضه هو قول الله تبارك وتعالى!!
وعندما تغير المقعد الذي أشغله من تعلم إلى تعليم، أخذت أطبق ما أراه أنا صحيحا، وما كنت أحاول أن أستشفه من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة.. كنت مولعة ولعا شديدا بقراءة السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين وحياة الصحابة، كنت أريد أن أفهم كيف كان يشعر هؤلاء الناس وكيف كانوا يفكرون.. والحقيقة أنني رأيت الكثير والكثير من الأمور، ولكن تفسيرها وتأويلها من "العلماء" حرفها عن وجهها الصحيح، لماذا؟
لأنهم يريدونها دليلا على ما يذهبون إليه، أصبحت النصوص هي التي يُؤتى بها لتدلل على الفكر، بعد أن كان الأصل هو أن نذهب إليها لنستقي منها الفكر!! ولكن الله تعالى تكفّل بهداية الباحثين عن الهداية والباذلين لها، وهذا ما كان.. وله الحمد والفضل والمنة..
بدأت في عملي بالتدريس–منذ حوالي6 سنوات- بتغيير الخطاب الديني، والحقيقة أنني لم أكن أعرف ما هي نتيجة هذه الخطوة لأنها كانت خطوة جديدة وغير مسبوقة في مجتمعي، وبالتالي فلا أعرف نتائجها، بدأت بالتوجه إلى الطلاب بخطاب ديني عقلاني، يبين لماذا شرع الله لنا هذا، ولماذا أوجب علينا ذلك، ولماذا حرم علينا ذاك، بعد أن كانت الموجة السائدة هي أنه لا يجوز البحث في علل الأشياء، كل ما لنا أن نفعله هو السمع والطاعة فقط؛
حتى دون أن نفهم أو نقتنع، بل ليس من المهم أن نفهم أو نقتنع، والحقيقة أن هذه الطريقة تقضي أولا بأول على كل إبداع فكري فقهي جديد يمكن أن يولد في جنبات عقولنا، وهذا ما حدث معي.. حيث اكتشفت مؤخرا أن استنتاجي المنطقي في إحدى المسائل الفقهية –وهذا ما يسمى في الدين بالاجتهاد– المبني على أسس وقواعد الفقه الإسلامي هو استنتاج صحيح، وقد جاءت فتوى لأحد العلماء الكبار موافقة له..
أخذت أتأمل كم من القدرات العقلية والذهنية والابتكارية تم وأدها بذاك المنهج القديم البالي في فهم الدين وتطبيق أحكامه.. وأولهم أنا.. حسبي الله ونعم الوكيل..
بل لقد كنت أجد تناقضا كبيرا بين الكثير من القضايا، وخصوصا قضية: لا يجوز السؤال ولا يجوز البحث وراء العلل، والحجة في ذلك هي أنه: ألا نطيع إلا إذا عرفنا السبب، ألا يكفي أن نعرف أن الله هو الذي قال لنطيع، يا لنا من جاحدين، نحن بهذا إذاً نسير على خطى بني إسرائيل!!
لم يكونوا يعرفون أنه لا بد من بناء العقلية العلمية الناقدة المنطقية أولا، ثم بعدها يكون التسليم، وهذا هو المنهج الذي تم عليه بناء عقول الجيل الأول من الصحابة والتابعين.. وأن السؤال المنهي عنه ليس سؤال من يريد أن يزداد علما وفهما لقواعد الشرع الحنيف، وإنما سؤال المعترض والمشكك الذي يريد الإفساد لا الإصلاح..
وهذا بالضبط الأسلوب الذي أسأل الله أن يوفقني في استخدامه مع طلّابي .. والحقيقة أن استخدامي لهذا الأسلوب هو ما يجعل لكلماتي صدىً مسموعا لدى الجيل الذي أعلّمه، وخصوصا أنه من فئة عمر ما فوق الخامسة عشرة .. وأول ما أبدأ معهم به هو: حرية التعبير عن الرأي فهذا مهمة جدا سواء للكبار أو للصغار.. اسمعوا معي لهذه التجارب:
* عندما كان أخي الصغير –11 سنة الآن– في الخامسة أو السادسة من عمره وجّه لي سؤالا: هل الله مات ولهذا ذهب إلى الجنة؟؟ الصغير قد استنتج بعقله أن لا بد وأن يكون الله قد مات حتى ذهب قبلنا إلى الجنة وأننا حين نموت سنلحق به.. الحقيقة أن سؤاله هذا جعلني أضحك كثيرا.
ولكنني لم أنهره ولم أعنّفه، فقد كنت أعرف أن الطفل في مثل هذا العمر لا يفهم كثيرا للأمور الغيبية والمجرّدة.. وأجبته بإجابة بسيطة: الله ليس في الجنة، بل الجنة هي عند الله عز وجل.. والله كبير ولا يموت.. لو كان غيري هو الذي وجه له هذا السؤال لكان نصيب الطفل التعنيف لأنه قد نطق بكلمة الكفر!!
*منذ حوالي أسبوعين كنت في الصف الثاني الثانوي، وكنت أتحدث لهم عن ثواب رمضان، وجئتهم بمثال: أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها500 سنة لا يقطعها، وإذا بأحد الطلاب ينفجر ضاحكا، لم يستطع أن يستوعب هذه المعلومة!! وأخذ يضحك ويضحك، والمسكين حاول أن يوقف ضحكه ولم يستطع، فماذا فعلت؟؟
عرفت أن هذا الفتى لا يعرف شيئا لا عن الجنة ولا عن الله عز وجل، فهل يحق لي أن أوبخه لقلة أدبه هذه، لا والله، لو فعلت ذلك لكنت مجرمة في حقه فمن واجبي أن أعرّفه وأبصّره بربه لا أن أتصرف معه بطريقة تنفره من ربه..
فانتظرت قليلا وأنا أبتسم، إلى أن هدأ ضحكه قليلا، فقلت له: ألا تستطيع أن تصدق أن في الجنة مثل هذه الشجرة، فلم يرد: فقلت له: أريد ردا لو سمحت، وأريد أن أرى ردك أنت وأفكارك أنت، لا تقل لي ما يجب أن يقال، ولكن قل لي أفكارك أنت.. فقال:
لا، لا أستطيع أن أصدق.. فقلت له: عدم تصديقك فيه وجهة نظر، لأن هذا أمر لا نستطيع أن نتصوره بعقولنا نحن، والحقيقة أنني حين أخبرتكم بهذه المعلومة فأنا لم أخبركم بها عن معاينة، فأنا لم أرى الجنة ولم أذهب إليها قبل الآن، يعني أنا أخبرك بشيء لم أره، ولكني متأكدة من أنه موجود، هل تعرف لماذا؟؟ لأن هناك رجل صادق جدا أخبرني بذلك وهو:
محمد بن عبد الله.. وانتهت الحصة، وخرجت من الصف، ولكنني قبل أن أخرج لاحظت تغيرا واضحا على وجهه متأثرا بجوابي، ربما جوابي لم يقنعه تماما، ولكن ما أنا متأكدة منه أنه تأثر كثيرا لطريقتي في معالجة هذا الموقف..
0 سيدي، تصور لو أنني لم أنظر للأمر على أن هناك شابا لا يعرف شيء عن ربه وسيضل إن لم أتداركه بأسلوب عقلاني لجذبه للدين، وليفهم دينه بشكل صحيح.. أنا أعرف كيف تكون ردة الفعل التقليدية في مثل هذا الموقف:
أقل شيء طرد الطالب من الفصل الدراسي، واتهامه بالكفر والزندقة، وهذا يفتح له باب كبير جدا إلى الكفر فعلا، لنفرض أنه كفر فعلا بعدم تصديقه لوجود هذه الشجرة، علينا نحن كمربين.
وكمتزعمين للتوجيه الديني أن نتفهم الدوافع لهذا الخطأ، وأن نعالجه بأسلوب المشفق الرحيم، لا بأسلوب المنتقم المتشفي.. سيدي، والحمد لله وله الفضل والمنة، هذا الأسلوب جعل الكثيرين والكثيرات من طلابي وطالباتي يغيرون نظرتهم للحياة، ويبدؤون في صياغة مفاهيم حياتهم من جديد.. وأنا سعيدة أن الله جعلني أداة أبصّر للجيل الناشئ بربهم أسمعهم به. وأسأله أن يستعملني ولا يستبدلني..
أنا أوافق الأخ أحمد في ما قاله وفي نظرياته هذه، ولا أكتب مشاركتي هذه إلا لأدلل على صحة نظرياته بتجربتي.. وها أنا يا أخ أحمد مثال عن رجل الدين المثقف العصري الذي تقترحه في مشاركتك، وهذا هو ما سيؤثر فعلا في الجيل الناشئ.. أما أسلوب القمع والرهبة والتخويف، فما عاد يجدي نفعا، ويا ليته نفع من قبل، لم ينفع إلا في زيادة انغلاقنا وتعطيل عقولنا وانحدارنا في مهاوي التخلف..
وأما فيما يتعلق بباقي نظريات المقال، فأصدقكم القول أنني لا أستطيع الإدلاء برأيي في المسائل السياسية والاجتماعية الكبرى مثل التي تطرحها لأنني وببساطة لا أفقه فيها كثيرا، أحاول أن أفهم، ولكنني لم أصل بعد إلى درجة تمكنني من اتخاذ وجهة نظر.. ولهذا فلا أستطيع المشاركة إلا في المجال الذي أحسنه.. فأرجو المعذرة .. أسأل الله لنا جميعا التوفيق في جهادنا هذا، وأن يتقبله منا ويجعله خالصا لوجهه الكريم.. وأسأله أن يتقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يجعله ذخيرة لنا لنستطيع متابعة هذا المشوار الشاق.. ولكن.. فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون..
ودمتم سالمين ..
25/10/2004
شكرا لك يا أختنا الكريمة وأنتِ تفتحين ملفا بل ملفات:
الخطاب الديني وتكوين الذهنية والنفسية العربية المسلمة، وما تصفينه بناء على تجربتك هو جزء كبير من الواقع للأسف، ويكمله أن نرصد محاولات هنا وهناك، ونبرز ضرورة قصوى وملحة بإصرار لظهور تيار إسلامي عقلاني منفتح راشد كما ينبغي وكما هو الأصل في دين الإسلام كونه عقلانيا ومنفتحا وراشدا.
وبالمناسبة فإن الحديث عن العقل لا يلغي الجوانب الأخرى التي يتميز بها الإسلام في النواحي الروحية والعاطفية، ولكنه بتضافر مع كل هذه النواحي وغيرها ليتكامل تركيبا سيجمع بين الواقعية والمثالية على نحو ينفرد به إسلامنا الجميل.
يحلو لنا اتهام الأعداء، ولعن الظروف وتعليق أخطائنا على مشاجب غيرنا فالشعوب تلوم الحكومات، والحكومات تتهرب وتتهم الإرهاب الداخلي أو الضغوط الخارجية أو التحديات المصيرية... الخ، وقوى الإصلاح مضغوطة من جانب، ومتخبطة في جوانب، أحيانا تلوم الناس لتقصيرهم، وغالبا تشتم الحكومات لفسادها وتقاعسها واستبدادها، ونظل ندور في الدوائر المفرغة مثل الثيران معصوبة العينين التي تدير السواقي غير أنها لا تحمل ماء ولا تروي عطش أراضي البوار فتموت الكفاءات أو تهاجر لتزرع نفسها في تربة ثلوج الغربة بالمشارق والمغارب..... وهكذا!!!
والحل هو ما تطرحيه من خلال تجربتك، وهو ببساطة أن نكف عن لوم المخطئين، وأن نندب أنفسنا للإصلاح فتتحول حياتنا فرديا وجماعيا إلى ورشة عمل وتجريب وإصلاح وتعليم وتدريب، وشكرا لمشاركتك.
**ويضيف الدكتور وائل أبو هندي ، الأخت العزيزة كم أسعدتنا مشاركتك، وكم لمت أخي ابن عبد الله لأنه تأخر في التعليق عليها، والحقيقة أنني أتفق معك تماما فيما ذهبت إليه من تحليل وقياس، وأرى أن أهم ما يجبُ علينا العمل فيه الآن على مستوى الأمة هو ذلك التفكير بأسلوب جديد حتى فيما يتعلق بما تعلمناه دون فهم في الصغر، خاصةً ونحن نمرُّ الآن بمرحلة تختلف عن كل ما سبق من مراحل، ذلك أن التوجه الماديَّ الغربي أصبح مفضوحا؛
وواضحة نقائصه وشروره لأهل الأرض كلهم، وكما قال لي أحمد عبد الله بالأمس وأنا أذكرُ له ما قرأته ويدل على كثير من التأثير الغربي في الفكر والتوجه في الصين، فقال لي للأسف لا يستطيع الصمود في وجه الفتنة الغربية غير الإسلام، وعلى أي حال أدعوك وأدعو كل أصدقاء مجانين إلى البدء معنا فيما اتفقنا على تسميته"ورش العمل" على منتدى مجانين على الخط، حيث نطلب من صاحب كل خبرة وكل قدرة في أي منحى من مناحي حياتنا وتعاملاتنا أن يشارك بخبرته مثلما أنت دائمة المشاركة بارك الله فيك ودمت سالمة لمجانين.