نشرت جريدة القاهرة في عدد 29/12/2004 عرضا لكتاب: علم ولكنه ليس بحتا Impure Science تأليف روبرت بيل، كتب بيومي قنديل:
مؤلف هذا الكتاب يعمل أستاذا للاقتصاد بروكلين بجامعة مدينة نيويورك وهو يبدأ بالإشارة إلي أن بعض أعضاء المجتمع العلمي في الولايات المتحدة قد غزوا تيارا متنناميا باستمرار في مسعاه نحو إخضاع البحث العلمي للنفوذ السياسي والحلول الوسط (= شيلني وشيلك) والتدليس. لكنه في نفس الوقت يؤكد أن الأغلبية الساحقة من العلماء لم يكونوا مشاركين في الأمر بشكل مباشر إلا أنه يأخذ عليهم الوقوف موقف المتفرج الصامت أو تحويل أنظارهم إلى نواح أخرى ويفصح المؤلف عن القلق تجاه هذا التيار نظرا لما يشكله من تأثير ضار على الدواء الذي نتناوله والكباري التي نعبر عليها يوميا والمباني التي نسكنها وشتى مظاهر حياتنا.
ويقول: إن هذا التيار يعمل على تقويض القاعدة العلمية والتكنولوجية للولايات المتحدة وبالتالي يضعف القدرة التنافسية، للاقتصاد الأمريكي الذي نكسب خلاله قوتنا. ويمضي إلى القول بأن كتابه يعتمد على مصادر أصلية تشمل الأدلة الموثقة المستمدة من القضايا التي رفعت أمام المحاكم والتحقيقات التي أجرتها جهات حكومية والشهادات التي أدلى بها أصحابها بعد حلفانهم اليمين والمعطيات التي توفرت بناءا على قانون حرية الوصول إلى المعلومات والحوارات الشخصية.
ويشير إلى انكبابه على تحليل عدد من الحالات في ميادين مختلفة من ميادين البحث العلمي لإثبات أن الأمثلة المتوفرة تشكل جزءا من نمط وليست مجرد حوادث فردية ويخلص إلى القول بأنه يهدف في نهاية المطاف إلى الكشف عن أن المجتمع العلمي في الولايات المتحدة لا يزيد ولا يقل في"نقائه ونزاهته" عن الآلية السياسية التي توفر له الرعاية والتمويل!!
يعيد المؤلف إلى الأذهان الافتتاحية التي نشرها "دانييل كوشلاند" رئيس تحرير مجلة ساينس "العلم" وذكر فيها أن التدليس في المجال العلمي نادر. وقرر " كوشلاند" في افتتاحيته أن9999 و99 بالمائة من الأوراق العلمية "دقيقة وصادقة"، غير أن كلا من وليم بروود ونيكولاس وايد اللذين ألفا كتبا أثار جدلا واسعا فور صدوره حول التدليس في المجال العلمي وقفا موقفا معارضا وأكد أننا نستطيع أن نتوقع أن هناك نظير كل قضية تدليس كبري تخرج للنور في هذا المجال؛
توجد مائة أو نحو ذلك تجري "كلفتتها" دون أن يشعر بها أحد وينقل المؤلف عن دراسة أجرتها إحدى الجامعات الكبرى من بين32 % من الباحثين الذين يشتبهون في إقدام إحدى الكليات على تزوير المعلومات العلمية لم يرفع 54 % منهم تقريرا ما بذلك إلى أي جهة أعلى فضلا عنهم إنهم لم يحاولوا التثبيت من شبهادتهم سعيا وراء المال.
يقول المؤلف أن العلماء لا يستطيعون إجراء بحث علمي دون توفر المال. ولذلك فإن الحصول على منحة مالية فيدرالية والخضوع، بالتالي للقواعد الفيدرالية المنظمة أصبح من بين الخصائص التي تميز المجامع العلمي في الولايات المتحدة ويذكر تقرير صدر في الآونة عن مكتب تقييم التكنولوجيا أن هناك أبحاثا أكثر باستمرار مما تستطيع الحكومة الفيدرالية توفير اعتماد لإجرائه، وهو الأمر الذي نوع من التكالب بين الباحثين في سبيل الحصول على تمويل فيدرالي لبحوثهم.
ويشير إلى أن المؤسسات استجابت ل 31% فقط من الاقتراحات المقدمة إليها في سنة 1989 مقابل 38 % قبل ذلك بعشر سنوات ويضيف المؤلف أن هناك ثلاث آليات للحيلولة دون وقوع التدليس العلمي الآلية الأولي "المراجعة المناظرة" وخلالها تقوم لجنة من المختصين في كل ميدان على حدة لتحديد مدى استحقاق مشروع البحث المقترح للتمويل والآلية الثانية "التحكيم"
وبموجبها ترسل الأوراق إلى مراجعين لأخذ آرائهم في جدارة هذه الورقة أو تلك في النشر العلمي أو التعديل أو الرفض، وتتمثل الآلية الثالثة في إعادة إجراء نفس التجارب لمعرفة ما إذا كانت ستعطي نفس النتائج التي أعطتها النتائج السابقة.
ويقرر أن هذه آليات رائعة على المستوى النظري وحسب فالسرية التي تغلف الآلية الأولى تجعلها عرضة للانحدار إلى الفساد عن طريق خلق صراع مصالح من جانب المراجعين الذين يحاولون الحصول على التمويل لأبحاث في نفس المجال من جانب وصمت الباحثين الذين رفضت مشروعات أبحاثهم عن عيوب النظام من جانب آخر وامتناع رؤساء تحرير الدوريات العلمية عن طلب الدراسات التي ينقد فيها أصحابها أعمال زملائهم من العلماء أو تشير من قريب أو بعيد إلى وجود تدليس في هذه الأعمال يقوض فاعلية الآلية الثانية، أما الآلية الثالثة فخاضعة تماما لنقص التمويل المتوفر لإجراء الأبحاث المطلوبة فما بالك بإجراء تجارب للتثبت من صحة نتائج أبحاث سابقة.
0وفي الفصل الثالث يقول المؤلف أن مطالب الكونجرس لتوفير الرعاية لهذا المشروع أو ذاك من مشروعات البحث العلمي ليست القوة الوحيدة في تكييف التمويل الحكومي في هذا المجال.
ويشير إلى أن الجالس في البيت الأبيض يقوم أيضا في بعض الأحيان بدفع العلم بعيدا عن الضوابط الرشيدة التي تعتمدها الآلية الأولي أقصد المراجعة المناظرة.
ويذكر في هذا الصدد برنامج حرب النجوم كمثال كلاسيكي فقد أعلن الرئيس السابق "رونالد ريجان" في خطاب ألقاه يوم 23 مارس 1983إننا سوف نتمكن من تدمير الصواريخ العابرة للقارات قبل أن تصل إلى الأراضي الأمريكية أو أراضي حلفائنا..
وحث "ريجان" أعضاء المجتمع العلمي الذين أعطونا السلاح النووي أن يوجهوا مواهبهم الآن إلى هذه القضية التي تهم البشرية والسلام العلمي أي أن يوفروا لنا الوسيلة التي تحمينا من أخطار هذه الأسلحة وتجعل منها عديمة الفاعلية ويعلق المؤلف على ذلك بقوله"ما من شيء كان ليقوض إيمان الجمهور بالعلم ويهز ثقته فيه أكثر من مثل هذه المبالغة الهائلة في قدرة أي مشروع علمي على ما يستطيع تحقيقه".
*ومن شأن الترويج الهائل وهو سمة غالبة على كل مشروع علمي ضخم أن يدمر العلم لسببين:
الأول: ينطوي ذلك العمل على إساءة استعمال الثقة بصورة بالغة فأحد العلماء المشهورين أو عدد محدود منهم تؤازره الأضواء يقود المشروع دون أن ينطوي الأمر على مسوغات علمية كبيرة ويجد العلماء الذين يدعون إلى التريث أو التعقل أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه إذ أنهم يعارضون علماء مشهود لهم في ذلك التخصص وفي النهاية عندما يفشل المشروع في الارتفاع إلى مستوى التوقعات التي علقت في البداية عليه يكون الجمهور قد فقد كثيرا من ثقته في العلم والعلماء ويكون العلماء أصلا قد أهدروا وقتا ثمينا في تصديهم للهراء.
الثاني: أن المبالغة في الترويج لمشروع ما يؤدي – بالضرورة إلى ضخ اعتمادات ضخمة كان من الممكن أن تتجه إلى مشروعات أخرى أجدى أو عدم إنفاقها على الإطلاق ويفرد المؤلف الفصل الرابع لثلاث قضايا من قضايا التدليس العلمي الأولى قضية . د. برويننج، والثانية قضية " دارسي " والثالثة والأخطر قضية "بالتيمور"
*قضية د . برويننج:
مثل د."ستيفين برويننج" 1988 الحاصل على شهادة الدكتوراه من معهد الطب النفسي بجامعة بوتسبورج أمام القاضي الفيدرالي كي يعترف بأنه مذنب بتهمتين تتعلقان بدس تقارير ملفقة في أبحاث أنفقت عليها الخزانة الفيدرالية ويبدو أن كل تقاريره كانت من نفس النوع وكل التجارب التي ادعى إجرائها لم تجرى، ومما يدعم هذه النتيجة حجة الكارثة التي أدى إليها تطبيق النتائج التي قال أنها أسفرت عنها فقد اعتمد المعالجون على نطاق الأمة الأمريكية بأسرها على هذه النتائج المزورة في تحديد نوع وحجم الجرعة التي أعطوها للأطفال الذين يعانون من مرض التخلف العقلي الحاد بينما كان يتعين عليهم أن يعطوهم مسكنات نظرا لميل هؤلاء الأطفال إلى إيذاء أنفسهم قاموا بإعطائهم منشطات!!، الأطرف أن الرجل الذي عمل على مثوله أمام القضاء كان أستاذه السابق د."روبرت سبراجي"
*قضية دارسي:
كان د."يوجين براونفالد" من جامعة هارفارد أستاذ في أ .ل.د جون دارسي في معهد الطب التابع للجامعة عندما شاهد ثلاثة من الزملاء دكتور دارسي وهو يفبرك المعلومات في بعض التجارب التي نشر عنها ما يقرب من مائة ورقة بحثية خلال سنتين اثنتين. وكان أن أبلغوا دكتور براونفالد الذي رفض تصديقهم، لكنه راقب بنفسه أعمال د.دارسي طيلة الشهور الخمسة اللاحقة. ولم يجد هناك ما يشين تلميذه إلا أن د.دارسي اعترف بأنه ارتكب تدليسة واحدة في مسيرته العلمية، وهو الأثر الذي أفقده وظيفته في هارفارد وحال في نفس الوقت دون تقديمه للمحاكمة
*قضية بالتيمور:
تعد هذه القضية في رأي المؤلف أشد القضايا سواء في مجال البحث العلمي. ويبدو أن السبب في ذلك راجع إلى أن بطلها هو د.دافيد بالتيمور رئيس جامعة هي جامعة روكفلر وحاز على جائزة نوبل في سنة 1975 فضلا عن محاولته الحاذقة التي وصلت مشارف النجاح في تقديم كبش فداء ولو حدث ذلك لعرفت القضية الآن باسم د.مارجوت أوتوول التي كانت لتحمل على عاتقها زورا ما أقدم عليه آخرون وتدور القضية حول تلفيق معلومات أساسية في ورقة بحثية نشرتها مجلة سيل "خلية" في مجال علم المناعيات أي أنواع المناعة الجسمية ضد الأمراض وهي ورقة ترأس د.بالتيمور فريق العمل الذي أجرى البحث المنشور. وقد انتهت القضية إلى التقديم د.بالتيمور لاستقالته من منصبه كرئيس لجامعة روكفلر في 2 ديسمبر/كيهك 1991 وسحب النتائج التي وردت في الورقة المشورة.
00ولا يجب علينا أن نمضي هنا دون التأكيد على نقط مضيئة في مثل هذا المناخ:
- وجود مجتمع علمي قوي يوفر الحماية للمنهج العلمي. وبالتالي لأعضائه المستقيمين
- وجود ضمير مهني يجعل الجميع حريصين على صون ما يحافظ على أعضائه احترام بني وطنهم لهم.
- وجود توازن دقيق بين الجريمة والعقوبة بعيدا عما يسمى عندنا بالردع الذي يؤدي في غالب الأحيان إلى تحويل الجريمة من بسيطة إلى مركبة وفي نهاية المطاف إلى طمس كل ضمير ولعل ذلك المناخ هو الذي يوفر إمكانية إصلاح كل انحراف فور اكتشافه وليس تبريره كلما حدث ونجح أحد في اكتشافه وتجرأ وأعلن عما اكتشف.
عن جريدة القاهرة عدد 246 الصادر بتاريخ الثلاثاء 28/12/2004
اقرأ أيضاَ :
مقال الطب والأطباء والدواء مهزلة (1) مشاركة/ الطب والأطباء والدواء مهزلة: (1)/ براءات الاختراع غير بريئة!!/ التعليم أيضا مهزلة وليس الدواء فقط.