للون الرمادي قصة تحكيها لنا خبرات الحياة، ونزعات النفس الإنسانية، وآلامها، وآمالها، لتقدم عمقا صادقا لقضايا الإنسان..
ومع صفحات هذه القصة، تتوارى في حِس القارئ الأحكام المطلقة، إذ يتغلغل فيض الرمادي في وجدانه ليحرره من سطحية الضدين الأبيض والأسود، وشَرَك بهرجة ألوان الطيف.
ورحلتنا في عالم الرمادي، تجوب آفاقا نحتاج إلى استجلاء صورتها في مرايا نفوسنا، لتعكس فهما صافيا، وعطاء صادقا تستقيم به حياتنا، ونحسن على هداه تربية أبنائنا، والأخذ بمجتمعنا نحو قيم الحق والفضيلة.
الذل والشر
ثنائية يصنعها القهر والألم،، وهي لشدة بأسها تطال أشد النفوس طهرا، وتسعى لتدنيس النقاء في قلوب صالحة رزحت في بعض أيـامهـا تحت ضيم الاستبداد، لتظل تصارع نزعـات الشر في أعماقها.. ولا ينتصر الخير دائما!
ولنقف مع لقطة دقيقة تبرز هذه الثنائية، ينقلها لنا الأديب الكبير يحيى حقي في مذكراته:(خليها على الله) يقول:[ذات يوم خرجت لأمر عاجل فلم أجد إلا الحمار الأبيض... وأطلق المعلم ورائي صبيا جديدا لم أكن أعرفه، دهشت حين وجدت الحمار يقفز لكل زقة من العصا خطوتين بدلا من واحدة، لم أفطن أول الأمر للسبب، ولكن شيئا في قلبي أنزلني عن الحمار؛
وتناولت العصا فإذا بي أجد أن هذا الصبي قد ثبّت فيها مسمارا حادا ليغرزه في لحم الحمار المتعب، ثارت نفسي لهذه القسوة الحمقاء الغاشمة إلا أنني عجبت بين فعل الذل في الحمار: لا يزيد عن مقاومة سلبية، وفعله في هذا الصبي، إنه يخاف أن يضربه المعلم إذا تأخر عن موعده المرسوم، وكان خيرا له أن يسير الحمار هذه الخطوة البطيئة لئلا يلهث وراءه ويتصبب عرقا، وله فيّ شاهد يستغفر له، ولكن الذل جعله يتطوع بإلحاق الأذى بالغير ولو إضرارا بنفسه، وهكذا دائما الصبي الأذل أشد قسوة من المعلم الظالم]
والصورة تتكرر في كل بيت سيم الأطفال فيه من الأبوين أو أحدهما صنوف الهوان النفسي باسم التربية الحازمة، والتي يخلط كثير من الآباء بينها وبين التسلط المريع، الذي يكسر نفس الابن، ويفقده الإحساس بكرامتها. ثم تكون الطاعة التي تبدر من الابن ظاهرا، هي الستار التي يخفي وراءه عقدا نفسية، قد تفتح أبوابا للذل والشر في نفسه ومجتمعه.
والتأمل يدلنا على صور جديدة، تمتد لتشمل كل فعل إنساني، جافته الرحمة، وهجرته العدالة، ليرسم بيراع الذل خطوطا رمادية خفية لنفوس ظاهرها المسكنة، وباطنها الشر والقبح.
الإسلام و النمطية:
هذه ثنائية أخرى، لكنها ثنائية سمتها التضاد لا الاجتماع، وهذان الضدان تلازمهما عجيب، إذ أن إثبات الأول يعني انتفاء الثاني في حقيقة الأمر، لا ظاهره!
وإذا كنا قد جعلنا اللون الرمادي رمزا لعمق قضايا الإنسان، وتشابكها، فإن أحكام الإسلام تشكل معلما بارزا في عالم الرمادي الكبير!
أحكام تقدم نهجا شاملا مستوعبا لجميع النفسيات والطبائع بنسق عجيب يؤلف بين المفترق في ثقافة تقوم على احترام الآخر داخل الإطار وخارجه!
ولنظل داخل الإطار ونعني به الأحكام القطعية في الإسلام، وهي عقيدة وفقها محدودة لتجمع في داخلها الأطياف المتعددة منهجية وفكرا، ثم تأتي المساحات الرمادية الجميلة المتمثلة في اتساع مساحة الظنيات في مسائل الحلال والحرام، فضلا عن المستحب والمكروه والمباح.
وفي هذه المساحات الرمادية داخل الإطار تتعدد الأنماط بما يتواءم مع طبيعة الحياة القائمة على التنوع، وتحقق مقصدا عظيما من مقاصد الإسلام وهو رفع الحرج، الذي يوازي ما نسميه الإحساس بالسلام الداخلي، والقدرة على التفاعل المتزن مع الآخرين، والذي به تطيب الحياة، وندرك جمالها.
جهازنا العصبي لا يغفر لنا أبدا!
هذه الكلمات هي جزء من عبارة قرأتها قديما للأستاذ الكبير عبد الوهاب مطاوع -رحمه الله رحمة الأبرار- ناقلا إياها عن أحد الأدباء العالميين: الله قد يغفر لنا أخطاءنا، لكن جهازنا العصبي لا يغفرها لنا أبدا!
ولهذا علاقة وثيقة بالمساحات الرمادية التي نتحدث عنها، فمفهوم الخير والشر في نفوس كثير منا يقترن بالمطلق، الأبيض والأسود، لاسيما وقد عضد ذلك طرح ديني يرسخ في نفوس الناس هذا المعنى، إما بإلغاء سعة الدين في تشريع المختلف فيه، باعتماد فقه الأرجحية، وحصر الناس في خط واحد إذ ما سوى الراجح عند أصحاب هذا النهج اتباعه خلل وتهاون، وهو ما تحدثنا عنه آنفا في كلامنا عن الإسلام والنمطية، أو الخلط في منازل الذنب، بما يجعل المسلم في جلد مستمر للذات بسبب حرج شديد يقع فيه لعدم انفكاكه غالبا عن ذنوب يعم الابتلاء بها.
كم من شاب ظل يعاني سنوات طويلة من احتقار النفس، والشعور بالدونية لفعل دعاه إليه ضعف ألم به، ويحرمه ذلك من هدوء نفسه، ويقف حائلا بينه وبين التواصل المتزن مع ذاته والآخرين، تاب عن ذلك الفعل أو لم يتب.
والإسلام حين يرغب في التوبة يهيئ لها أسبابها، من إنزال الذنب منزلته، فالمبالغة في تقبيح الجرم في غير موضعها لا تختلف في سوء عاقبتها عن التهوين من الذنب، كلاهما قد يكون سببا في فتح باب الاجتراء على الحرام، وهذا في الذنب المتفق على تحريمه .. والصورة تكون أشد بشاعة في الذنب المختلف في تحريمه، والذي قد تدعو الحاجة في حال ما إلى إتيانه، فيقدم عليه صاحب التوجه(النمطي) وهو يعتقد أنه يقدم على جرم قبيح، ولو كان يفقه لكان في سعة الشرع سعة له!
جهازنا العصبي لا يغفر لنا أبدا، وإن كنا واثقين في سعة رحمة الله، لكننا نظل نعذب أنفسنا بإسقاطات طرح ديني قاصر، يخلط بين الصغائر والكبائر في ميزان الذنوب، فتختل المنظومة الأخلاقية والمقاصدية الجليلة التي تنتظم بها حياة الفرد والمجتمع.
شتاء مهجور:
وفي بعض الأزقة الرمادية تهيم الروح بلا مستقر، ويصبح العقل مكبلا بإسار الضباب، يشعر بهذه المعاني أحيانا من عاش في غربة عن نفسه أو وطنه أو من يحب.
الروائية اللبنانية رينيه الحائك التقطت هذا المعنى ونقلته لنا في بعض ما كتبت، تقول على لسان البطل في قصتها:(بلاد الثلوج) والتي تصور طرفا من مأساة الحرب في لبنان:" في رسائل غادة حكايات دائما عن مصابين مشلولين، عن أشخاص في غيبوبة دائمة، عن شبان يفقدون عقلهم بعد بتر أطرافهم، والكثير من الجثث والمعارك.. أتساءل من أين يستمد ثلاثتهم هذه القوة ليعايشوا كل هذا الألم، كل هذا الخوف في المستشفى، فأنا رغم بعدي أخشى الرسائل، أؤجل فتحها، أو حتى استلامها من القادمين. تعبت من العيش على حدود الأشياء، لا أنا هناك ولا أنا هنا، كأني أهوي داخل ثقب أسود".
وفي قصتها(شتاء مهجور) مشهد آخر من مشاهد تيه الروح والعقل:"كنت متعبة وجاء يزورني بعد انقضاء أكثر من شهرين على غيابه، كانت غيبته تطول أحيانا ستة أشهر على الرغم من زياراته المتباعدة، وطوال فترة معرفتي به كان شديد الرقة، ولذلك غضبت من لهجته الساخرة في آخر مرة رأيته فيها، كلما تطرقت إلى حديث، يهزأ مني ويسخف آرائي، لذلك تفوهت بكلام لئيم، وقلت له:
وأنت من تكون، لك ألف وجه، وأكاد لا أعرفك، كأنك لست إنسانا، لا تريد أن تتأثر بشيء، لا تريد أن تحب أو أن تكره لفرط أنانيتك ولشدة حرصك على سعادتك البلهاء. نظر إلي، وأدار ظهره، فتح الباب وخرج .... ". اهـ
في مرحلة التيه هذه قد يفقد الإنسان إحساسه بالحياة، والخروج منها يتطلب إرادة قوية، ومواجهة صادقة مع النفس، وحسن سياسة لها، لتصبح قادرة على التكيف الفاعل والبنّاء مع ذاتها ومع من حولها.
كلمات من نور:
بنور هذه الكلمات نستلهم هداية نفوسنا من الرحيم الحكيم، لتنير لنا درب الحياة، وتفتح آفاق الحكمة في وجداننا فهما وسلوكا.
قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي، وترد بها ألفتي، وتصلح بها ديني، وتحفظ بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتبيض بها وجهي، وتلهمني بها رشدي، وتعصمني بها من كل سوء."
* أ. صفية الجفري : بكالوريوس دراسات إسلامية/جامعة الأحقاف.
واقرأ أيضاً:
أوهام مصرية عن المرأة السعودية مشاركة / حكايات صفية : نسيم أهل الحجاز