الكلمات التي ستُلامس جُدران عيونكُم, ليسَت كلمات لمُzشكلة تنتظر حلاً, لأن أسوء ما كان سيحدث قد حدَث حقاً وإنما, هي همهمات ساخرة تريد نصحا لحياة أمست تضيق ذَرَعَاً بكلِّ مقوماتها.
القصة تبدأ بتكرار أزلي لسُنة كونية: رجلٌ يهوى امرأة, وامرأة تتكهرب حتى الصميم بحضوره بحياتها وتجد نفسها ممزقة بسكاكين اللهفة لأنفاسه الرجولية فوق عنقها. تضادان شهيان, يندمجان بإتحاد مقدّس في بوتقة الإنسان. أحببتها, لأربع سنوات أحببتها, ومازلت, وكانت سنوات قاسية بكل المعايير. كان علينا أن نبدأ من الصفر.
من طريقة نطق أسمائنا نبدأ, من تقبّل أعمارنا المتساوية نبدأ, من مفهومنا للدين نبدأ. عصبيّة هي, تعاني من أوهام أزليّة أنها كائن قد يُسخر منه أو يُجرح في أيّ لحظة, ولا مفرّ من أن أقع ضحية إملاقي بكلمة بغير محلها, إذ تتحول بعد سويعات لطامة تجبرني على أن أفكر بطريقة لحلها. لا أنكر, كنت أبالغ بغيرتي أو ببعض شكوكي بفترة ما, لكني لم أشك بأنها المرأة التي سأهدر دمي لأجلها لتطلب الأمر.
كانت فتاة رائعة, لا بجمالها البدوي الآخّاذ فحسب, بل بروح العصفورة الشاعرة.. حتى صوتها كان عصفوريا, ونحافتها واتساع عينيها السوادوين كذلك. كلّ شيء يذكرني بالعصافير فيها. عليّ أن أعترف- بوقت يكون فيه الاعتراف كطلقة بالعنق- أنني لم أكن لأتخيل, وبأشد ليالي الجنون الشاعريّ صخباً, أنني سأفوز بقلب ملاكا عصفوريا مثلها.
كانت عالما من الأشياء المميزة, عالما من البراءة التلقائية الأقرب للحماقة فيها. كنّا عالمين مختلفين في هذا المجال؛ فتاةٌ تولد بقلب مجتمع خليجي, يفترض المواطن فيه أنه الأقوى دوما, وأن الجميع هنا من الغرباء يحترس من أن لا يخسر رضاه. فتاةٌ تؤمن أن بطاقة السفر إلى بريطانيا مثلا لشديدة اليسر, وأن تجولها بمتحفِ لُندن أو اللوفر بباريس, لأشياء سهلة للغاية.
وفي الجانب الآخر, يتكون الرجل العراقي, الذي لا يرى بسائق الأجرة- التي ترغب هي لو أنها ثرثرت معه لوقت قصير وببراءة- أبعد من كونه عينا للمخابرات, أو وحشا متسترا سينبش لحمه متى تمكن من ذلك. يجلس بالمقعد الخلفي دوما, لكي يكون مستعداً لأي هجوم متوقع, خصوصا وأنه يعيش بمجتمع مجرم كالمجتمع الأمريكي.
عيناه ثابتتان, لا يجيب على أسئلة السائق إلا لماماً, وبالنهاية يصفق باب النقاش بعصبية وبجملة ملتوية كحاجبيه الساخطين. إنسان عراقي, عليه أن يتجنب شعوبا من الأعداء, وحكومات وأجهزة متمرنة على اصطياده, حتى وإن كان بعقر وطنه, بل هو المكان الأمثل لأن يُصطاد فيه، إنسان منفي عن وطنه بسوط الجلاد, مشرّد بين قارات الدُنيا, يحمل أرضه كقلادة على هيئة علم نقشت عليه كلمتان: الله أكبر.
هكذا بدأت القصة, بين شاب رضع حليب الحروب والاضطهاد, وفتاة تحمل هموما سببها برد باريس القارص وافتقارها لصديقات مهذبات. لكن الأمر تغيّر. الحياة أمست عندي أشياء أهم من إثبات الذات والتغلب على كل أعدائي التأريخيين. الحياة بدت لي مكانا حري بالثقة, وببعض الامتنان أيضا, بعد أن اقتنعت حقا أن هذا المكان هو لأداء رسالة محددة لا أكثر.
كانت مرحلة عصيبة هي السنة الأولى, إذ كنا بحاجة لأن نصل لتوافق فكري وديني وأن نثق ببعضنا, وهذا ما تحقق بعد سنة أخرى. سنة حافلة بالاتصالات التي أجريها لها غير مبالٍ بالمطر فوقي, أو بساعات سهر متعبة. للأسف, كانت بعيدة عني, تعيش مع أم مطلّقة متطرفة دينيا, ترى بالشيعة أوباشا يستحقون تقطيع الرؤوس ونسف مدارس أطفالهم والزنا بنسائهم على يد أوباش إسلام ظلاميّ ما يزال يؤكد أن الأرض ليست كروية.
الواقع أنني لستُ شيعيا بالمعنى التطبيقي الفعلي, ولا أقصد أنني بعيد عن ما يُتهم فيه الشيعة عادة من خُزعبلات أعرابية المنشأ, كأكذوبة شتم الصحابة وما إليها من خزعبلات أوجدها أعراب لا يزالون يجدون كفرا بوارا لو قرر أحدهم أن يشذب لحيته, بدلا من تركها بشكلها الكارثي المهين.
ما أنا واثق منه هو أنني مسلم يؤمن بوحدانية الله وبرسالة محمداً رسول الله (ص), وسائر ما يؤمن به المسلمون في الأرض. هكذا أنا, وهكذا هي, وهكذا أيضا كنا سنربي طفلتنا المستقبلية. كنا سنسميها "قُدس", وكُنا قد بدأنا بتوفير مال لها, بعد أن اشتركنا بحساب مصرفي خاص يحفظ ما يفيض عن عملها وعملي, أودعناه بمصرف بالولايات المتحدة وتحت اسمي.
كانت هذه خطوة عميقة وعملية نحو الأسرة التي أردناها, وكان قرار فتح البيت وشراء حاجياته موقوفا حتى تعلقها بذراعي, ومضينا معا للسوق كي تختار ما تراه موافقا لروحها الطفولية الجميلة. وما حدث, أنّ شيئا من هذا لم يتحقق البتة, لأن الأم رفضت فكرة ارتباطها بإنسان مرفوض لثلاثة أسباب:
أولها كوني من أصول شيعية,
وثانيها لأنني عراقي (فأنا أقل قيمة لأنني لا أرتدي العقال أو البشت),
وثالثها أنني لست من عائلتها, والفرع الغني تحديدا.
الحب عند الأم المطلّقة جريمة لا تغتفر, وخصوصا عندما يأت من وغد "ما يستحي" كما تسميني, الأمر الذي جعلها تحملني مسؤولية تهمة من مخيلتها, مفادها أنني خدعت أبنتها واستغللتها. لم؟ كيف؟ لم تجب, لأنها ربأت بنفسها على حواري بلغة عدا لغة الشتم والصراخ.
كان هذا صعبا عليّ للغاية, ربما لأنني نشأت بأسرة تحترم رأي أبنائها وبناتها, وتعطيهم نوعا من الحرية ورقابة الضمير الذاتي, بل تعطيهم الاحترام المطلق لما يقررون, مع الاحتفاظ لأنفسهم بحق نقد تصرفاتنا أو التدخل بالنصيحة. وبأحيان نادرة, كان يأتي الإجبار بلهجة محترمة للغاية.
كانت النهاية تافهة للغاية, فالفتاة تتخلى عني, تبصقني وسط دموعها, ودون أن تمهلني لأن أهمس لها بآخر "أحبك" كما كنت أفعل بنهاية كل اتصال. وظهرت خديعة الأم للجميع, بعد أن أوهمتنا أنها موافقة على العلاقة الشريفة, ولكنها كانت موافقة مرحلية انتهت بعد انتهاء أبنتها من الجامعة وبداية شهرها الأول كموظفة بمؤسسة خليجية بوطنها.
والفتاة, العصفورة, استسلمت بنوع أقرب للتخلي. كان يمكنها المقاومة, كان يمكنها أن تتمسك فيّ أكثر, لكن الاهتمام قد ولى على ما أظن. لم تعد كلمة "أحبك" تثير فيها تلك الرعشة من الفرحة, وما عادت تضحياتي المستمرة لأجلها ذات معنى.
تحولت بنظرها لشحاذ يتوسل الحب, ولهذا فقد درس ما لا يريده لأجل عمل يؤهله للزواج منها, ولهذا فقد تحمّل كل متاعبها وأسلوبها الفظ بمعاملته أحيانا. لم يعد الأديب الذي يفتنها بما يكتب, بل مجرّد كاتب مقبول سينشر ما يكتبه قريبا, وما يكتبه لا يهمها كثيرا كما يبدو. لقد أقفلت هاتفها, وتركتني أصارع واقعي بنفسي.
بعثت رسالة للأم أشرح لها ما ضنّت علي بسماعه, وأرسلت كتابا لوالدها كي يساعدني, وكانت رسالة تدعوه لأن يلتفت لسعادة أبنته ولحق تقرير المصير. لم يفعل شيئا, تجاهلني بكل بساطة وكأنني لا أنتمي لعالم الكراهية هذا.
تكبّر مطلق, يصبانه على إنسان كلّ ذنبه أنه عراقي, أو لنقل أن ذنبه مصيبة سُلطت عليه وعلى قومه اسمها "صدام حسين" الذي مرّغ أنوفنا بالتراب, وحولنا لجموع محتقرة. لا شيء يستحق الاحترام في العراق- عند الخليجي- سوى نساؤه.
عراقية بعشرين ربيعا سعرها 3000 دولارا فقط لرجل بالعقد الرابع من عمره وذا زوجتين قبلها. هو الفحل فقط, أما العراقي أو المصري أو السوري أو الفلسطيني, فهؤلاء غير جديرين بأخته أو بنات بلده, حتى لو أردنهم وقررن أن يرتبطن بهم. "مَنت كفو" كما أخبرتني والدتها صارخة بالهاتف, فبقيت باهتا لا أدري ما أقوله لها.
الآن, ورغم أنني أحمل صورتها بمحفظتي الخاصة, أشعر أنني ضائع من بعد عصفورتي. أشعر أن العالم قد أخذ مني الشيء الوحيد الذي أحببته من خلاله. عادت حياتي للكتب المملة, للرياضة الجامدة وللأحلام الأكاديمية البحتة.
قررت أن أعاود الدراسة لنيل الدكتوراه بالفلسفة, أن أكمل رواياتي وأن أكتب رواية لها خصيصا, وأخيرا قررت أن أكون ثريا. فقط لأثبت لها ولأهلها أنها لو انتظرتني سنة أخرى فإنها كانت ستعيش مع زوج يرضى به أهلها, لا لشيء إلا لماله. تماما كما هو مطلوب عندهم بشكل أو آخر.
الآن أنا أمام مشكلة رفض ابنة خالي بنت السابعة عشرة, والتي تدفعها إلي والدتي دفعا. ناصحة إياي بلهجة أشبه بلهجة جدتي الراحلة منذ عقدين:"يمّه هذي منّا وبينا.. بنت بلدك وبنت خالك.. وبنت رسول الله همّات.. هيّه اللي تفهمك وتريحك وتشيل همّك.. ليش متقنع؟".
وتحت ذريعة أنها عراقية -وللعلم فالمرأة العراقية تحمل قدسية مميزة بالمجتمع العراقي لأسباب ذات وراثة تأريخية-تريدني أن أتزوجها, ولو اعترضت بدعوى الحب أجابت أنه أمر سيقذفه الله بقلبي بأول ليلة لي معها. هي فتاة متوسطة الجمال, ذات مستقبل علمي متفائل, لكنها أشبه بطفلة عندي. بل لا أستطيع التخلص من شعور الأب وأنا أحدثها لأول مرة بعد خمسة عشرة عاما من الفراق.
أريد من يفهمني, فأنا لست من ذاك النوع المنحط من الرجال. الذين يرون بالمرأة صفقة تجارية~جنسية, يساومون على حجم خصرها ومهرها وعمرها, ومتى ستهرم وكم سنة سيتمتع بها. لا يهمه من تكون, لا يهمه من أي بلد أو بأي طبع تتطبع, أو هل تخونه حتى! المهم أن يأخذ منها لذته الحيوانية.
لم أحدثها كثيرا, فكانت حقا مادة خام من أي شيء. الشيء الوحيد الذي تعرفه هو دراستها. لا صديقات, لا رغبات بالتسوق والمرح كمن يتجولن بأسواق أوروبا مفلتات الأعنة "كبعض" من بنات خليجنا العربي. كان صوتها بالكاد يخرج, ويبدو أنها مواصفات مثالية للكثيرين بمجتمعنا, لكنني لا أفهم أي أم ستكون هذه الطفلة وهي "لا تفهم" أي شيء بهذا العالم؟ أي زوجة ستكون لي وهي لا تلتذ بالشِعر ولا يمكنها أن تنحت رأيا لمادة أكتبها؟ هل سأتغزل بروعة صمتها الصخري؟
أنا لا أمزح, فأنا محتار للغاية. الإنسانة التي أحببتها رحلت, تحت ضغوط أهلها وتدميرهم لرأيها وخصوصيتها كإنسانة رحلت, وبقيت منها آثار لرسائل محمومة أشبه بحبيبات ملح صخرية على قلب جريح. أبنة خالي ليست لي, ولن أقبل بها رغم الضغوط. لكن المشكلة أنني لا أفكر بأن أقبل أي امرأة بالعالم بعد اليوم. والأمر ليس وقتيا, وإنما أبدي. لأنني لن أجد فرصة أخرى للتعرف على فتاة ذات شخصية موافقة تماما (رغم بعض العيوب) لما أحببت, وذات مظهر مطابق لطالما حلمت به.
ثم, المرأة صارت عندي كائن جميل فقط, أما عدا هذا فأن كلّ الأبواب مغلقة بوجهها عندي. لأن الإنسانة الوحيدة التي أحببتها دون التفكير بها جنسيا للحظة قد رحلت, وتركتني ضائع وسط أحلام متناثرة, أقلّب حطامها هنا وهناك, وأحاول أن أعاود تركيب بعضها بمرارة, لاصقا بعضها بالدموع القليلة الخفية, أو متوسلا للسماء أن تُنزل معجزة ما. لا أعتقد أن المعجزة ستنزل, فلا يوجد سبب وجيه لها لى ما أظن. لكنني أمام عدة خيارات بهذي الحياة, وأريد منكم المساعدة:
[1] أن أركز تماما على دراساتي وحياتي العملية, ويكون للمرأة مكان واحد بحياتي وهو مكان الإشباع الغريزي باسم الزواج العرفي أو المنقطع كما يفعل بعض المشغولين بدراساتهم وأعمالهم ممن أعرفهم. هذا مع بقائي لحبي لمن أحببتها أعواما.
[2] أن أتزوج ابنة خالي وأتقألم بحياة أكون فيها زوجا وأبا, أو لنقل "زوج بارد" إن صح التعبير. وأن أودع حب الأولى بمكان خفي بقلبي, لا يظهر منه أثر سوى أسم حبيبتي على ابنتي التي سأنجبها. إنه شيء يفعله جلّ من أعرفه من الأصدقاء المنكوبين.
[3] أن أنتظر وفاة والدتها أو استقلاليتها أكثر كي أتزوجها, وهذا بعد أعوام وبفرضية أنها ستكون عزباء وسيدة ذاتها. بيوم لا تكون فيه مصلحة سوى مصلحتها هي, ولا أم مزعجة توسعها ضربا بتهمة الحُب. باختصار: بانتظار يوم تكون فيه بشرا سويا بحقوق سويّة.. حقوق سويّة لا أكثر.
العراقي
اقرأ أيضا:
الشهادة حق للفلسطينيين..محرمة على العراقيين!!/ نظرة سريعة حول أصل اللغة الكردية/ كوردستان العراق