للمصريين تاريخ طويل وعشرة مع الحزن، يكفي أن المصري كان ـ حتى وقت قريبـ إذا استغرق في الضحك استدرك، وقال: "اللهم اجعله خير"، وفي الوصايا العشر للإمام حسن البنا: "لا تكثر من المزاح فإن كثرة الضحك تميت القلب".. فماذا عن قلته يا مولانا؟!
ولا تصدق أبداً أن المصري العادي في الأحوال العادية يمكن أن يضحك اليوم من قلبه أو يستغرق في الضحك، وقد تندهش إذا قلت لك أن هذا من أهم أسباب انتشار المخدرات، وبخاصة الحشيش، لأنه يجعل متعاطيه: "مبسوط" ـ أي سعيد شوية!!
والمصريون أيضاً يحبون الضحك، ولهم معه تاريخ عتيد، حتى يقال لكل مصري تقريباً ـ من باب التندر ـ سمعت أخر نكتة؟!!
المهم.. مصر دلوقتي مخنوقة، والمصريون مخنوقون لأسباب يطول شرحها، ولن أعكر عليكم مطلع العام الجديد فأذكركم بها،"خلي الطابق مستور"، وندخل علي المفاجأة.
المفاجأة أن المصريين بما تبقي من رصيد عبقريتهم التاريخية وجدوا بعض الحلول التسكينية المؤقتة لهذه الورطة والإفلات من خنقة الحزن، وارتكاب البهجة أو الممكن منها.
مشهد رأس السنة
التوازن، وإرضاء ما يمكن من الأطراف أجزاء من حكمة المصريين، والآلهة"ماعت" من آلهة الفراعنة، وهي إله الحكمة والتوازن، ولن أستطرد في رصد ضياع التوازن واختلاله عند المصريين المعاصرين وأسبابه وجذوره التاريخية، لكن ومضات ومحاولات استعادته لابد أن تلفت نظرك. فتأمل المواءمة التالية:
أصبح الاحتفال بليلة رأس السنة فرصة لاختلاس البهجة فانخرطت فئات وجماهير واسعة في الرغبة بهذا الطقس الذي كان محصوراً في دوائر ضيقة قبل عقود، ولذلك برز منذ سنوات السؤال المزعج علي هذا المستوي الشعبي الواسع:"نروح فين ليلة رأس السنة"؟!، وتكفلت الأرصفة والشوارع والميادين والحدائق العامة بالحل لفترة، وانتعشت صالات الترفيه الرخيصة، والفنادق الفخمة أحياناً، وغيرها من دور اللهو البريء وغير البريء باستيعاب الآلاف..
ولكن دار الأوبرا المصرية كانت تدبر شيئاً آخراً يتعامل مع المسألة بالحكمة والتوازن والحل الذهبي الذي يسعد كل الأطراف، وكان هذا الحل هو إقامة حفل في الهواء الطلق فيما بات يعرف بالمسرح المفتوح على غرار مسارح حفلات الروك والرأي وموسيقي الشباب في كل العالم.
والاختيار وقع على"محمد منير" النجم الذكي الأسمر عابر القارات والأجيال والأذواق، صاحب الخلطة السرية الناجحة والمصرية بامتياز في الجمع بين الروشنة والمعنى، الفن والإيقاع.
وسط الدايرة
ولعدة سنوات نجحت حفلة "منير" في رأس السنة باستقطاب الآلاف من راغبي قضاء سهرة ترضي جميع الأطراف، فسعر التذكرة معقول جداً "خمسة دولارات" ـ تقريباً، والمكان واسع وآمن تحت حماية بوليسية متوارية، ولكنها جاهزة لإسكات أية محاولة إفساد أو"شغب".
و"منير" سعيد جداً بهذا اللقاء المتجدد مع جمهوره، وسعيد بألوف الجنيهات التي يربحها، حتى لو كانت أقل من حصاد مكاسب زملاءه في نفس الليلة، لأن "منير" بيحب الناس، وبيحب يغني وسط الناس، أو "وسط الدايرة"، كما عنوان إحدى أغنياته. والجمهور سعيد طبعاً بالمعادلة المعقولة: السعر+ المكان+ منير+ الأمان+ البهجة المختلسة. والأوبرا أسعد الأطراف غالباً فهي تكسب جمهوراً خارج دائرة النخبة، وتؤكد الانطباع بأنها تدعم الفن الأرقي في مواجهة أغاني "الرقيق الأبيض"، وحفلات استعراض المفاتن، والسماع بالعين!!
البحث عن موطئ قدم
قررتـ ولأول عام في حياتيـ أن أنزل من بيتي في هذه الليلة لأرصد الحالة، ووقفت وسط الحشود أدعو الله ألا تتحول القطرات القليلة التي تساقطت من السماء إلي أمطار غزيرة تفسد المشهد كله، وشعرت أن الآلاف التي توافدت علي المكان قبل الحفل بساعات، سعيدة جداً بالوقوف في انتظار حضور "النجم"، وأحياناً شعرت بأن"منير" مجرد وسيط مساعد في عملية اختلاس البهجة من وسط عوامل الشجن وأسباب الاختناق.
وحين حضر "منير" أخيراً قبل منتصف الليل بربع ساعة سرت في الجمهور الروح المتوقعة، وبدأت الفقرة الرئيسية في الحفل الذي كان قد بدأ من ساعات كما شرحت تواً. لا يغني"منير" أكثر من ساعة ونصف في المعتاد، وكالعادة لم ينس منير أن يذكرنا أن.. الأغاني لسه ممكنة، وأن يجدد صلتنا بدورنا التاريخي الذي نكاد نغيب عنه:
"اصحي يا مصر.. وقومي يا مصر: إحي الدنيا بروح العصر"، ويعيد إلي أذهاننا مرة ومرات أنه لا معني لعشق فردي معزول بين رجل وامرأة، لأن مشاعر الحب تكون أكثر توهجاً وإنسانية وإشباعاً حين يتخذ مكانه وسط طوفان المشاعر الجياشة في حب الوطن، وأنه من يخون الحبيبة الكبري" مصر" فلن يكون أخلص لأية معشوقة أخري، ولو حلف ألف مرة.
وأصدقكم أنني انشغلت عن السماع بالمشاهدة والتجوال وسط الناس لأشاهد هذا التنوع، وأتشبع بهذه الحالة الفريدة حقاً: مسلمون وأقباط، مراهقين وعجائز، أفراد وتجمعات، وأسر وأطفال، مصريون من الأسكندرية حتي أسوان والنوبة مع أغلبية سمراء، وأجانب من كل الدنيا، أزياء تتراوح بين النقاب اليمني الأسود، و"البدي" المحزق أو الجيب القصير جداً وبينهما الحشمة المصرية بحجاب أو بغيره. والكل مصمم على شيء واحد: أن يفرح هذه الليلة.
ريشة فـ هوا
صافحت بعض من أعرف، وابتسمت في وجه من لا أعرف، وشعرت أن الاعتبار بمرور الزمن، والوقوف أمام عتبة العام بعد العام هي بعض الفلسفة التي كانت غائبة عن تفكيري في الإحتفال بهذه الليلة. تفكرت في هذه المساحة التي رأيتها مفتوحة ومنظمة تضم تنوعاً نعيشه دون أن نعترف أو نحتفي به، وتذكرت المجتمع الذي نطمح إليه متمتعاً بالحرية، دافئاً بالجماعية، متعاوناً علي المتفق عليه، ولو كان اختلاس البهجة.
وحين ختم" منير" بلفتة رائعة بدأها بقديم سعد عبد الوهاب، "الدنيا ريشة في هوا.. طايرة من غير جناحين.. إحنا النهاردة سوا، وبكرة حنكون فين.. في الدنيا.. في الدنيا" ورددت الجموع: ياللي بتسأل عن الحياة.. خدها كده زي ما هي"، ثم انتقل لقديمه هو شخصياً:
أشكي لمين؟! وأحكي لمين؟! دنيا بتلعب بينا فكان مسك الختام ذكرني بالمصري كما أعرفه وأنشده.. يحب الحياة والبهجة ولكنه يظل باحثاً دائماً أبداً عن "الحكمة" ضالته، وضالة كل مؤمن. عام سعيد عليكم جميعاً بمشيئة الله.
* استمع من أغنيات محمد منير إلى:
-أغنية حدوتة مصرية
- أغنية عللي صوتك
- أغنية في وسط الدايرة
اقرأ أيضاً :
على باب الله: يا بنت بلدي: - السبت 12/3/2005/ على باب الله 13 /3 مع العراق/ على باب الله: وجوه في المؤتمر12 – 13/3/2005/ على باب الله: الاثنين 14 -3 .. بحب السيما