يحكى أن أبا حازم سلمة بن دينار –من فقهاء الحجاز من التابعين– خرج يرمي الجمار في الحج ومعه قوم ناسكون يحدثهم، فبينما هم كذلك إذ نظروا إلى امرأة من أجمل الناس، تتلفت يمنة ويسرة، وقد شغلت الناس وبهتوا ينظرون إليها.
فقال لها أبو حازم: اتقي الله، فإنك في مشعر من مشاعر الله، وقد فتنت الناس، فأقبلت تضحك من كلامه، وقالت: يا هذا، إني ممن قال فيهم الشاعر العرجي:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فأقبل أبو حازم على أصحابه وقال: يا هؤلاء، تعالوا ندع الله ألا يعذب هذه الصورة الحسنة بالنار. وبلغ ذلك الشعبي من علماء العراق فعلق قائلا: ما أرق نسيم أهل الحجاز..
كنت أتحدث مع صديقة لي قبل أيام فسألتها: ما الذي يخطر ببالك عندما تسمعين عبارة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقالت وملامح الاستياء ترتسم على وجهها: بصراحة.. الصورة التي تقفز إلى ذهني هي رجل يسوق الناس بالعصا! لكني أؤمن أن الدين لابد له من الرفق والدعوة بالحسنى.
قلت لها: كان في مخيلتي قبل سنوات صورة لا تختلف عنها كثيرا، وإن لم تكن العصا (تزينها)! .. دعوة إلى الخير منطلقها..
فكر.. يرى أن الناس كلهم ينبغي أن يأخذوا براجح ما عنده من أقوال العلماء المستقاة من الكتاب والسنة. ونفسية.. لا تدرك أن قبح الذنب لا يعني بالضرورة قبح صاحب الذنب، فربما قضي على الإنسان بالذنب فكان هذا الذنب ذاته سببا للإقبال على الله بما يورثه في نفس صاحبه من تذلل وافتقار إلى الغفور الرحيم، وتوبة نصوح يختم لصاحبها بالحسنى.. ولا تفقه أن أعظم الذنوب أن يهمل الإنسان تطهير قلبه من إحساس كامن بالزهو بطاعة لم تصدر منـه إلى الله، وإنما صدرت من الله إليه.
قالت: أسمعك تقولين:(قبل سنوات) إذن هل تغيرت الصورة الآن؟
قلت: نعم، بعد أن قرأت في كلام الفقهاء تغيرت الصورة تماما.. في الواقع ما حداني للبحث هو ما كنت أرى من عدم اعتراض جدي رحمه الله –وهو الفقيه الورع– علينا إذا استمعنا لبعض الغناء، فكنت أقول في نفسي: كيف يكون جدي متدينا ولاينكر علينا هذا الفعل المحرم، ثم لما يسر الله لي طلب العلم الشرعي عرفت أن شيخة لي أعلم يقينا فقهها وفضلها لا تجد حرجا في أن تجيب دعوة يستمع فيها للموسيقى.. أذكر أني اتصلت بها والحيرة تمزقني.. كيف يا دكتورة؟ قالت لي: لن أجيبك، ابحثي بنفسك..
وبدأت البحث بتوفيق الله، فوجدت عجبا من كلام غالبه لا اختلاف فيه بين العلماء، ومع ذلك يكاد يكون مهملا لا يلتفت إليه خاصة في البلد التي أعيش فيها حيث كانت إلى وقت قريب الأحادية الفكرية طاغية بشكل مرعب، ولا أسمي ذلك (فقه الرعب) كما يسميه أستاذي الدكتور أحمد، لأن الرعب -في غير موضعه- لا يصدر عن الفقه بل عن الجهل..
المختلف فيه لا إنكار فيه..
هذه العبارة تتكرر في كتب الفقه كمسلمة لاجدال فيها.. وتحتها تندرج تفصيلات تعلمت منها أن الإسلام كل متناسق، أحكامه لا يشذ بعضها عن بعض.. رأيت تصرفا ما أعتقد أنه محرم، الشرع لا يعطيني الحق في المبادرة إلى إنكاره إلا بشروط تبدأ من تحرير النية، وتصفية القصد، وتشمل الكثير والكثير مما يضيق المقام عن حصره.. فمن ذلك..
تحقق كون هذا الفعل متفق بين العلماء على تحريمه، وتحقق ذلك لا ينبغي أن يزعمه غير المتخصص –أو العامي كما يعبر الفقهاء- لمجرد أنه استمع لشريط أو قرأ كتابا يجرّمه، كما لا يقبل أن يزعم من استمع لطبيب يصف دواء لمريض ما أنه قادر على أن يعالج شخصا آخر يرى أن الأعراض التي تعتريه تشابه الأول، فلا يقبل من غير المتخصص أن يصدر حكما ما في الشريعة أو الطب أو ما سواهما من العلوم!
دائرة المختلف فيه في الشرع واسعة جدا، بل لا أكون بعيدة عن الدقة إن قلت أن المتفق عليه لا يتجاوز مسائل معدودة في كل باب من أبواب الشريعة في العبادات والمعاملات الاقتصادية والأحوال الشخصية والقضاء.. فإذا كان الفعل محرما فعلا –ونحن قصرنا حديثنا في دائرة النهي طلبا للإيجاز– فالإنكار له ضوابطه أيضا والتي لا تتحقق له المشروعية إلا بها، فإهمالها يجعله اعتداء يأثم صاحبه به.. وهذه الضوابط كثيرة أيضا منها:
*أن لا يستعمل الشدة في القول حيث ينفع اللين، فمن فعل ذلك كان كمن يغسل الدم بالبول- أكرمكم الله- كما وصفه الإمام الغزالي، يبتغي إزالة منكر فيزيله بمنكر آخر عظيم عند الله وهو الإيذاء بالعنيف من القول، بل يذهب الإمام الغزالي إلى أبعد من ذلك فيذكر أن المسلم إذا علم عزم أخيه على معصية ما فليس له أن يشكك في قوله إن ذكر له أنه لن يفعل هذه المعصية لأن في تشكيكه إساءة ظن بالمسلم، وقد نهى الله في كتابه عن سوء الظن.. أليست هذه الموازنة بين أحكام الإسلام -وهذا العمق في الطرح- جديرةً بالتأمل؟
*وأن المنكر لابد أن يكون ظاهرا بغير تجسس، فمن تتبع عورات الناس تتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود. والإسلام في قضية التجسس بالذات يرسم نسقا غاية في التواؤم، فحيث رغب في التوبة هيأ أسبابها من تحريم فضح المستتر بذنبه، والتجسس عليه. وحيث اعتنى بترسيخ القيم الفضلى في المجتمع شرّع ما يعين على تثبيتها من تنبيه المجاهرين بمخالفتها، ودعوتهم إلى احترام القيم المجتمعية (الدينية) ولم يهدر مع ذلك كرامتهم وحقهم في حسن الظن بهم، والحوار الهادئ معهم، بما يحقق المقصد الأصل، وهو الأمة المجتمعة على الإيمان والخير.. قال صلى الله عليه وسلم مخاطبا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم)) رواه أبو داود.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست سلطة إلهية مطلقة يخولها المسلم، بل مسؤولية كبيرة شديدة التعقيد، لا ينبغي التساهل بها وإلا كان الوبال إفسادا للناس، وصدا عن دين الله، خرابا للأسرة والمجتمع..
*ومن الوقفات التي أراها جديرة بالوقوف عندها كلام الإمام أحمد عن طريقة التعامل مع أب يشرب الخمر: قال: "يكلمه بلطف من غير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام." .. إذن أية عزلة نفسية سيحياها من اصطلح على وصفه بـ (الملتزم)- مع تحفظي على هذا الوصف لعدم انضباطه– وهو مأمور بالتواصل المتزن الذي لا يضيق جماعة الانتماء، ولا يحصرها في قوالب محدودة، ويحفظ له جمال الارتباط الإنساني المستوعب لمن حوله، والمؤمن يألف ويؤلف كما قال صلى الله عليه وسلم؟
واستدركت وقد اغرورقت عيني.. ألا ترين كم هو رقيق نسيم أهل الحجاز.. حيث عبق النبوة.. ورَوح الشريعة الذي يفيض بالنور....
شكرا لصديقتي التي استمعت إلي بإنصات.. وشكرا لكم لأنكم تابعتم القراءة إلى هذا السطر.. وسيكون شكري أعمق لو أثريتم الموضوع بمزيد تعليق ونقاش...
صفية الجفري
جدة – يوم الثلاثاء23/11/1425هـ 4/1/2005م
واقرأ أيضاً:
حكايات صفية : فليتك تحلو والحياة لذيذة .. / حكايات صفية : التسامح .. فضيلة المتناقضات.