هذا هو عنوان مقالة جميلة للأستاذ الكبير عبد الوهاب مطاوع، وقد أحببت أن أقف معكم على فقرة من المقالة أحببتها، وأحاطت روحي بشفافية عجيبة، كان لها فعل السحر على نفسي، وهكذا يفعل الأدب الراقي، يكسب النفس سموا ونقاء.. أطلت عليكم في المقدمة، فعذرا، وهذه هي الفقرة:
[ومن رواية السيمفونية الريفية للأديب الفرنسي (أندريه جيد)، تأمل القس العاشق عشقا عفيفا صامتا للفتاة العمياء الجميلة "جرترود" السماء في ليلة هادئة وقال:
"أمن أجلنا يا رب جعلت الليل شديد العمق.. والهواء دافئا.. ونور القمر يتهادى إلي من النافذة فيغمرني بفيض السحر.. ربِّ إن كان للحب حدًّا فهو من صنع البشر وليس من صنعك أنت، ومهما يظهر حبي آثما في أعين الناس فألهمني الإيمان بأنه عندك طاهر نقي."
ولا تعليق عندي على هذه الكلمات الرقيقة الحانية] ا.هـ النقل.
وإذا كان الأستاذ عبد الوهاب مطاوع قد أمسك عن التعليق على(هذه الكلمات الرقيقة الحانية)، فإن قلمي عجز عن مثل ذلك، فأجده يحدوني إلى أن أقف وقفات مع هذه الصورة الإنسانية الوضيئة، التي تضيء القلب والعقل معا، وتجعل المرء مشدودا إلى أن يتأمل عمق معانيها، ودفء إشعاعاتها التي تحتضن مشاعر اليأس، لتشرق الروح بنور الإيمان والأمل.
قرأت كثيرا في كلام الصوفية، وكان يعطيني دوما من معاني الطهر الشيء القليل أو الكثير، لكن هذه (الكلمات الرقيقة الحانية) كانت أوقع في نفسي من كثير مما قرأت من عبارات المتألهين، ولعل دلالات الحدث، أشد تأثيرا في النفس من الكلام المجرد مهما رق.
هذا التأمل المبدع لمشهد قد يتكرر على أحدنا فلا يحس له رونقا، أليس هبة ربانية يوفق إليها أهل القلوب الصافية؟ ((أمن أجلنا يا رب جعلت الليل شديد العمق.. والهواء دافئا.. ونور القمر يتهادى إلى من النافذة فيغمرني بفيض السحر)).
ثم ألا ترون معي أن قوله:((ربِّ إن كان للحب حدًّا فهو من صنع البشر وليس من صنعك أنت))، يشير إلى قيمة سامية لو أدركها العشاق، لكان عشقهم دافعا قويا لهم لكل رقي؟!
فالحب تحوطه قداسة إلهية، تضيء حياة أصحابه، وتصلهم بخالقهم اللطيف الخبير، الذي يعلم بتقلب قلوبهم وأحوالها، ويقدر لهم كمال الخير اتصالا بالمحبوب أو افتراقا عنه،، وهم في كل الأحوال لا يحيدون عن نهج الخير والعطاء والتسامي عن كل ما يكدر صفو حبهم المقدس، الذي ترتوي نفوسهم كل يوم من بحر قيمه الراقية، حسن إقبال على الحياة، وحسن وفاء للمحبوب، وفي هذا السياق أذكر لقطة جميلة للأديبة السورية:
ريم حنا، في المسلسل السوري المتميز:"ذكريات الزمن القادم"، فيها تصور حبا عميقا شفافا كهذا الحب الذي نتكلم عنه، حب رانية الفتاة الودودة التي يحبها الجميع لحسن أخلاقها، ورقة طبعها..
تتعلق رانية بوديع جارها الشاب الذي لا يراها أصلا، إذ قلبه معلق بحب أخرى حبا مريضا تغلفه رغبات النجاح الميكافيلية، لكن رانية تظل على حبها ودعمها لوديع وأسرته، في أحلك الأزمات، وتكون خير عون له ليقبل على الحياة بروح مشرقة بعد معاناة طويلة، تغتسل فيها روحه بنور الإيمان الذي يشرق من قلب رانية المحبة، ذلك الحب الذي لا حد له لأنه ليس من صنع البشر، ثم يفارق وديع رانية، وقلبه يحمل لها أجمل ذكرى وفاء وصداقة وجيرة، وتودعه رانية بنفس راضية بقضاء الله الذي كله خير، وقد طابت روحها بالود الذي تحمله لها نفس حبيبها.. يومها أسرتني كثيرا هذه الخاتمة الرقراقة لقصتهما، وقرأت فيها صفحة لم ألتفت إليها قبلا من صفحات القدر الجميل -مهما قسا-، صفحة تعلمنا أن أنقى الناس وأرقاهم –كما هي رانية في المسلسل- قد يحرمون لقاء محبوبهم فلا يزيدهم ذلك إلا طهرا وصفاء وجودا.. ثم إن هذه الصفحة لم تكن الوحيدة التي تعلمتها من الأديبة الرائعة ريم حنا، ولعلي يوما أكتب لكم عن الصفحات الأخرى..
ثم فلنقف الآن مع ما ختم به الأديب أندريه جيد عبارة القس العاشق:((ومهما يظهر حبي آثما في أعين الناس فألهمني الإيمان بأنه عندك طاهر نقي.))
فبالإيمان بطهر الحب ونقائه وحده، يزكو الحب، ويطيب شذاه، وتعزفه الروح كلحن جميل الإيقاع، نغماته من سيمفونية الفضيلة، فلا تزيده الأيام إلا إبحارا في أعماقها، بل يكون الترقي لانهاية لكمالاته، ولا شواطئ لبحوره.
أتمنى أن لا أكون قد أثقلت عليكم بتأملاتي (الشتوية) هذه، وأختم بدعاء كنت أسمعه من جدي رحمه الله: "اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك، واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك"..
وشكرا لوقتكم.
واقرأ أيضاً:
حكايات صفية: نسيم أهل الحجاز / حكايات صفية: لأنك إنسان!