{من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم} !
هل صدمتك هذه العبارة كما صدمتني لأول وهلة؟! لقد أحسست أنها تأخذ بتلابيب عقلي وقلبي ليتوقفا عندها خاشعين متأملين فطالبين لأنيس يشاركهما التأمل والغوص في دلالاتها.
الأديب الكبير يحى حقي أورد هذه العبارة في رائعته ((قنديل أم هاشم)) على لسان فتاة فرنسية تدعى ماري تناقش صديقها الطبيب العربي المغترب إسماعيل في بعض قناعاته وسلوكياته:
الأديب الكبير يحى حقي
[لحظته ماري وحلقة المرضى والمهزومين تطبق عليه يتشبثون به، كل يطلبه لنفسه، فأقدمت وأيقظتها بعنف:
* أنت لست المسيح ابن مريم ((من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم!)) و ((الإحسان أن تبدأ بنفسك)). هؤلاء الناس غرقى يبحثون عن يد تمد إليهم فإذا وجدوها أغرقوها معهم! إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة، لأنها غير عملية وغير منتجة. وإذا جردت من النفع لم يبق إلا اتصافها بالضعف والهوان. إنما هذه العواطف قوتها في الكتمان لا في البوح!] ا.هـ
لم أنتظر حتى أتم القصة لكي أطلب الأنيس الفكري الذي حدثتكم عنه، هاتفت صديقة لي.. قلت لها هل ابتدأت في قراءة ((قنديل أم هاشم))– كنا قد اشتريناها معا من معرض الكتاب الدولي في جدة – قالت: لم أقرأها بعد، لماذا تسألين؟ هل لفتك شيء معين في القصة؟ قلت لها: هي أشياء.. لكن هناك فقرة أحب أن أناقشها معك.. وقرأت عليها الفقرة التي كتبتها لكم آنفا، ثم سألتها عن رأيها..
قالت: لا أرى أن عبارة [من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم] صحيحة، فكيف تغلب أخلاق البهائم من سعى في طلب الترقي والكمال!
قلت: فكيف إن كان يحمل نفسه من الكمالات ما لا تطيق ألن يكون سببا بعد ذلك في أن تغلبه أخلاق البهائم.. يحضرني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، فلن يشاد الدين أحد إلا غلبه".. ألا ترين أن الأحكام الشرعية جعلت مراتب بحيث تكون دائرة الإلزام فعلا أو تركا ضيقة.. وذلك لأنها شرعت بما يسع اختلاف الطاقات النفسية والروحية فضلا عن طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية..
أتذكر أني سمعت محاضرة قبل سنوات طويلة للشيخ سعيد حوى-رحمه الله رحمة الأبرار- يتحدث فيها عن نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية وأنه لم يكن يطالب أصحابه كلهم بمستوى واحد من الترقي.. مثلا.. لم يأخذ العهد إلا على بضعة نفر منهم أن لا يسألوا الناس شيئا.. فكان أحدهم إذا سقط السوط من يده وهو على ظهر الدابة لم يسأل أحدا أن يناوله إياه.. هذا الخلق لم يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه جميعا لئلا يكلفهم مالا يطيقون.. الطرق إلى الله عز وجل كثيرة وعلى الإنسان أن يختار منها ما يوافق طبيعته لم أنسى أبدا عبارة الشيخ سعيد حوى رحمه الله:إن لكل إنسان سقفه الذي قد تفتنه في دينه إن حاولت أن ترفعه فوقه.
لقد كانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد على مراعاة الخصوصيات الفردية على مستوى التعامل مع النفس أو الغير.. من جميل ما قرأت في هذا المعنى ما أورده العلامة الكتاني في كتابه التراتيب الإدارية عن رابعة العدوية قولها:إن كان صلاح قلبك في الفالوذج فكل منه... فرب مشبع لا يريد الشبع وإنما يريد المصلحة،وليس كل بدن يقوى على الخشونة أو كما قالت ماري:((من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم))... هناك دلالات أخرى لهذه العبارة.. هذا ما أشعر به.. هلا فكرتِ معي؟
قالت صديقتي: بصراحة أنت (رايقة) لمثل هذه التأملات.. وأتمنى لو استطعت أن أشاركك (روقانك) هذا لكن تعلمين أن عقلي مزدحم بالتحضير للدكتوراه.. اعذريني!
شعرت بإحباط فلم يرو النقاش غليلي.. أخذت قصة ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي لأعوض بقراءتها وحشتي الفكرية... فإذا بي أقرأ عبارة تفتح لي أفقا جديدا في الفهم:[قرأت قولا رائعا لكاتب فرنسي (رسام أيضا): لا تبحث عن الجمال.. لأنك عندما تجده، تكون قد شوهت نفسك!] ا.هـ
إذ أن مجافاة النفس، بغمطها حقها من الحب والتقدير، وعدم التعرف على جمالها الخاص بها دون سواها، وطلب جمال آخر بمقاييس أخرى لنفسيات مختلفة، يوقع الإنسان آجلا في التيه لتغلبه أخلاق البهائم أو يقع في العجز والشتات..((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل)) هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستفتح صباحاتنا المشرقة بنور حب الله وحب الحياة هبة ربنا اللطيف الخبير..
((إننا يا سيدي نفاجأ بالجانب الشرير داخلنا كما نطلق عليه... فأهم شيء هو أن نفهم أنفسنا وألا نتعجب أو نفاجأ بالسوء داخلنا ونحاول نكرانه، بل الصحيح هو دراسته واستيعابه جيدًا لنرى لماذا نحن هكذا، وقبل ذلك هل ما نظنه شرًّا هذا شر حقًّا أم أنها مجرد أفكار عندنا ليست ناضجة؟... إن أسوأ ما يحدث لنا يا سيدي أن يكبت كل رغباته وأفكاره في محاولة منه لمماثلة الصورة الوردية التي نظنها هي المثال على الإصلاح، ونظل نتعامل من خارجنا ولا نتطرق أبدًا لداخلنا خوفًا من ألا يماثل هذه الصورة.)) ا.هـ
كان هذا البوح المتأمل العميق، والخبرة الإنسانية الصادقة، التي نقلت لكم طرفا منها من مشاركة وردت في صفحة مشاكل وحلول للشباب بعنوان:أفلام إبليس: فريضة التفكير الغائبة - "مشاركة"، هو خاتمة تطوافي في دلالات عبارة ((قنديل أم هاشم))، حططت عندها رحالي لأبدأ ارتحالا جديدا أعيد به قراءة هذه القصة المتميزة عمقا وشفافية، والتي حملها الأستاذ يحي حقي ناضج خبرته، وواسع حكمته، ليجد القارئ في كل صفحة من صفحاتها محطة للتأمل والتفكر، ثم ليلمس حقا ما علل به الأستاذ يحي حقي سبب شهرة قنديل أم هاشم ولكأنه لم يكتب غيرها بأنها نبعت من القلب لتصل مباشرة إلى القلب بل وإضافة إلى ذلك فإنها –فيما أرى- تصطحب القارئ في رفقة دافئة أحيانا وصاخبة أخرى إلى فضاءات فكرية متنوعة إلى حد التناقض أحيانا وتطلب منه في احترام فائق أن يختار بنفسه المنحى الفكري الذي يعتقده صوابا دون أن تفرض عليه رأيا ما أو قناعة ما! هل تحمستم لقراءة قنديل أم هاشم أو إعادة قراءتها؟ أرجو ذلك!
وشكرا لوقتكم.
واقرأ أيضاً:
حكايات صفية: ثرثرة صيفية !! / حكايات صفية: الملائكة تلعن النساء فقط؟!