كنت قبل عام تقريبا أدرّس مادة الحديث الشريف في أحد المراكز الشرعية الصيفية... الكتاب المقرر كان عبارة عن أحاديث مختارة من صحيحي البخاري ومسلم.. كنت أدعو الله أن تنتهي فترة الصيف قبل أن أضطر لشرح الحديث الرابع عشر.. فاستجاب الله لبعض دعائي فانتهت فترة الصيف قبل أن أصل إلى الحديث المذكور فعلا.. لكن المركز الشرعي قرر استئناف نشاطاته خلال السنة الدراسية، وطلب إلي إكمال الكتاب الذي ابتدأت بتدريسه وبالتالي شرح الحديث الرابع عشر!!
((إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع))
هذا هو الحديث الذي كنت أتهيب أن أقوم بتدريسه لطالباتي.. كنت أشعر بمغص يجتاحني كلما فكرت أن الموعد يقترب..
ماذا أقول لطالباتي؟ هل أقول لهم أني بعد دراستي التخصصية في الجامعة رفعت الراية البيضاء معلنة استكانتي لحكم الله في التفضيل الذي خص به الرجل؟ وكيف سيتقبلن ذلك، وتطيب نفوسهن به، ومعلمتهن تستغفر الله من الحرج الذي تشعر به في داخلها، وتطلب من العلي القدير أن لا يؤاخذها على ما لا تملكه من الاقتناع بكثير من الكلام الذي يدندن به غالب الدعاة والمفكرين عن الحقوق الفائقة للمرأة في الإسلام، فهو يبدو لها نسيج مهلهل متهافت يحتاج إلى تأصيل وتحرير.
طلع للعن حكاية تانية!
دعوت الله كثيرا أن يفتح عليّ، وابتدأت البحث مستعينة به سبحانه، وجدت ملفا جميلا في إسلام اون لاين بعنوان (الملائكة لا تلعن الرجال) لكنه لم يروي غليلي فقد كنت أؤمن أشد الإيمان بأهمية الاستقصاء الفقهي لكلام العلماء القدامى، ثم الرجوع إلى المتقنين من الفقهاء المعاصرين في عرض أية قضية فقهية..
البداية كانت من فتح الباري شرح صحيح البخاري. لكنها كانت بداية غير مشجعة إطلاقا بالنسبة لي.. والحال ذاته مع شرح الإمام النووي لصحيح مسلم.. فالكتابان اقتصرا على ظاهر الحديث دون الغوص في دلالاته -إلا قليلا- وفقا للسياقات والمقاصد الفقهية التي تتواءم دوما عند التحقيق..
لم أستسلم استعرت من مكتبة أحد أعمامي –جزاه الله خير- كتاب فيض القدير للعلامة عبد الرؤوف المناوي.. وهو كتاب حديثي فقهي.. لما قرأت تعليقاته على الحديث الذي نحن بصدد الكلام عنه، لم أتمالك نفسي من أن أصرخ بفرح أيقظ أختي النائمة.. اعتذرت لها قائلة: آسفة غصب عني أصل اللعن طلع له حكاية تانية!
إيه هي حكاية اللعن؟
العلامة عبد الرؤوف المناوي يقول:"وليس المراد باللعن، اللغوي، الذي هو الطرد والبعد من رحمة الله لأنه لا يجوز على مسلم بل العرفي، وهو مطلق السب، والذم، والحرمان من الدعاء لها والاستغفار إذ الملائكة تستغفر لمن في الأرض كما جاء به القرآن فتبيت محرومة من ذلك." ا.هـ. فيض القدير: ج1/ص309.
انتقلت بحماسة أبحث في (صندوق الدنيا) كما تسميه صديقة لي.. أو حاشية رد المحتار على الدر المختار للإمام ابن عابدين الحنفي.. وجدت كلاما يصب في ذات المنحى الذي نحاه صاحب فيض القدير..
ورد في الكتاب المذكور ج3/ص416 ما نصه: "مطلب في حكم لعن العصاة: أقول: حقيقة اللعن المشهورة هي الطرد عن الرحمة، وهي لا تكون إلا لكافر، ولذا لم تجز على معين لم يعلم موته على الكفر بدليل. "ثم قال ناقلا عن القهستاني:"... .اللعن في الأصل الطرد. وشرعا في حق الكفار الإبعاد من رحمة الله تعالى، وفي حق المؤمنين الإسقاط عن درجة الأبرار." ثم قال: "... وعن هذا قيل إن المراد باللعن في مثل ذلك الطرد عن منازل الأبرار لاعن رحمة العزيز الغفار."
هجر الزوج ليس من الكبائر!
هذا ما ذهب إليه العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته على الدر المختار.. لم يعلل سبب هذا الحكم الذي توصل إليه.. أذكر أني قرأت أن بعض الشافعية قد ذهبوا إلى أن الغيبة من الصغائر لا من الكبائر لأنها مما يتكرر، ويشق التحرز منها، وهذه سمة الصغائر، وجعلها من الكبائر مما يوقع الناس في الحرج الشديد والحرج مرفوع.. إذن لعلها العلة التي جعل الإمام ابن عابدين بني عليها الإمام ابن عابدين اجتهاده.. سألت شيختي في الفقه عن الفهم الذي توصلت إليه، وأقرتني عليه بفضل الله تعالى..
توازن لا تهاون..
ذكر الإمام الغزالي في ضابط الكبيرة: أنها كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف من الله عز وجل، أو حذر من عاقبة المعصية، حيث يكون متهاونا بارتكابه، متجرئا عليه، لكثرة اعتياده عليها.. قال: أما ما يحمل على فلتات النفس أو اللسان، وفتور في مراقبة التقوى، ويشعر العاصي حال المعصية بالندم يلازمه وينغص عليه معصيته، فهذا ليس بكبيرة،ولا يمنع العدالة.
نقلت هذه العبارة لأدفع ما قد يظنه القارئ من كوني أفتح بابا للاجتراء على الحرام والعياذ بالله بنقلي لكلام الإمام ابن عابدين في هذه المسألة، والذي أعتقده أن وضع الأحكام في سياقاتها الصحيحة، وتبصير الناس بها، هو الأوفق لهم إيمانا وسلوكا، إذ تستبين لهم سعة الشريعة، وملاءمتها لطبيعة الإنسان، ومناسبة العقوبة للذنب.. وسبحان ربي اللطيف الخبير.
هل تلعن الملائكة النساء فقط؟
قال أحد مشايخي: النهي الوارد في الحديث يتوجه إلى الزوج من باب أولى، فإذا كان اللوم يتوجه إلى الزوجة مع كون الزوج قادرا على أن يعف نفسه بزوجة ثانية، فإن اللوم يكون أشد وأقسى على الزوج الذي لا تملك الزوجة خيارًا آخر لإعفاف نفسها معه إلا أن يطلقها .ا.هـ
حقا كم هو ظلم عظيم وبهتان مبين، نقض الميثاق الذي أكد عليه الله عليه في مسألة أهون من مسألة العفة: قال تعالى:"وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً" (النساء : 21 )
ثم إني وجدت في أحد كتب الحنابلة (كشاف القناع للشيخ البهوتي ج5/ 192) ما يعضد كون اللوم موجها للطرفين، إذ يقول الإمام أحمد: لا يبيت –أي الرجل– وحده، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: أنه لعن راكب الفلاة وحده، والبائت وحده. هذا مع كون اللعن –كما تبين– يُحمَل على المعنى العرفي لا اللغوي..
ليست حربا!
ما هي حقيقة اللعن الوارد في الحديث؟ وهل هجر المرأة لزوجها صغيرة أم كبيرة؟ وهل يتوجه اللعن في الحديث إلى الزوج كما الزوجة؟
ليس الغرض من الكلام في الموضوعات السابقة شن حرب على الرجل، أو مناطحته، فكيف تطيب الحياة إن كانت النفوس موتورة، والقلوب جافية؟!
هذه المقالة هي محاولة لقراءة متأنية في نصوص الكتاب والسنة في ضوء أقوال العلماء المحققين تضع الأمور مواضعها بما يتسق مع عدالة الشرع، وحكمته، ومراعاته لطبائع النفوس، بما يكون أساسا لحياة مستقرة تظللها السكينة، ويغشاها الأمن. والله أعلم.
اقرأ أيضاً :
حكايات صفية: نسيم أهل الحجاز / حكايات صفية: مساحات رمادية