انقضت أيام العيد الأربعة، ولكن ليس من عادة طلاب المدارس أن يكونوا بالنشاط والتوقّد الذي يدفعهم للالتحاق بالمدرسة فور انتهاء العطلات، لأنهم ينتظرون أيام العطلات على أحر من الجمر ليتخلّصوا من هذا الكابوس المرعب: المدرسة، وليرتاحوا من مطالعة وجه جلّادها: المدرّس.. فيمدّدوا قليلاً أيام هناءتهم وراحتهم...
ولذلك، آثرت أن لا أستأنف دوامي المدرسي إلا بعد أن أتصل هاتفيا بالمدرسة لأرى وضع الطلاب، وهل انتظموا في الدوام أم لا، إذ ليس من السهل أن أقطع الطريق الذي يفصل بيني وبين مدرستي والذي يصل إلى الخمسين كيلومترا، وفي هذا البرد القارص، وجاء الرد: لا طلاب..
لا أخفيكم، فرحت لهذا الرد, يبدو أن المدرس أكثر تشوقا من الطالب لازدياد أيام العطلات ولكن سرعان ما بدأ ضميري بوخزاته المعروفة: كيف تفرحين لهذه العطلة؟؟ كيف تفرحين لتسيّب الطلاب وإهمالهم؟ أ تفرحين للهروب من التعليم؟؟
لكن، لم يطل الوقت بهذا الصراخ حتى رن الهاتف لأسمع صوت المدير وهو يسألني: هل من جديد؟ لقد جاءنا مدرّس جديد بدلا عنك، هل انتقلت؟ الحقيقة أنني لم أكن على علم بالمستجدات الحاصلة في التشكيلات الجديدة للمدرسين وإن كنت قد شممت رائحتها، ولهذا قلت له: لا أنا لم أنتقل، ولا علم لي بشكل رسمي بهذا الأمر.. على كل, سأراجع مديرية التربية لأتأكد من الأمر..
وفعلا، ذهبت في اليوم التالي أستجلي حقيقة الموقف، وإذا بالأمر كما قال المدير: لقد تم نقلي فعلا, ولكن إلى أين؟ هنا تكمن المفاجأة، إلى أقرب مدرسة إلى بيتي، لا تكاد المسافة بين بيتي وبينها تصل إلى ال500 متر، فقلت يا سبحان الله، أبعد أن كنت أقطع يوميا أكثر من 100 كم ما بين ذهاب وإياب، ها قد انتقلت وبكل سهولة إلى أقرب مدرسة إلى بيتي!! يا سبحان الله..
كان ذلك اليوم هو يوم الخميس، فانتظرت حتى يوم الأحد -بداية الأسبوع- لأتابع تسوية أوراق النقل، وانطلقت في رحلتي الأخيرة إلى تلك القرية التي قضيت فيها الفصل الدراسي الأول كله, سبحان الذي لا يدوم على ما هو إلا هو.. أهكذا هي أيام الدنيا, أهكذا هي محن الدنيا, أهكذا هي عذابات الدنيا؟؟ تنقضي بكل هذه البساطة؟!؟!؟
عندما تمّ تعييني في هذه القرية، وعندما بدأت أتدرب على الذهاب والعودة منها، كم وجدت الأمر شاقاً، ولكنني وبفضل الله تعالى لم أستسلم للضغوط التي مورست علي لأعجّل في موضوع نقلي إلى مدينتي، فالطريق معروف, وقد تمّ التلميح إلى ذلك صراحة من قبل العاملين في مديرية التربية، ولكنني لم أرض لأنني أحببت أن أمشي ومنذ البداية باستقامة تامة، حتى أهلي، أرادوا أن "يدبّروا" لي موضوع النقل, ولكنني لم أرض وكادت أن تنشب"خناقة" بسبب هذا الموضوع ولكن الله سلّم.. والحمد لله أن كل الوسايط التي حاولوا أن يدبّروها باءت بالفشل.. وفي النهاية استسلموا للأمر الواقع، لقد قلت لهم منذ البداية: أنا متوكلة على الله عز وجل، وهو لن يضيعني، وسيتم نقلي وبطرق سليمة، ولكن نحتاج إلى الدعاء وإلى الانتظار بعض الوقت، وها هو ربي لم يخذلني، وحاشا له أن يفعل, بل لقد عوّضني بطريقة لم أكن أتوقعها، فعلا.. صدق رسول الله وهو الصادق المصدوق:"من ترك شيئا لله عوّضه الله خيراً منه."
أحسبكم الآن قد فرحتم لي، وتهنئونني، شكرا لكم، وبارك الله فيكم... وعقبال أفراحكم... كل هذا ليس ما أريد أن أقوله اليوم، ما أريد أن أقوله هو: بعضاً مما رأيته في مدرسة القرية...
ما آلمني كثيرا ولا يزال، مستوى التعليم في الريف، مستوى متدني جدا، هل تصدقون أنه كان لدي طلاب في الصفين الأول والثاني الإعدادي لم يتعلموا القراءة والكتابة بعد.
السؤال الذي يطرح نفسه: فكيف وصلوا إذاً إلى هذه الصفوف العليا التي لا يصلها إلا من أتقن أولى مهارات التعلم: القراءة والكتابة؟
وصلوا: لأن نظام التعليم لا يسمح إلا بسنتين للرسوب في مرحلة التعليم الأساسي والتي تمتد من الصف الأول الابتدائي وحتى الصف التاسع، وقد استنفذ هؤلاء الطلاب سنوات الرسوب، فصار النقل حقا مفروضا لهم على إدارة المدرسة.. والله لقد حزنت جدا حين كنت أراهم، وهم يجلسون في الصف لا يفقهون شيئا مما يدور حولهم.. يمسكون بالكتب ولا يعرفون كيف يمسكونها بالشكل الصحيح والآن.. سؤال آخر يطرح نفسه: أين معلّموهم في الصفوف الابتدائية الأولى، لماذا لم يعلّموهم؟؟ وهنا الطامة الكبرى..
فلم يكن هؤلاء الطلاب الذين لا يفقهون شيئا في القراءة والكتابة هم "الجناية" الوحيدة لهؤلاء المعلمين، بل لقد جنوا على كل التلاميذ ولكن بطريقة أخرى.. كيف؟ هذا ما عرفته متأخرة جدا..
إنه يا سادتي: الغش.. نعم موضوع الغش..
ولكن قد تتساءلون: وما الجديد هنا؟ نحن نعاني ومنذ وقت طويل من تسيب المدرّسين أثناء مراقبة التلاميذ في الاختبارات..
الجديد هنا: أن المدرّس لجأ إلى التساهل في المراقبة أثناء الاختبارات, بل وإلى تغشيش التلاميذ بنفسه في الاختبار ليغطي على تقصيره في تدريس التلاميذ..
فمعظم مدرّسي الصفوف الابتدائية الأولى من أبناء القرية نفسها، هؤلاء لديهم أراض زراعية يرعونها، بالإضافة إلى عملهم في التدريس، وكثيرا ما يتركون الصف، ولا يحضرون إلا حصة أو حصتين في اليوم الدراسي كله، ثم ينصرفون لأشغالهم، وعندما يأتي وقت الاختبارات لا يستطيعون إلا أن يغششوا الطلاب لينجحوا، أو يتساهلوا معهم جدا في المراقبة بل وفي التصحيح أيضا، لأنه ليس من المعقول أن يرسب التليمذ بسبب تقصير المدرّس خصوصا أن أولياء أمر التليمذ لن يسكتوا على ذلك، فهم يعرفون حق المعرفة ما يفعله المدرس.. وهكذا..
يغشش المدرّس تلاميذه لينجحوا، ويفرح أولياء الأمر بنجاح أولادهم، وأما التلميذ فهو الضحية بين الطرفين.. هذه الضحية التي ستتسلم يوما ما زمام الأمور، فكيف ستتصرف؟؟
ليت المشكلة اقتصرت عند انعدام كفاءة جيل الغد، الأمر أدهى من ذلك وأمرّ، لقد فسدت تربيتهم حتى أصبحوا يرون أن الغش في الاختبارات حقٌ لهم، فعندما كنت أراقبهم في الاختبارات الشهرية حاولت جاهدة أن أمنع الغش بينهم، وإذا بأحدهم وهو من الصف الثاني الإعدادي يقول لي:"يا آنسة، لماذا لا تعلّمينا"؟؟ فاستغربت كثيرا وقلت له: لقد بذلت كل جهدي في تعليمكم، وربما فأتتني بعض الأمور ولم تفهموها، فلماذا لم تسألوني عنها فقال:"لا، أقصد أن تعلّمينا الآن، أعطينا إجابة سؤال أو سؤالين من أسئلة الاختبار".. صعقتني جرأته على طلب الغش هكذا.. فقلت له:وكيف أسمح لنفسي بأن أغششك، هذا حرام، وإذا بالمفاجأة: كل الأساتذة يغششوننا، سؤال أو سؤالين فعلا لم أصدق يومها أذنيّ، وحكيت لزميلاتي المدرسات ما حدث معي، وإذا بإحداهن تؤكد ذلك بأن أحد المدرّسين طلب منها أن تتساهل مع الطلاب في المراقبة، فالكل هنا في القرية أهل، ولابد من المساعدة.. قال ذلك حين كانت تخبر المدير وتشتكي له من الغش الغريب الذي يحدث بين الطلبة أثناء الاختبارات!!
لقد أصبحنا أنا وزميلاتي المدرّسات نشكّل كابوساً حقيقيا على التلاميذ, فمساكين هم الذين سنكون من نصيبهم في المراقبة خلال الامتحان!! بل وفي آخر يوم من أيام الاختبار، وعندما تجاوزت القاعة الرابعة متوجهة إلى القاعة الخامسة التي هي صاحبة الحظ السعيد بمراقبتي لها ذلك اليوم، سمعت"الزغاريد" تنطلق من داخل القاعة الرابعة، فقد اطمأنت الفتيات إلى أنهن نجون مني ذلك اليوم!! فعبرن عن فرحتهن بالطريقة المعهودة!!
الغش في الامتحانات مشكلة كبيرة، حين يتربى الطفل على الغش، فإن ذلك سيزرع في نفسه أن الغش هو الطريقة الوحيدة الناجحة والتي لن يستطيع أن يخلّص نفسه في الحياة بدونها بغض النظر عن الدور الذي سيلعبه حين يكبر أي سواء كان طبيبا أو مهندسا أو مدرّسا أو حتى حرفيا أو أمّا أو مدبّرة منزل.. الغش والتحايل هي أول ما يفكر فيه كوسائل نجدة حين"تزنقه" الظروف في زاوية ما.. أما المزيد من السعي والإتقان والتعلم بل وحتى التوكل على الله, فهذه كلها مفردات لا معنى لها في قاموس تطبيقه العملي..
عندما بدأت أيامي الأولى في مدرسة القرية، حاول المدير ومعاونه طمأنتي إلى أنني سأكون مسرورة في هذه المدرسة بالذات، لأن الإدارة متفهمة ومتساهلة ومتعاونة مع المدرّس, فاستبشرت خيراً، لكنني لم أفهم أن معنى"متفهمة ومتساهلة ومتعاونة مع المدرّس": متسيبة، فالإدارة فعلا متسيبة، فهي تسمح للأساتذة أن يفعلوا ما يحلوا لهم، ماداموا مستمرين في القدوم إلى المدرسة، صحيح أن المدير لا يفعل ذلك علنا وصراحة، ولكنه يفعله ضمنيا كما لو كان هناك تواطؤ مسبق على وأد مستقبل هؤلاء الطلبة.. يبدو أن الإدارة متواضعة جداً في طموحاتها، فهي تنظر إلى الشيء البسيط الذي يجود به المدرّس وتعتبره أفضل من اللاشيء، فأي قضاء على الأمية هذا، وأي تعليم، هذا الذي يكون طموحه من الأسفل لا من الأعلى.
عدت من المدرسة ذلك اليوم، وقد ودّعني بعض التلاميذ الذين كنت أدرّسهم، رأيت الحزن في أعينهم، والكآبة على وجوههم، ففرحت، ليس لحزنهم، بل لأنني أحسب أنني استطعت أن أغرس فيهم شيئا مفيدا، وأتمنى أن يكون الله تعالى قد وفّقني فعلا إلى أن أكون قد زرعت في نفوس الفتيان والفتيات اللذين واللواتي درّستهم لأسابيع فقط، حب الله وحب رسوله والعزة بالدين، والرغبة بالعمل, والطموح العالي لتحقيق النهضة.. أتمنى ذلك من كل قلبي..
وكم تمنيت أن يمتد عملي معهم ولو لأسبوع واحد فقط، لأبين لهم أنني لم أكن شديدة معهم في المراقبة إلى هذه الدرجة لأنني لا أحبهم، بل لأنني أريد لهم الخير.. لا أخفيكم، في بداية عملي في الريف فرحت لهذا الهواء النقي وهذه المناظر الخلابة وهذه المساحات الشاسعة من الرؤية التي لا تحدها جدران الاسمنت كنت أدعو الله أن يحمي بلادي وسائر بلاد المسلمين، لقد أحببت هذه القرية، وأحببت أطفالها،مع أن هناك الكثير من الأشياء التي تجعلك"تقرف عيشتك".. لكن الحمد لله أنه جعلني أحبها وأحب تلاميذي لأستطيع الاستمرار في عملي، فالمدرّسة هي فعلا أم ثانية، لن تستطيع أن تربي ما لم تحب أطفالها..
هذا يا سادة ما أحببت أن أخبركم به عن تجربتي الأخيرة وهي: التدريس في الأرياف..
لقد كانت هذه تجربة متعبة للغاية، ولكنها كانت مفيدة لغاية، متعبة خصوصا في أيام الحر الشديد والبرد الشديد، بل لقد اكتشفت أن الحر مهما كان شديدا فإنه أرحم من الصقيع الذي يشل الأطراف.. ويجمّد الكلمات في الحلوق، بل ويثقّل اللسان عن النطق..، ولكنها كانت مفيدة، لأنها علّمتني معنى التوكل على الله بحق وحقيق، وعلّمت من حولي هذا المعنى أيضا، فموضوع نقلي لم تتدخل فيه إلا يد السماء..
علّمتني أن أحب من أمامي مهما كان مختلفا عني بل ومزعجا لي- فأنت في الريف تجد الكثير من الأشياء المزعجة بل والمقرفة: لأنني إن لم أحبه فلن أستطيع أن أؤثر فيه، فكيف لا أؤثر فيه وأنا التي اخترت أن تكون مهنتي كمهنة الأنبياء: أن أدلّ الناس على طريق الله عز وجل، وأن أزرع في قلوبهم حبه والخشية منه، كيف س: "أسمع به وأبصر" إن لم أزل جدران البعد التي تفصل بيني وبينهم, لم أجد شيئا يذيب هذه الجدران الجليدية القاسية مثل حرارة الحب ودفئ الحنان..
بالمناسبة.. هذه دعوة لنحتفل جميعا بعيد الحب، ولكن الحب على طريقة جديدة, ولنجعله طريقنا في التعامل مع كل الناس وسائر أيام السنة، لا مع فئة من الناس"البوي والجيرل فريند" ويوما واحدا في السنة.. ، واحسب أن هذا هو أيضا طريق، فما كانوا ليستطيعوا التضحية والصبر على إيذاء أقوامهم لولا أنهم أحبوهم وخافوا عليهم أن يلفحهم لهيب جهنم.. أعاننا الله على أن نكون مثلهم، وأن نكون كما يحب ويرضى دائماً.. وأبداً.
واقرأ أيضاً:
حكايات بنت الفرات: وقفة على أطلال بيت جدي / حكايات بنت الفرات: جيش التحرير أم جيش التدمير..