بينما كنت أتقلّب بين القنوات الفضائية، استوقفني مشهد من فيلم، وهو مشهد معاقبة قائد فصيلة عسكرية أثناء التدريب لأنه لم يستطع إحلال النظام بين جميع أفراد فصيلته كان المشهد مزعجا للغاية، كانت الفصيلة تتلقى درسا عمليا في كيفية استعمال جهاز اللاسلكي وقام المدرّب باستخراج دودة من الأرض وبصدمة واحدة بالتيار الكهربائي من هذا الجهاز تم إحراقها: فتلاشت ولم يبقى لها أثر، وكان الذي يجري هذه التجربة يقول للجنود- على هامش التدريب الأصلي- أنه سيريهم مقدرة هذا الجهاز ليستعينوا به في انتزاع الاعترافات من الأعداء.. فما كان من أحد الجنود إلا أن غادر الدرس التدريبي لأنه رفض أن يقتل الكائنات الحية بهذه الطريقة - ويقصد الدودة
ولمّا لم يستطع قائد الفصيل إجباره على العودة تمت معاقبة قائد الفصيل من قبل المدرّب بأن فعل به تماما مثل ما فعل بالدودة المسكينة ولكن.. في أكثر الأماكن إحراجا للإنسان: أعضاؤه التناسلية، وأمام جميع أفراد فصيلته الذين أخذوا يسخرون منه بدورهم..
شدّني الفيلم كثيرا، لأنه بدأ يعطيني تفسيرا لما استنكرناه جميعا من قصص تعذيب الأسرى العراقيين.. ولهذا شاهدته من أوله في اليوم التالي.. الفيلم هو Tigerland وهو يتحدث عن مراحل إعداد الجنود الأمريكيين قبل أن يتم إرسالهم إلى ساحة الحرب أيام حرب فيتنام، وكيف أنهم يتم خداعهم وتضليلهم بالعبارات البراقة والوعود الزائفة، وعندما يعلقون في شباك هذا الجيش بتأثير من هذه الوعود تتم معاملتهم أسوأ معاملة، فيمتهنون ويهانون ولا يتبقى لهم أدنى ذرّة من كرامة يتمتع بها آدمي على وجه هذه الأرض..
لم لا يشتكون؟ وأمريكا كما نعلم – هاهاها – بلد الحرية؟
لأنه يتم تضليلهم حتى في هذه الأمور، فلا يعرفون حقوقهم، بل يتلقون من التهديدات والوعيد ما يجعلهم يخافون حتى من البوح بما يعانونه لأهليهم وذويهم، كما لو كانوا في إحدى عصابات المافيا وليسوا في جيش أقوى بلد ينافح عن الحرية حتى أنه ليساعد الشعوب المضطهدة من قبل أنظمتها على نيلها – هاهاهااها.. مرة أخرى
لم تخل جملة واحدة في حوارات هذا الفيلم من سباب وشتائم بأقذع الألفاظ، الطريقة التي يتعامل بها المدرّبون مع المتدربين هي طريقة القمع والسخرية وتحطيم المعنويات، بل إنهم كثيرا ما يأخذون الاختلافات التي تحصل بينهم وبين الجنود على محمل شخصي ويقومون بالتالي بتصفية هذه الحسابات الشخصية مع المجندين بأيديهم
حتى أن أحد هؤلاء الجنود المساكين تورم وجهه فلم تعد تظهر له ملامح أصلا..
لقد أثبتت التجارب الواقعية للجيش الأمريكي – في حروبها الخارجية - أن هذه الطريقة في إعداد الجنود لا تُعد جنودا، بل تعد وحوشاً فقدوا آدميتهم واحترامهم لأنفسهم.. عندما كنت صغيرة، كنت أستنكر جداً الطريقة التي يواجه بها الشباب التحاقهم بالخدمة الإلزامية في الجيش، كانوا - ولا يزالون- يكرهون خدمة العلم، ويحاولون التملّص منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لم أكن أعرف أن ما يتلقونه هناك من إهانات وإذلال يفوق كثيرا جدا ما يتلقونه من تدريب ليصبحوا مقاتلين أكفاء..
حسبنا الله ونعم الوكيل.. ألهذه الدرجة نتبع الآخرين؟ ألا نستطيع أن نفكر بعقولنا ولو لمرة واحدة فنقيّم ما نأخذه قبل أن نأخذه؟؟ ولكن لم العجب.." لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" قلنا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟؟ "
صدقت يا رسول الله، لقد اتبعناهم اتباعا ليس أعمى فقط، بل جنونياً مدمّراً أيضا..
كيف نترك الطريقة الرائعة التي خطّها الله عز وجل لنا في إعداد جنودنا لنأخذ طريقتهم الشيطانية فنعد بها جنودنا، وإذا بنا لا نخرج جنودا بل موتورين حاقدين ومضطربين نفسيا وجسديا!!
ولكن.. مرة أخرى لا عجب..
عندما قرأت كلمة غوستاف لوبون "لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب"، سررت لذلك كثيرا إذ إن الفخر ما تشهد به الأعداء، ولكنني لم أدرك أبعاد هذه الكلمة إلا مؤخرا، بعد أن رأيت نتائج ما تسميه أمريكا فتوحاتها في قرننا الميلادي الجديد..
الآن أدركت لماذا تنشأ كل هذه التجاوزات في الحروب..
لأن جندي الجيوش الحديثة قد تم إعداده على طريقة الشيطان.. لا على طريقة الرحمن..
الجندي الآن ليس صاحب رسالة، بل هو صاحب نفسية مقهورة امتلأت حقدا وإذلالا
فبالتأكيد لن يتمالك نفسه عن أن يفرّغ هذا الحقد فيمن صاروا تحت يده، مع إيجاد تبرير يسكت ما تبقى من صوت للضمير الإنساني وهو: أنهم أعداء.. حتى ولو كانوا نساءً وأطفالاً وعجائز!!
لماذا يجب أن يتعرض الجنود لهذه المعاملة الوحشية؟ أليخلقوا منهم رجالاً قادرين على التحمل؟
وهل خلقوا منهم فعلا هؤلاء الرجال القادرين على الصمود؟
هل صمد الأمريكان في فييتنام فعلا؟
لماذا كان أصحاب محمد يصمدون ويصمدون مع أنهم لم يتلقوا مثل هذه التدريبات "النفسية" الشاقة؟
حتى أن الواحد منهم كان يُرى في جسده بعد المعركة بضعا وثمانين جرحا؟؟!!
أعتقد أننا سنعود إلى نقطة البداية ألا وهي: بناء الإنسان.. بناء الإنسان في كل مجال هو الأساس، وإن لم نبن الإنسان فلن نجني إلا أشدّ الويلات.. أجارنا الله منها..
وبناء الإنسان لا يكون في جوّ من القمع والإكراه... بل تحت ظل الحرية.. يا أهل الحرية..
حين كان أصحاب محمد يختارون المشاركة في الجهاد، كانوا يفعلون ذلك بملء إرادتهم.. يختارون ذلك اختيارا، ولا يجبرون عليه، وأما دور القرآن فهو إشعال حماسهم وتشجيعهم ودفعهم في طريق هذا الاختيار، أما الآن فيتم الإجبار بطريقة أو بأخرى، ففي أمريكا خدمة الجيش ليست إلزامية بل اختيارية، ولكنك تجد أن الجنود الملتحقين بالجيش ليسوا أحرارا تماما في هذا الاختيار، بل اضطرتهم ظروفهم لهذا الاختيار، فهذا يريد عمل شيء جيد لينظف به سجل ماضيه الملوّث، وذاك لا يجد مصدرا للرزق فآثر الالتحاق بالجيش ليعيش هو ومن يعول، وذاك عانى كثيرا من سخرية والده وكل من حوله أثناء طفولته بل وحتى في شبابه
فحسب أنه من خلال الجيش سيثبت وجوده فيحقق احترامه لذاته.. وهكذا..فالجيش بالنسبة لهم مصدر أخذ لا عطاء.. فهم فعلاً: مرتزقة .
أما أصحاب محمد، فعندما كانوا يلتحقون بالجيش كانوا يعرفون تماما أنهم قد لا يعودون، بل لقد كانوا يلتحقون بالجيش ليقدّموا لله تعالى أغلى ما لديهم وهو أرواحهم، فقد كانوا يحبون الله، ويعشقون جنته وهذا ما أثمرته طريقة الله عز وجل في بناء الإنسان، فقدّموا الكثير الكثير، وأرادوا تقديم المزيد من خلال الجيش
فالجيش بالنسبة لهم مكان عطاء لا مصدر أخذ..
وطبيعي بالتالي ممن وصل في عطائه إلى درجة الاستغناء عن روحه ليرضى من يستغني عنها من أجله، طبيعي أن يكون رحيما رفيقا بخلق الله حتى ولو كانوا من الأعداء، لأنه أصلا يرى في هذا الجهاد وهذا التعب مصدرا لسعادته، ولأنه أيضا حمل على عاتقه مهمة تبليغ رسالة الله تعالى إلى كل الناس وإنقاذهم من الظلم والطغيان الذي يمنعهم من اعتناق ما يريدون من دين.. "إنما جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"..
ألا تلاحظون معي أن شعار "التحرير" مشترك بين الجنود المسلمين من أصحاب رسول الله وبين جنود الأمريكان، لكن النتائج وحدها أثبتت صدق الأولين وكذب المتأخرين..
كيف لمن فقد حريته واحترامه لنفسه، أن يمنح الحرية والاحترام للآخرين؟؟
لم يكن الأمريكان أحرارا في اختيار قرار الالتحاق الجيش، وعندما التحقوا بالجيش فقدوا احترامهم لأنفسهم لشدة ما تعرضوا لإذلال وإهانات، فلم يعودوا يحترمون أي حياة: سواء كانت حياة إنسان أو حتى حياة دودة!!
فاقد الشيء لا يعطيه أيها السادة..
أما أصحاب محمد، فقد استطاعوا أن يمنحوا الحرية والاحترام لأنهم هم أنفسهم كانوا أحرارا ومحترمين لأنفسهم ومن ثم محترمين لكل مخلوقات الله عز وجل، احترموا كل ذي روح، لماذا؟ لأنه من مخلوقات هذا الخالق العظيم الذي لا يرضى أن يُساء إلى أي من مخلوقاته حتى ولو كان نملة..
وإليكم الشاهد على ما أقول:
حدث في قديم الزمان أن جنديا من جنود الله – اسمه نبي الله سليمان - احترم نملة فلم يطأها بسنابك خيله، بل جعلته هذه النملة يستشعر معنى عبوديته لله حين سمع مقولتها.. "قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وان أعمل صالحا ترضاه"..
نعم.. إن بناء الإنسان هو أساس بناء أي شيء وكل شيء..
لكم هي سعيدة تلك النملة التي كانت في طريق جندي الرحمن... ولكم تعيسة هي تلك الدودة التي كانت في طريق واحد من جند الشيطان.. نعم: جند الشيطان..
والآن.. هل تحبون أن تروا الطريقة التي يعد الله عز وجل بها رجاله؟؟
هل أخضعهم للتعذيب الجسدي والإذلال النفسي ليخلق منهم أشاوس يصمدون في وجه الأعداء؟؟!!
سأخبركم بطريقته جلّ وعلا فقط لتعلموا كيف خرّجت جيوش ملؤ قلبها الرحمة، ولم تُخرّج جيوشاً ملئ قلبها القسوة والكره وانتظار فرصة التنكيل كما نرى الآن..
تعالوا لنلق نظرة على طريقة الله عز وجل في صناعة رجاله..
قال الله تعالى : "فلمّا فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلّا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلاً منهم، فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولمّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"
الموضوع في النهاية – من الآخر – يقوم على أساسين ينبثق أحدهما من الآخر
الصبر.. وينبثق عن: الإيمان وهو الإحساس بالعبودية للخالق جل وعلا وبالتالي الرغبة في نيل رضوانه..
هكذا خلق الله عز وجل الإنسان: كائن تحرّكه أفكاره..
وهذا هو الطريق الذي سلكه الأنبياء في تدريب جنود الله: غرس الإيمان، ثم اختبارات الصبر والثبات والناجح فيها يكون هو صاحب الإرادة القوية والهمّة العالية والعزيمة الشديدة.. وهو المطلوب ليكون جنديا معمّراً لا جندياً مدمّراً..
امتحنهم أولا بأشياء بسيطة: كالصبر على أداء الطاعة، والصبر عن المعصية والصبر على البلاء..
ولست أقصد بقولي "أشياء بسيطة" أن أقلل من قيمة الصبر في هذه الأنواع الثلاثة، بل هي مهمة جداً بل وخطيرة إذ عليها يتوقف مصير الجندي: هل يصلح أن يكون جندياً فيدخل في جند الرحمن أم لا، فمن لا يستطيع النجاح في اختبارات الصبر البسيطة هذه لن يستطيع أن يصبر في مواقف الصبر الأكبر: في مواجهة الموت..
ببساطة.. هذا هو منهج الله عز وجل..
وهكذا يعد الله عز وجل جنوده..
القتال في مفهوم الإسلام مهمة ورسالة سامية لا يبغي المسلم من ورائها إلا إرضاء الخالق جلّ وعلا، وهو لا يرضى إلا إذا فعلها المسلم على النحو الذي يريده الخالق جلّ وعلا..
بهذه الطريقة فقط استطاع التاريخ أن يجد بين صفحاته قصصا عن الحرب والبطولة المغلفة بالرحمة والإنسانية، وبدون ذلك امتلأت صفحاته دماء وأشلاء وجرائم ضد الإنسانية.. ابتداءً بإعداد الجنود، وانتهاء بنتائج عمل هؤلاء الجنود..
ودمتم سالمين طيبين هانئين..
واقرأ أيضاً:
حكايات بنت الفرات: وقفة على أطلال بيت جدي / حكايات بنت الفرات: مدارس ماريا / تعليم مين، إيه،..ليه!يا عم كبر، مشاركة