حكايات صفية: المكلا .. ملامح إنسانية! (1)
هل أجرؤ؟
عزمت منذ كتبت الجزء الأول من هذه اللمحات أن أتناول وضع المرأة في حضرموت تحليلا وتعليقا من خلال الرؤية التي تكونت لدي أثناء دراستي في المكلا ، لكني ما إن أخذت أعد مادة المقالة حتى تكشف لي صعوبة الخوض في بعض موضوعاتها.. لماذا؟ لن أجيب على هذا السؤال بل أدعك عزيزي القارئ لتكتشف الجواب بنفسك في ثنايا المقالة وسياقاتها،وفي ضوء التقاليد العربية المجيدة، والتي لها سحرها الخاص في حضرموت!
وقد عزمت أن أكون أمينة في إيصال الصورة كما رأيتها بما يخدم عمق السعي من بعض المخلصين إلى النهوض بواقع المرأة اليمنية بما يجعلها تحقق سمو الأهداف التي خلقها الله لأجلها صلاحا لحالها، ونفعا لأمتها...
بساطة..
هذه الكلمة هي أصدق وصف للحياة في حضرموت بكل تفاصيلها.. لكني اكتشفت هناك أبعادا عجيبة للبساطة الظاهرة تخرجها أحيانا إلى أغوار سحيقة من التعقيد تحتاج إلى خبرة وتمكن من فهم أحوال النفوس البشرية، وسلوكها الفردي والمجتمعي..
وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل اليمن بأنهم ألين قلوبا، وأرق أفئدة، وهكذا الرجل الحضرمي في تعامله مع المرأة، لين، ورقة حاشية، وصبر، وحسن عشرة.. هذا في عموم الأحوال.. ينبع ذلك من طبيعة فطره الله عليها، وقناعة راسخة في وجدانه بأن المرأة خلقت لأجل أن تكون في حمايته ورعايته المعنوية والمادية كما في خدمة بيته وأولاده، وهي مع ذلك أقل إدراكا منه لحقائق الأمور غالبا، وأقل قدرة على تحمل متطلبات الحياة..
هذه النظرة الحضرمية – في تصوري أغلبية عند جميع الشرائح المتعلمة والمثقفة منها وما سواها، من يدرك هذه الحقيقة فإنه لا يكون قاسيا في حكمه عندما يجد أن طلب التكافؤ العلمي والثقافي عند الرجل الحضرمي يكاد يكون قليلا، فهو في ذلك لا يصدر عن احتقار لدور المرأة في حياته أو أنها مطية فقط لتلبية الرغبات الحسية، بل هو يراها حقا سكن له يفضي إليها بطموحاته وآماله، ولا ينتظر منها الفهم الكامل لما يقول لأنه يكفيه تفهمها لما يقول، وإيمانها به، ودعمها له وهو مع ذلك يقدّر ما يصدر منها من نزق، وسوء تصرف، ويقابله بالحلم والتغاضي.
العجيب أن المرأة الحضرمية غالبا لا تنظر إلى التكافؤ العلمي والثقافي أيضا، فما تريده من الرجل هو أن يشملها برعايته المعنوية والمادية، يحترم إنسانيتها ويتعامل معها بجميل الخلق، فإن حقق ذلك فلا يعيبه أو ينتقص منه قصوره في الجانب التعليمي أو الثقافي..
زفت لي إحدى صديقاتي في المكلا خبر خطبتها، فهنأتها وسألتها عن خطيبها، فقالت: أكمل المرحلة المتوسطة فقط.. تعلمين أني كنت أقول دوما لن أتزوج إلا من يكافئني ثقافيا وعلميا لكني اضطررت أن أرضخ لفلسفة المجتمع الذي أعيش فيه.. ثم إن مجتمعنا يحقق التكافؤ بطريقته.. المتعلمة تتزوج من هو أدنى منها تعليما، والعكس لنحقق قدرا من التوازن لن يحصل بالطريقة التقليدية للتكافؤ!
من النماذج التي خالفت هذه القاعدة، دكتور كان يدرس لنا إحدى المواد التربوية، وكان أحد المتميزين حقا بعطائهم العلمي، زوجته كانت دكتورة أيضا في قسم اللغة العربية.. تقول: لقد اشترط علي منذ ليلة الزفاف أن لا أتوقف عن التحصيل العلمي، وكنت حينها قد أنهيت المرحلة الجامعية وهو كذلك، ووعد أن يدعمني دعما كاملا، وقد فعل، فكانت أوقاتنا مناصفة بين شؤون البيت وتربية الأولاد وبين الماجستير ثم الدكتوراه..
هذا النموذج قد يبدو تقليديا في بلد كمصر مثلا، لكنه في حضرموت كان خارقا للعادة، كونه يختار فتاة جاوزت العشرين من عمرها، والحضارمة يفضلون عادة الصغيرات، ويصر على كونها متعلمة، بل يصر على أن تكمل تعليمها، وأن تعمل بعد ذلك، بل ويسهم معها إسهاما كاملا في شؤون المنزل والأولاد، كل ذلك يجعله نموذجا مختلفا..
كنت أسير في طريقي إلى إحدى القاعات في الكلية، إذ اقترب موعد محاضرة أصول الفقه، وكان الدكتور -الذي حدثتكم عنه آنفا- خارجا من القاعة التي أقصدها، فإذا به يفاجئني بقوله: صفية؟! أهذه أنت؟ لماذا غطيت وجهك؟ ما الذي كان خطأ في كونك كاشفة الوجه؟ قلت له وأنا أبتسم – ابتسامة لم يرها! -: لعل ذلك أفضل إذ هو أوفق لتقاليد المجتمع قال: لا أوافقك، كما أنا لا أوافق زوجتي وابنتي على تغطية وجهيهما لكن لكل اختياره، وقد فاجأتِني حقا فقد كنت أظن أنك أكثر تفتحا أو كما قال..
خارج الإطار!
في السنتين الأخيرتين في الكلية – كما أخبرتكم في المقالة السابقة – قدم إلى الكلية أساتذة يمنيين بعضهم بعد أن أكمل الماجستير في الجامعات العراقية، وبعضهم خريجي كلية الشريعة والقانون في جامعة الأحقاف..
قال لنا أحد هؤلاء الأساتذة الفضلاء.. وكنت قد ذهبت إليه مع زميلة لي لنناقشه في مسألة علمية ما..قال بعد أن أتممنا النقاش: بصراحة لم نكن نتخيل أنا وزملائي أنه يمكن أن تكون في بلدنا فتيات نجيبات قادرات على أخذ العلم بهذه الصورة الجيدة.. أنتن لا تكتفين بالاستماع فقط بل تسألن وتناقشن بأسلوب علمي ممتاز.. لقد حكيت لأحد مشايخي فتعجب كثيرا من ذلك ودعا لكن!
كنت قد ذكرت لكم – في المقالة السابقة – أن ملامح حضارة علمية وأخلاقية وليدة قد بدأت ترى النور في حضرموت.. هذه الملامح صنعها المناخ الفكري الحر الذي أتاحته الوحدة، مما مكن الكوادر العلمية والثقافية من استعادة دورها في خدمة المجتمع دون عقبات من السلطة الحاكمة، كما ارتقى بالتعليم لعناية الكوادر الوطنية باستقطاب الكفاءات من الدول العربية، وابتعاث أبناء الوطن إلى الخارج، ليتشكل لدى الشباب عزم صادق على أداء دورهم العلمي والتربوي..
كل ذلك انتهض بمستوى الفتاة الحضرمية تعليميا وتوعية فكانت هذه الملاحظة من أستاذنا الجليل، وأرى اليوم أن التغير سينال عمق ثقافة المجتمع في خصوص العلاقة بين الجنسين وتصور كل منهما لدور الآخر في حياته كجزء من تكامل التغيرات في المجتمع التي يرتبط بعضها ببعض، ويقود بعضها إلى بعض لا على وجه التلازم، ولكن هي احتمالات راجحة – في تقديري- ، إذ أني لا أجد في الصورة الحاضرة للمرأة في ثقافة المجتمع الحضرمي تخلفا أو انتقاصا للمرأة، بل أرى فيها فقط ثقافة شديدة الخصوصية تصوغها بشكل مؤثر النفسية اليمنية المتفردة بخصائصها الجميلة إنسانيا..
وللحديث بقية
ويتبع >>>>: حكايات صفية: المكلا .. لمحات إنسانية (3)
*اقرأ أيضاً:
حكايات صفية : التسامح .. فضيلة المتناقضات / حكايات صفية : تفاصيل صغيرة