حكايات صفية:المكلا .. لمحات إنسانية(2)
في ركن منزوٍ..
في الساعة السابعة صباحا .. وفي ركن منزو من ساحة الحرم الجامعي (جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا) كانت تجلس مع زميل لها، كانا مسترسلان في حديث يبدو للناظر من بعيد منسجما ودودا رغم أنه كان لا يظهر منها إلا عيناها -كما هو الشكل الغالب للحجاب في المكلا – حانت منها التفاتة مفاجئة إذ أحست أن هناك من يراقبها فقابلتها عينا زميلة لها تتطلع إليها بعتب شديد
انقبض قلبها بشدة، التفتت إلى زميلها وحدثته حديثا قصيرا قامت بعده قاصدة زميلتها لتطلب منها في رجاء وانكسار أن لا تذكر أمام أحد من الناس خبر هذه الجلسة الصباحية المبكرة، قالت زميلتها بجفاء: إذا كنت تعلمين أن في تصرفك هذا ما يستحى منه فلم تفعلينه؟ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، أنا لست ملزمة أن أتعهد لك بشيء
كانت تحكي لي باستنكار هذا التسيب لدى بعض الفتيات، وأنها تحمد لجامعة الأحقاف أن الدراسة فيها (غير مختلطة).. وحديث طويل لم أسمع منه شيئا، فقد كانت صورة الفتاة المنكسرة تقبض قلبي.. كنت أيامها كزميلتي (الهُمَام) هذه، أرى أن أي خرق للعادات جريمة وإن كان له وجه في الشرع.. لكن لعل دراستي لفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعلتني أكثر تسامحا لذا قلت لها بألم: لكنك ملزمة تجاهها بالستر، والرفق في القول.. قالت : لقد انتهينا من هذه القصة.. لا زلتِ تفكرين بها؟!
لو تعلمون..
الفتاة غير المتزوجة في حضرموت لها وضع استثنائي جدا.. كأنها تعيش في ظل قانون طوارئ لا تختص أحكامه إلا بها .. ومدته سارية إلى أن تتزوج طلقت أو رُمِّلَت بعد ذلك الزواج أم لا! ليس للفتاة غير المتزوجة أن تجالس النساء المتزوجات، أو تكشف عن شعرها أمامهن، بل ليس لها أن تحضر حفلات الأعراس مثلا وإن كان حفل زفاف أختها، إلا أن تحضر منتقبة لئلا تعرفها النسوة!
قالت لي إحداهن بعد أن طلقت من زوجها: رغم تألمي لفشل التجربة التي مررت بها، إلا أن زواجي الفاشل ثم طلاقي أهون علي من أن أظل عانسا لا يحق لي أن أحضر المناسبات الاجتماعية مع المتزوجات اللاتي يماثلنني أو يصغرنني عُمرًا!
الحظر الذي تحدثت عنه آنفا لا يشمل حق الفتاة –غير المتزوجة- في الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، وأن تتلقى العلم على يد أساتذة رجال، بل وأن تدرس في جامعة طلابها من الجنسين، مع كونها منتقبة غالبا أو كاشفة الوجه نادرا ، وعلاقتها بالجنس الآخر من زملائها محدودة جدا، فنظام (الشلة) التي تضم أفرادا من الجنسين غير مقبول عرفا.. فضلا عن العلاقات الجانبية.. ولذلك كان رعب تلك الفتاة هائلا من أن تشي بها زميلتها..
هل الطبيب شكله جميل؟!
ذهبت مشرفة سكن الطالبات في جامعة الأحقاف إلى المستشفى فلما عادت، ذهبنا للاطمئنان على صحتها..
قالت لها إحدى الطالبات الإندونيسيات –وهن يتحدثن الفصحى- بمرح: كيف كان الطبيب الذي عالجك... أقصد شكله.. هل كان جميلا ؟
ردت عليها المشرفة -غير المتزوجة والتي قاربت الأربعين من العمر- بخجل: عيب.. لا يصح أن تسألي مثل هذا السؤال..
استبقتني المشرفة بعد أن استأذنتُ لأصعد إلى غرفتي.. قالت: انتظري يا صفية أريدك في موضوع ما..
وبعد أن أصبحنا وحدنا قالت لي: أود استشارتك في أمر زميلاتك الإندونيسيات.. إنهن جريئات.. ويتحدثن أحاديث غير لائقة كالحديث الذي سمعته قبل قليل عن شكل الطبيب، بل إنهن يتحدثن عن إعجابهن ببعض الأساتذة علنا أمام زميلاتهن.. لعلك سمعت تعليقهن على جمال أنف الأستاذ (فلان)! وأنت تعرفين عاداتنا، أخاف أن يؤثرن على زميلاتهن اليمنيات، ما رأيك هل أشكوهن إلى المشرف على بعثتهن؟
قلت لها وأنا أحاول أن اخفي ابتسامة تسللت إلى شفتي : هؤلاء الفتيات قدمن من بلد العلاقات فيه منفتحة كثيرا بالنسبة لحضرموت.. وهن الآن يعشن حياة منغلقة جدا.. زيادة على بعدهن عن أهلهن وبلدهن.. فلا أرى من الحكمة الضغط عليهن أكثر من ذلك.. ثم هل تعتقدين أن مثل هذه الحوارات لا توجد بيننا نحن اليمنيات؟ الفرق فقط أنهن لا يجدن حرجا أن يعبرن عن مشاعرهن أمام جميع زميلاتهن لا الصديقات المقربات فقط كما نفعل نحن... بالله عليك دعيهن وشأنهن.. ولا تخافي على اليمنيات فمنظومة التقاليد اليمنية أقوى من أن تخترق !
بين جدة والمكلا..
هل استطعت أن أرسم الصورة واضحة؟ عادات متشددة جدا تحكم علاقة الفتاة غير المتزوجة مع المجتمع النسوي لكنها مع ذلك لا تتعدى إلى حرمان الفتاة من التعليم (المختلط) بل ومن السفر من القرية إلى المدينة مع زميلاتها لتلقي العلم، وفي الجامعة تضبط العلاقات بين الجنسين تقاليد صارمة.. تحافظ على نقاء الشكل العام واحتشام.. المجتمع (المكلاوي) في خصوص الجمع بين الحجاب والتواصل الطبيعي الملتزم –غالبا- بين الجنسين في المجالات العامة هو أقرب المجتمعات إلى روح الإسلام وتعاليمه،،
ولكن ماذا عن العلاقات الخاصة، في غير الإطار العام؟ هي موجودة بالطبع، لكن في حدود ضيقة تقريبا.. رسائل غرامية. ولقاءات خفيفة. مع تستر لا يفلح غالبا.. ومن ثم فمجتمع الفتيات مليء بالحكايات التي يتناقلنها بروح الإنكار والشجب.. وإن كشف حماسهن أثناء الحديث عن رغبة خفية في تجربة مماثلة، لا سيما أن القنوات الشرعية – إن صح التعبير– مغلقة أمامهن، فالخاطب ليس له أن يرى مخطوبته فضلا عن أن يتحدث معها، والأسر التي تجرأت وخالفت هذا العرف شنع عليها تشنيعا بالغا..
عدت إلى جدة بعد أن أتممت دراستي في المكلا.. وكان أن قدر لي أن أعمل لفترة من الزمن في إحدى شركات الأبحاث والتسويق! وهناك رأيت عجبا.. الفتيات أو غالبهن لا يجدن حرجا أن يتحدثن عن علاقاتهن بالجنس الآخر علانية، لم يكن الأمر هكذا قبل أربع سنوات مضت...
حدثتني إحداهن أن هذا الانفتاح عم المجتمع ككل،، قالت: في المدرسة الثانوية، القاعدة أصبحت أن تكون لك علاقة ما..كنت أختلق علاقات وهمية لئلا أبدو أقل من الأخريات..
و..للحديث بقية.
ويتبع >>>>: حكايات صفية : المكلا ..لمحات إنسانية(4)
*اقرأ أيضاً:
حكايات صفية : التسامح .. فضيلة المتناقضات / حكايات صفية : تفاصيل صغيرة