في بدايات الثلث الثالث من التسعينات كنت أجلس في أمسية صيف بحديقة دير كاثوليكس فوق جبل من جبال إيطاليا التي أحبها وجليستي كانت فتاة أسترالية -ربما أعود للحديث عنها بتفاصيل أكبر لاحقا– وهي دارسة لعلم النفس والسياسة في آن واحد، وكانت تبحث عن ذاتها وعن الحقيقة، تتقلب بين المعتقدات والطقوس، وتذهب دوريا إلى المعبد اليهودي بصحبة جدتها، وترتدي المنديل على رأسها وواسع الملابس، وتصلي مع المسلمين في المركز الإسلامي وكانت تتعلم العربية وقتها، وتراءت لي وقتها روحا حائرة تبحث وتهيم متخبطةً وسط غابة من الأفكار المغلوطة، والألغام المبثوثة، والممارسات المعتلة،
وتعرفون أن مصدر هذه الأشياء قد يكون من المسلمين كما يكون من أعدائهم، وأنه إذا كانت حقيقة الإسلام الناصعة الرائعة قد ضاعت أو تكاد تضيع وسط ركام من الأفكار والأفهام التي تنتمي إلى القمامة بأكثر ما تنتمي لشيء آخر، حتى أكاد أظن أن الهواية الأولى لكثير من المسلمين هي جمع القمامة، والاحتفاظ بها بوصفها شيئا ثمينا مثلما يحدث أحيانا في مرضى الفصام والوسواس !!!
إذا كانت حقيقة الإسلام ضائعة -أو تكاد– بين المسلمين، فكيف بغيرهم؟!!، المهم حديثي الممتد مع الفتاة لعدة أيام، وعلى جلسات متفرقة بلور فكرة كانت تختمر في رأسي من المشاهدة التي رأيتها خلال أسفاري التي بدأت فجأة عام 1994 بعد أن ظللت محليا طوال العقود السابقة على هذا العام الهام في حياتي.
شعرت أن كثيرين في العالم لا يطيقون ما آلت إليه الحضارة الغربية المهيمنة، ولكل واحد منهم أسبابه، ولكنهم صاروا يكرهون العيش بهذه الطريقة المادية المبهرجة، الصراعية المزيفة، التي تعمل من الكذب والألم والضغوط قدرا لا يحتمله إنسان سوى، حضارة تمارس الظلم على غيرها، وتقبله ضمن نسيجها حين تحذر تسميته باسمه الحقيقي في العلاقة بين أفرادها أو بينها وبين الآخرين.
هذه الروح الساخطة التي قابلتها أكثر من مرة في أكثر من مناسبة كانت تنتظر مخاضا ومولدا، وكانت مؤهلة للتجلي عند أول مناسبة، وحول أبسط قضية.
"وفي سياتل 1999" انفجرت مظاهرات الغضب والرفض للعولمة الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة بترسانة من المنظمات والاتفاقيات والأساطيل والأسلحة "إذا لزم الأمر" هذه الحركات المليونية تتكون من بشر ساخطين على نمط الحياة، وتفاصيل الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وتشابك العلاقات بين شركات الأدوية، وشركات السلاح والبترول "مقال د.وائل" وصانعي السياسة في عالمنا وعالمهم.
هذه الحركات هي القطب الثاني دوليا بعد الولايات المتحدة على حد تعبير النيويورك تايمز بعد المظاهرات المليونية التي خرجت في العالم كله منتصف فبراير 2003 اعتراضا على الحملة الأمريكية على العراق.
وأنا كتبت كثيرا عن هذه الحركات، وكتب الزملاء على "إسلام أون لاين" كثيرا عن هذه الحركات، وأنا أشاهد وأحضر أعمال مؤتمراتهم منذ عشر سنوات في برشلونة، ثم في أكثر من بلد أو مناسبة آخرها البرازيل –صيف العام الماضي– ويؤسفني أن أقول أن هذه التحركات ليست مفهومة حتى الآن بالقدر الكافي لأهلنا من العرب والمسلمين، عدى بعض جيوب اليسار الجديد الذي يحاول –بقدر طاقته– أن يتواصل معها وأن يستثمر زخمها لدعم نضاله اليومي المحلي في سبيل الحرية والانعتاق من التخلف والاستبداد الذي يطبق فوق أنفاسنا لا أعرف بالتحديد: أين يكمن الخلل أو تقبع المفارقة التي تجعل جماهير الناس عندنا، أو حتى بقية الاتجاهات السياسية والفكرية بعيدة عن التواصل والالتحام بهذه الحركات!!!
وكما حاولت هنا أن أشرح فإن هذه التحركات هي تجليات لظاهرة أوسع هي السخط والبحث عن بديل.
هذا البديل يمكن أن يساهم الإسلام في تشكيله بقدر كبير جدا، ولكن بين أغلب مسلمي اليوم، وبين هذا الأفق، مسيرة عدة سنوات ضوئية، ونظرة واحدة على العقل العام السائد أو نوعية الأفكار والحوارات والكتابات الشائعة المتداولة تغنيني عن الاسترسال في إثبات صحة هذه النظرة التي تبدو متشائمة، وكما قلت هذا في لقاء الجنوب مساء اليوم، وكما قلته مرارا، فإنني على كل حال... سأظل أقول وأكتب، ولن أمل، والله حسبي، ولمن يريد أن يلقي نظرة حية على هذه الحركات فأمامه فرصة ذهبية لأن مؤتمرا سيضم بعض هذه الحركات أو ممثلين لها سينعقد بالقاهرة تحت اسم مؤتمر مناهضة العولمة أو مناهضة بديلة لمدة أربعة أيام بدءا من السادسة مساء الخميس 24 /3 / 2005 بمقر نقابة الصحفيين في قلب القاهرة، فهل سأقابلكم هناك؟!!!
قال لي صديقي الاشتراكي: عاوزك تيجي، ومعاك سبعين واحد كده على الأقل، فقلت له إنشاء الله أكثر، فهل كنت أبالغ؟!!
وموقع المؤتمر: http://www.cairocampain.net
لمزيد من المعلومات والتفاصيل
اقرأ أيضاً :
على باب الله: يا بنت بلدي: - السبت 12/3/2005/ على باب الله 13 /3 مع العراق/ على باب الله: وجوه في المؤتمر12 – 13/3/2005/ على باب الله: الاثنين 14 -3 .. بحب السيما/ على باب الله: الثلاثاء : 15 /3 /2005