حكايات صفية : المكلا ..لمحات إنسانية (4)
الشتات.. رؤية أحقافية..
في مادة تفسير آيات الأحكام قررت الجامعة علينا مذكرات كتبها فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الريان، أحد علماء الأزهر الشريف، وعميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأحقاف في تريم –في تلك الأيام-، وبقدر ما أعجبت بالمنقولات المتعددة والمتميزة التي تضمنتها هذه المذكرات من كتب تفاسير الأحكام بقدر ما أسخطني عدم تحرير الأقوال المنقولة، وتحقيق نسبتها إلى المذاهب، وبيان درجة قوتها وضوابطها، كنت أقول في نفسي: هكذا علماء الأزهر ليسوا من أهل التمكن في العلم وأكد ذلك لدي محاضرات قديمة كنت قد استمعت إليها يهاجم فيها أحد الدعاة في السعودية فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بسبب كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)، ثم زاد سخطي أن الدكتور الذي يدرسنا المادة وكان أحد كبار أساتذة جامعة بغداد كان يكتفي بقراءة المذكرة التي جمعها سواه دون نقاش أو تحقيق أو مراجعة..
لأحد مشايخي الحضارمة الأستاذ عبد الرحمن السقاف، وهو ممن تتلمذ على فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الريان، فقال: قد أسأت الظن يا صفية، فالدكتور الريان كان يكتب هذه المذكرات لا ليقررها علينا كما هي، بل كانت كمرتكز للنقاش والتحليل والتحقيق والبناء..
كانت منظومة من سوء الأدب الباطن تتحكم في نظرتي للأمور، هذه المنظومة شكلتها ثقافة جيل غذي بفكر فيه الكثير من الخلط والتشويش، هذا الخلط مظاهره فهم عبارات ومناهج وردت عن محققي العلماء على غير وجهها..
الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق التقليد ضلال، والمذهبية فرقة
خذوا بقولي ما وافقت الكتاب والسنة فلو خالفتهما فاضربوا برأيي عرض الحائط فضلا عما كان يتلى علينا من قبل بعض الدعاة في السعودية عن فساد الأزهر كمؤسسة علمية، وخضوع علمائه للأهواء ومجاراة أهل الدنيا، وعدم حرصهم على صافي العلم.. وكذا ما كنا نتشربه من بعض كتب تاريخ التشريع من إساءة إلى الفقه المذهبي في عصوره المتأخرة..
جئت إلى جامعة الأحقاف في المكلا محملة ببعض تشوهات هذه الثقافة، أقول بعض لأن شيختي في جدة الدكتورة الفاضلة شادية كعكي كانت قد ابتدأت في إزالة بعض تراكماتها بكثير من الصبر والعطاء المغدق تأسيا بشيخها عالم الأزهر الجليل فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد فهمي أبو سنة.. الرؤية الأحقافية لشتات الأمة وتفرقها، لخصها شيخي الفاضل الأستاذ عبد الله باهارون في عبارة واحدة: سوء الأدب..
وكنتاج سوء الأدب هذا تاهت الأمة عن مرجعية تتفق عليها طوائفها، وادعى العلم الشرعي من ليس أهلا له، بل وتقحم بعض أهل الحديث على أهل الفقه ونصبوا أنفسهم للفتوى والنظر في المسائل الشرعية التي هي من اختصاص الفقهاء، بل ظن أقوام أن الفقه في دين الله حفظ للنصوص دون فهم لروح النص ومقاصد الشريعة، وغاب علم أصول الفقه عن الساحة الدعوية..
خلط كثير.. ودَخَن كثير.. ولو تحقق طلاب العلم بآدابه الباطنة خصوصا لما حصل هذا التيه... إذن كيف نتحقق بالأدب يا شيخي؟ هكذا سألت.. فقال: حسن ظن بعلماء الأمة، وكمال تحقيق للمسائل، واحترام التخصص الدقيق: الفقه المذهبي –أصول الفقه– الحديث ومصطلحه– وهكذا، واتهام للنفس بالتقصير وعدم الفهم، والتماس العذر دوما لطلاب العلم أو أساتذته، وسعي دءوب لجمع الأمة، والرفق مع المخالف ... تعلمت بعدها أن أراجع دوما آداب طالب العلم التي ذكرها الإمام النووي في مقدمة المجموع لعلي أتحقق بها خلقا ومنهجا.. الأزهر.. وتبدلت الصورة...
منذ المحاضرة الأولى بهرني علمه الغزير، وتطوافه في المراجع الأصولية المتعددة إذ لم يكن يكتفي بالكتاب المقرر رغم قيمته العلمية- وهو كتاب الدكتور محمد حسن هيتو والذي لا يحضرني اسمه تحديدا-، وفرحه بالأسئلة وتشجيعنا عليها، ثم استمهالنا في الإجابة عن بعضها فنحن نحتاج إلى أن نتأهل لفهم الجواب بكثير من الدراسة والقراءة المتأملة لكلام الأصوليين.. ووصلنا إلى المحاضرة الخامسة أو السادسة، وكان صرحا من الثقة بعلم شيخنا الدكتور الجليل: بابكر الخضر يعقوب، قد ابتنى، فما كاد يقول لنا: أن حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة، حتى تنبهنا بكل حواسنا...
جمهور العلماء على أن خبر الآحاد لا تثبت به عقيدة ثبوتا يفيد العلم اليقيني الذي يكفر المخالف فيه.. ما تعلمناه في الأزهر أن لا نطلق لفظ الابتداع جزافا فقد يكون للمخالف نظر قوي في المسألة التي هي محل النزاع فلا يستقيم حينئذ وصفه بالبدعة..
هناك أحاديث آحاد وردت في العقيدة لم يأخذ بها بعض العلماء لمخالفتها نصوصا قطعية، انظرن كلام الإمام ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري -طبعة البابي تحديدا– في نجاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم من النار))
قال شيخنا كلاما كثيرا في هذه المسألة، ونقل نقولات كثيرة، وأصّل وحرر، ونحن نستمع بشغف وتعجب.. قال: ابحثن المسألة في كتب أصول الفقه، وراجعن أيضا هل تفيد أحاديث الصحيحين العلم اليقيني...
كانت آفاقا تزهر بها عقولنا، وتغتسل بها قلوبنا، علما وهدى وأدبا، وكانت المحاضرات الثلاث بعد هذه المحاضرة مناقشة مفصلة حملنا فيها إلى شيخنا أسئلتنا، ونتاجات بحثنا...
قلت لشيخي: إذن الشيخ محمد الغزالي كان عالما جليلا نحريرا، والأزهر مؤسسة علمية هامة، و الفقه وأصوله يقودنا لاستيعاب الناس بمختلف مشاربهم العقلية والنفسية، و اعتماد القول الأكثر يسرا ليس لازما للتساهل في دين الله..
تبسم شيخي قائلا: نعم، لو جبت في أورقة الأزهر وزواياه لعرفت علماء فضلاء، غزير علمهم، عظيم فضلهم، أسأل الله أن ييسر لك أن تكملي دراساتك العليا هناك، ورحم الله فضيلة الشيخ محمد الغزالي فقد كان عالما حقا...
وكان نقاشا مثريا معمقا تعلمنا منه الكثير ومما تعلمناه.. كيف نقرأ كلام العلماء ونفهمه وفق الأسس الأصولية.. بعد هذه المحاضرات وغيرها أصبحت لي عين جديدة أقرأ بها كلام العلماء.. رؤية ناضجة مرتكزها فهم أعمق.. لذلك لما قالت لي إحداهن - وكانت تعمل كأمينة مكتبة في إحدى مدارس المكلا-: في أي مسجد تصلين التراويح في رمضان؟ قلت لها: نحن لا يسمح لنا بمغادرة سكن الجامعة، قالت: أنا أحرص أن لا أصلي إلا في مساجد أهل السنة، أما المبتدعة فلا أصلي في مساجدهم قلت لها: ومن هم المبتدعة الذين تتحدثين عنهم؟ قالت: هم الذين يقنتون في صلاة الفجر، لا بد أنك قرأت ما ورد عن الإمام أحمد من أن القنوت في الفجر بدعة...
قلت لها: المسألة هي محل خلاف بين العلماء، الشافعية ذهبوا إلى سنية القنوت في الفجر ولهم أدلتهم القوية راجعي ما ذكره الإمام العراقي في طرح التثريب حيث بسط المسألة وناقش الأدلة فيها وفقا لما ترجح عنده من مذهب الشافعية.. إذن ما نقل عن الإمام أحمد من القول ببدعية القنوت لا بد أن نفهمه وفقا للأسس والمقاصد الفقهية والأصولية، إذ أن القول ببدعية القنوت في الفجر لا يعني أن الشافعية أهل ضلالة، وإنما قال ذلك من رجح عنده بالأدلة أن القنوت في الفجر لم يصح، ففعله بدعة أي أمر مستحدث لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ورجحان هذا المعنى عند القائل بعدم سنية القنوت في الفجر لا يعني ضلال من قال بسنيته بل تحمله الأدلة ثم إن البدعة تقسم إلى الأقسام التكليفية الخمسة عند كثير من العلماء.
السنة والبدعة، والجوانب السلبية للانفتاح الفكري الديني خاصة الذي تعيشه اليمن، النور الذي انبثق من أرض نجد، قانون الأحوال الشخصية اليمني والفقه المقارن.. هذه الموضوعات وغيرها لعل الله ييسر أن أتناولها في المقالة القادمة التي أرجو أن تكون خاتمة لمحاتي الإنسانية المكلاوية..
وشكرا لوقتكم...
حرر في يوم السبت :
23/2/1426هـ
2/4/2005م
ويتبع >>>>: حكايات صفية: المكلا .. لمحات إنسانية (6)
*اقرأ أيضاً:
حكايات صفية : التسامح .. فضيلة المتناقضات / حكايات صفية : تفاصيل صغيرة