حينما بدأت التعرف عن قرب على تجربة صفحة "مشاكل وحلول" – بعد عملي في موقع إسلام أون لاين. نت – داهمتني تلك المشاعر التي تحيا بداخلنا حينما نرى عملا دراميا أو نقرأ رواية فترى نفسك موزعا بين شخصيات العمل ومنعكسا على صفحة وجوههم، تعتقد أنك مررت بهذه التجربة أو خلت أحدهم ممن تعرف وتعاشر وقد مر بها، وقد تجد داخلك أحيانا ما تقوله تعاطفا وتناصحا مع البعض الآخر من الشخصيات. هنا تصبح الكتابة حلا مثاليا لتكثيف ما تستشعره. تأخذ نفسا عميقا وتبدأ ولا تهدأ إلا بإنجاز نص يحمل ملامحك.
فعلتها وكتبت هذا النص منذ ما يزيد عن 4 أعوام –هي عمر حياتي العملية-، مغامرة بالتأكيد أن تصارح قارئ لك بأنه مقبل على قراءة نص بهذا العمر خاصة وهو لم يتعرف عليك بعد، ولكني أفعلها لأني أجد ذلك حقا، ولأن ما كتبت هي صورة لي تحمل ملامحي، ولكن منذ فترة أعقبها قدر من التغيير ومحاولة للنضج وانهماك في تنفيذ ما كنا نطنطن به، ونحن جلوس في مقاعد المشاهدين قبل أن تتاح لنا الفرصة في أن نجد –أو هكذا نظن- مجالا للمشاركة. ما كتبته تأثراً بتجربة "مشاكل وحلول" صار الآن ينطبق على تجارب أخرى أبرزها "مجانين" وأعتقد أن من بدأوا التجربة قد أسسوا تيارا يحاول الجريان وسط ركود وخلط نحياهما منذ فترة وأن كثيرا من التحديات بانتظار من يسبح ضد التيار محاولا الوصول إلى المنبع، بلغنا الله إياه...
في البدء كانت كلمة.. " موقوتة"
تخلق متابعة هذه الصفحة –على غير ما يتوقع من صفحة للمشاكل– آمالا كبيرة في إعادة اكتشافنا لأنفسنا ولما حولنا، إذ خرجت من مجرد مساحة للبوح بالكلام المسكوت عنه إلى مساحة تسهم المناقشة حولها في تحويلها من الفضفضة أو الرغبة في الخلاص الشخصي إلى محاولة لصياغة جديدة لعلاقاتنا الخاص منها والعام، ولفت نظري بشدة أن مشكلات عديدة تنوعت ملامحها وظروفها بين الشباب خاصة تتلخص بعد تحليلها والوقوف على الخاص في كل منها في كلمة واحدة "الفراغ"، تلك الكلمة الموقوتة التي سال في الحديث عنها حبر كثير، واجتهدت هذه المساحة تحديدا في حل شفرتها وأكدت في الرد على أغلبها على ضرورة خلق اهتمامات تخرج بنا من ألم تجربة أو إلحاح رغبة إلى رحاب المتعة ولذة اكتشاف مساحات جديدة في حياتنا، ورغم ذلك فمخاوفي تزداد من أن تتحول التوصية بشأن التعامل مع الفراغ إلى ما يشبه توصياتنا المعتادة في محافلنا الرسمية وغير الرسمية، وذلك إذا لم يستدع كل منا تجاربه ويصور اهتماماته التي ربما جعلته يعيش حياة مختلفة بعض الشيء ولنفكر سويا بصوت مرتفع، يستنطق كل منا مشاهد تراكمت في الذاكرة ربما يعني استدعائها الكثير لنا ولغيرنا.
قلبك يقفز إلى عقلك!
بداية قد يتعجب البعض من أن كثير من الخطوط الفاصلة التي نظنها ترسم خريطة حياتنا تفصل بين الخاص والعام.. المتعة والمسئولية.. هي خطوط شبه وهمية وأن التصور السائد بأن الاهتمام بالعام لا يمثل سوى عبئا (على من يختار أن يتحمله) هو تصور غير حقيقي. فكثيرة هي المواقف المتأزمة في حياتنا الشخصية التي لا تنفرج إلا بخروجها إلى مساحات اهتمام جديدة، قد تبدأ خاصة و قد تنتهي لتتحول من اهتمام إلى هم حقيقي نعيش من أجله.. كثيرة هي الدوائر التي يمكن أن يخلق الاهتمام بها شعورا آخر بالمتعة والإفادة، فقط علينا أن نكتشف مناطق التميز داخلنا التي تحدد الإجابة عن سؤال مفتوح ثري ثراء الحياة نفسها: "ما هي الأشياء التي تعنيني حقا في هذه الأيام؟" أو لنترك المتابعة الحرة الجوالة تجيب عن ذلك يوما بعد يوم فربما تصل إلى الأشياء التي تجعل "قلبك يقفز إلى عقلك فينبض فيه" كما وصف أنيس منصور حاله في سني شبابه الأولى حينما أصبح جليسا دائما في صالون العقاد الثقافي.
نعم.. لذة اكتشاف الأشياء لا يعادلها شيء، ربما هذا ما يميز دنيا الطفل ويجعلها ملونة إذ يكتشف في يومه عدة أشياء جديدة تترسم معها شيئا فشيء صورة الحياة في ذهنه، فإذا تعذر علينا ذلك فإعادة اكتشاف الأشياء كفيلة بأن تقضي على فراغات كثيرة –إن صح الجمع– تصور معي.. كم من الأشياء التي عرفتها في حياتك أو ظننت ذلك تحتاج منك إلى وقفة جديدة وقد تساعدني الدكتورة عائشة عبد الرحمن –رحمها الله– في أن أبرز ما أريد قوله إذ كتبت في سيرتها الذاتية "على الجسر" لتذكر لنا أنها وقفت تباهي وتعدد كتب التراث التي قرأتها وذلك في محاضرة –لأستاذها وزوجها فيما بعد– أمين الخولي لتستعين بها في أحد الأبحاث المطلوبة فاستوقفها أمين الخولي قائلاً: يكفي كتابا واحدا مما ذكرت إذا عرفت كيف تقرئينه؟؟ هل ندرك الفرق؟!
بحثا في المعاجم النفسية
نتعلم وندرس ونعتاد على التعامل مع النصوص كأجساد ميتة إنما يحيها رؤية جديدة، فكم كان شعوري مختلفا وأنا أقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه "معجم نفسي حي" -كما وصفه الرافعي في وحي القلم– يختلف تمام عن المواقف المجتزئة التي تخلو من الحياة النابضة، وكذلك فإن التاريخ المصفد في نصوص على أرفف علاها التراب يمكن أن يتحول إلى فضاءات زمانية ومكانية تصبح السباحة فيها متعة إذا انتقلت إلينا عبر فنون درامية سمعية وبصرية، واللغة التي قد يبعث الحديث عنها –كقوالب جامدة– على التثاؤب يمكن أن تتحول إلى خلفية موسيقية في حياتنا حينما نعرفها شعرا ونثرا ورواية.. وهكذا، بل إن الحقيقة نفسها تحتاج إلى أن تتزين كالأنثى كما وصفها أحمد بن مسكين وقال: "إن الموعظة إن لم تتئد في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه".. نحتاج إلى وصل النفس بما تسمع وترى والإنسان الذي يستشعر ذلك ويعرف كيف يمكن أن تخلق متابعاته الذكية ومحاولاته لإعادة اكتشاف الأشياء حياة موازية (مختلفة بمعنى الكلمة) تتحول لديه المسألة من ترف محاولات ملأ الفراغ إلى تكوين حقيقي لشخصيته تتحدد معه اختياراته.
أدرك أننا أحيانا ما تتضخم أمامنا المشكلة أو التجربة حتى يصبح الحديث عن أن القضاء على الفراغ قد يشكل بعدا أساسيا في علاجها حديث لا محل لها من الإعراب، إننا أحيانا ما نتوعد أنفسنا بأن نفرغها ونختزل حياتنا في معايشة تجربة واحدة، أو إلحاح شهوة ضاغطة، أو رغبة ملحة والحياة أكثر ثراء من أن نضعها في أسر هذه التجربة أو تلك، بل إن المحنة نفسها قد يختلف إحساسنا بها إذا ما أصابنا يقين بأن التجارب المحبطة المؤلمة كالبيضة بالطبع نحسبها سجنا لما فيها ولكنها تحوطنا وتربي فينا أشياء ثم ما تلبث أن تنثقب ونخرج منها أناسا مختلفين إلا إذا قررنا ألا ننضج ونظل أسرى بداخلها.
فتيات الحانات: عذراً
لنفهم تجاربنا وأخطائنا على حقيقتها ونعترف سويا أننا كثيرا ما نكون تصورات لواقع لم نعرف عنه شيئا، وربما لا يكون الذنب مقتصرا علينا في ظل خلط عام لقيمنا من جهة وحقيقة قدراتنا من جهة أخرى، ولكن –في كل الأحوال– لنحرص على ألا نفقد توازننا فترة أطول من اللازم فيما نكتشف اختلاف تصوراتنا عن الواقع المعاش.
كان الفرق كبيرا –بالنسبة لي– بين أحلامي وأنا في المقاعد الدراسية عن حياة جامعية ثرية بمعارف ونشاطات ومساحة عريضة تتنفس فيها عقول ونفوس امتلأت براءة متمردة وبين واقع شاهدته لحياة جامعية مزدحمة بالفعل ولكن زحام أجساد فقط يواز يه فراغ مخيف، حتى أنني استدعيت ذلك قريبا حينما قرأت تحقيق في إحدى المجلات العربية عن فتيات البار (الحانات).. ابتعد هذا التحقيق الصحفي عن الإدانة المسبقة لهؤلاء الفتيات وحاول الاقتراب منهن فكانت من بينهن فتاة وصفت الحياة الجامعية قائلة: "إنني لم أجد مكانا أكثر تفاهة ومعاناة من الجامعة" وسواء اختلفنا أو اتفقنا معها –ومع ثقتي بأن داخل الإنسان من الفطرة السليمة ومن اليقين إذا ما أدرك ما يمنعه من أن يواجه هذا البؤس بالانحراف– إلا أننا لا نملك إلا الاعتراف بأن ما قرأناه لهذه الفتاة هو تجل شديد القسوة والوضوح لما نعانيه من فراغ في مساحة ينتظر أن تكون شاهدا على زخم حياتي وشبابي ولن نستطيع في هذه الحالة في هذه الحالة عزل الجامعة عن مجتمع بكامله يعاني ذات المشكلة.
الأحجار العشرة
ولكن هل نقف طويلا أمام اللوم والتقريع لكل ما ومن حولنا؟ قد يكون أمرا سهلا ممتعا ينفس عن شيء من الغضب بداخلنا، لكنه ليس حلا. هناك من لا يشعر بوجود مشكلة مختلفة.. البعض قد يحول حياته إلى غرفته ويضع فوق أذنيه سماعتي الكاسيت (المسجل) يهرب بهما بعيدا عن كل شيء والآخر قد يحول حياته إلى صومعة يظن أنه نجا وكلا شكلي الانعزال –على صعوبة تحقيقهما– لا يحملان أي حقيقة، بل إنهما كما وصف الإمام عامر الشعبي حين قال: "ماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كانت فيمن انقطع في الصحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشر أحجار؟"
اختلف في عصرنا شكل الأحجار العشرة ربما كانت فكرة أو شريط كاسيت أو شاشة كمبيوتر أو……
وربما يبدو الانخراط اللاواعي فيما هو متاح وموجود حلا آخر في ذلك الاستعراض الرخيص بين الشباب والفتيات بحسب الظروف أو البيئة المحيطة واللهاث وراء تحقيق المقاييس المطلوبة في هذا السباق الاستعراضي: من طريق اللبس إلى طريقة الكلام إلى أشكال الترفيه (المقبول وغير المقبول) لنراهن على العملة السائدة بدلا من أن نبدأ في تكوين رصيد دائم ومختلف لا يحرمنا المتعة بل يضفي على الشخصية سحرا لا جمالا فقط، ويستبعد من هذا السباق من كان ذا حظ أقل من مال أو جمال لنضغط على بعضنا البعض أكثر، وتصبح مجتمعاتنا مؤهلة لمزيد من التفكك والانخراط في صفوف من يختزل الدين في طقوس ومظاهر (قد تكون منه) ولكنه جعل لها من المركزية ما يهمش منظومة القيم التي أتي بها هذا الدين لخير الإنسانية بأسرها.
"انظر تحت قدميك وابني"
كان الحل بالنسبة لي يتمثل أن أخلق لنفسي حياة مختلفة وإن كانت من ذات المكونات التي حولي، فلن أستطيع أن اصعد للقمر لابني بصخوره عالما خاصا بي وأدركت أن تجديد نظرتنا لما نملك حقا وإعادة استغلاله قد يكون حلا دراميا مناسبا، نعم درامياً إذ قيل أن الدراما 31 فكرة فقط وأن إعادة تركيبنا وترتيبنا لهذه الأفكار هو الذي يطرح الثراء الشديد في الأعمال الدرامية المختلفة التي نشاهدها وأدركت قريبا أن ما حاولت فعله كان أشبه بإحدى الأسس التي اعتمد عليها عبقري المعمار حسن فتحي وهي: "انظر تحت قدميك وابني" أي أن تعتمد في بنائك على ما لديك من خامات بالفعل، ولكن بإبداع في التصميم والبناء.
واقعي كان حياة أسرية عادية.. حياة جامعية منهكة كما وصفت.. ولدي اهتمامات بدأت في سن صغيرة ربما في الدوائر الثقافية والأنشطة العامة أو غيرها، وكملايين الفتيات في مجتمعاتنا التي تمنح هامش من الحرية للدراسة والحركة المحدودة، اتسع هذا الهامش شيئا فشيء حينما أدركت وأسرتي أن هذه الاهتمامات التي تشغلني ليست مجرد عرض يختلف باختلاف المرحلة العمرية أو بعض ترف الطبقة الوسطى ونمط حياتها وإنما هو اختيار تتحدد معه ملامح اختياراتي فيما بعد، أما الحياة الجامعية فقد استغرقتني حينا بكل ما تحمل من سلبيات وخرجت من دوامتها حينا آخر فكنت بين هذا وذلك إلا أنني وفي كل الأحوال – كانت متابعاتي لهذه الاهتمامات التي تحدث عنها هي منطقة التميز التي أحياها وأحيا بها بل كانت سبيلي للتعرف عن شخصيات وأشياء كثيرة، وبناء عالمي الجديد الساحر .
لا تهاجر تلمذتك
أصبحت هذه الشخصيات بوابتي إلى عوالم مختلفة، وظهر من بينهم من علمني الكثير وأسهم بوضوح في أن أدرك أن العالم أكثر اتساعا مما نظن.. وأن على ألا أفوت فرصة للاستفادة من تجربة – ثمن التجارب، وأن أمتلك أدواتي إذا ما أردت أن أضيف شيئا لما حولي و أن الحياة أشد تركيبا مما تبدو عليه ربما ذلك سر إعجازها (سبحان من أودع سره فيها) لقد تعلمت الكثير وشيئا فشيء تحولت هذه الشخصيات وعوالمها التي انفتحت أمامي بدرجة أو أخرى لتشغل حيزا كبيرا في حياتي لا على المستوى الفكري والذهني فقط بل على المستوى الإنساني أيضا، وأدركت و أنا أتابع أن الفارق كبير بين أن تغالب الفتاة خجلها لتسأل عما أصبح يشكل اهتماما حقيقيا في حياتها ويثير علامات استفهام أمامها وبين أن تتخلى الفتاة عن حيائها تماما في ذلك السباق الاستعراضي الذي أشرت له من قبل مقابل لا شيء، تلك قيمة وهذه أخرى.
لا تظنوني وصلت إلى إجابات قاطعة حول ما يشغلكم ويشغلني ولكنني أصبحت أكثر مقدرة على أن أختار وابني أسئلتي، وأضبط رؤيتي وآمل في المزيد (بإذن الله).. هكذا وقد خرجت من الحياة الجامعية لأجد هذه المتابعات والدوائر (ومن داخلها ممن أدين لهم بالكثير) قد شكلوا جميعا بداية حياتي العملية، شعرت أنها بداية لنسج الحياة الخاصة بنا، وأن واقعنا قد يمثل بما يثير الإحباط والارتباك سواء على المستوى الخاص أو العام، لكنه لا يخلو مما يصلح كبداية ونافذة أو ثغرة في الجدار الذي قد يبدو مسدودا، ولتشمل رغبتنا في التغيير ثورة على ذاتنا لنخرج أفضل ما فيها، وندرك جيدا أن الشباب إنما يرتبط بالقدرة والرغبة والإرادة على أن نتعلم ونهتم ونستجيب ووووو
قد يتأكد لكم ذلك –كما حدث لي– حينما قرأت هذه الكلمات على لسان إحداهن (التي جاوزت الخامسة والستين) لتعزف قائلة: "أنا أقف في هذه الحياة كتلميذة لأتعلم أكثر من سائر الأشياء: من الطبيعة، ومن عيون الأطفال، وشهقات الأمهات، ومن الكتب، وقصائد الشعر، ومن الآخرين.. لا أتمنى أن أهاجر سنين تلمذتي ومريلتي وضفائري، ولو فعلت ذلك لصرت عجوزا شمطاء"، لا أظن أن أيا منا يود أن يكون هذه العجوز.
واقرأ أيضاً:
منمنمات 1 (4 يونيو 2005) / ما تلبسه المصريات أيوه هي فوضى