حكايات صفية : المكلا .. لمحات إنسانية (5)
غفر الله لى.
فقد شعرت بنوع تشف لما علمت أن (السلفيين) خاصة أتباع مقبل الوادعي يلقبون في المكلا وقراها بـ (أهل البدعة) عند العامة ممن لا يرتضون منهجهم ..فقد ذقت المرار في مدارس تحفيظ القرآن في جدة من الفكر الأحادي...
قال تعالى: قال تعالى: (......وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ...َ) (لأنفال:46) الأمر بالصبر هنا عظيم الدلالة، وفيه إشارة واضحة لأهمية تحرير النية، هل نحن حقا ننافح عن الحق الذي نعتقده، وندين به لله عز وجل؟ أم هي أهواء نفس تحول بيننا وبين لازم صدق النية من صفاء قلب ، وكمال حرص على من تربطنا بهم كلمة التوحيد، فيكون حالنا معهم مقابلة السيئة بالإحسان، والغلظة بالرفق، والنزق بالصبر و التألف؟
إذن فأية مشاعر سلبية تجاه إخواننا في الدين هي مرض حذرنا الله منه، وأمرنا بمجاهدته صابرين على مشقة ذلك.. سمو أخلاقي واجب لا مندوب.. لا يسعنا إلا التحقق به لكيلا نفشل ونجبن وننهزم...
هذه الروح ربينا عليها في جامعة (الأحقاف)، وأصلت في عقولنا علميا وأخلاقيا، في مادة أصول الفقه مع فضيلة الدكتور بابكر الخضر يعقوب درسنا اختلاف العلماء في مفهوم السنة، ثم البدعة تبعا لذلك، وحيث وجد الاختلاف فلا بد أن يرتفع أي نزاع ، فالظنيات تسع الجميع..
وفي مادة (العقيدة ) كان الأستاذ الفاضل يحى الحمزاوي – وكان أندونيسيا تخرج من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأحقاف في تريم - حريصا على أن نخرج من دراستنا لهذه المادة بفكرة رئيسة وهي أن العقيدة منها ما هو قطعي (يقول الشيخ أحمد الكبيسي أن القطعي تجمعه الصفحة الأولى من سورة البقرة ) وهذا لا يقبل الاختلاف.. ومن العقيدة ما هو ظني وهذا يسع كافة الطوائف الإسلامية، فالوحدة هي الفريضة الأولى..
وجهنا الأستاذ يحي لقراءة مجموعة من الكتب التي تخدم هذه الفكرة..
((أما الروايات التي روت أحاديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة.. فمطعون فيها متنا وسندا، وهي من الخطأ الذي وقع فيه الرواة وأتباعهم ..))
هذا بعض ما ورد في كتاب(الوحدة الإسلامية) للعالم الجليل السيد محمد بن أحمد الشاطري، وفيه الكثير النافع الذي يؤصل لفريضة الوحدة...
أما كتاب (قراءة في كتب العقائد.. المذهب الحنبلي نموذجا) للدكتور حسن المالكي وكان مدرسا في إحدى جامعات الرياض ثم أقيل من عمله بسبب آرائه، فقد كان هذا الكتاب نموذجا ممتازا تعلمنا منه أدبيات الإنصاف، ففي الكتاب بعض ما لا نرتضيه أصوليا وفقهيا بل وعقديا أيضا لكنه أيضا قد فتح لنا آفاقا جديدة في الفهم، و احتوى على تأصيل متميز لبعض القضايا العقدية لا سيما قضية قبول الآخر ممن يخالفنا في ظنيات العقيدة.. يومها كتبت مقالا في مجلة الجامعة بعنوان (نور من أرض نجد).. وقد علق أحد الأساتذة قائلا: تكتبين مقالة بهذا العنوان في شهر ربيع الأول الذي انبثق فيه النور من الحجاز!
وحيث ذكرت أستاذ يحى الحمزاوي فمن الوفاء أن أذكر كيف كان بنا حفيا، فإذا أقبلنا عليه لنسأل سؤالا فلكأنا جئنا لنهديه هدية ثمينة.. بارك الله له وجزاه عنا خير الجزاء... ولا يقل عنه في ذلك الأستاذ الفاضل عبد الرحمن السقاف، والدكتور باكر الخضر يعقوب جزاهما الله عنا خير الجزاء وأتمه وأكمله....
صوب الركام:
قانون الأحوال الشخصية اليمني كان محور دراستنا للمستوى الثالث من مادة (فقه المرأة).. بالنسبة لي كان الأمر مبهرا ففي السعودية أحكام الأحوال الشخصية غير مقننة – وتوجد حاليا دعوات جادة إلى مثل هذا التقنين - وفي هذه المادة كنا ندرس مواد القانون اليمني مقارنة بالمذاهب الخمسة (المذهب الحنفي فالمالكي فالشافعي فالحنبلي فالزيدي)...
ابتدأ شيخنا عبد الرحمن السقاف المادة بالإشارة إلى ما أورده علامة حضرموت ومفتيها الشيخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في كتابه (صوب الركام)، فقد ذكر أنه درس أصول مذهب الزيدية وتوثق من صحتها، وقال أنه لو ثبتت صحة أصول مذهب الجعفرية فلا غضاضة من تقليدهم...
كانت دراستنا في جامعة الأحقاف تصقل عقولنا صقلا، وتفتح لنا آفاقا من الفهم متجددة.. وقد أدركت ذلك في تجربة التدريب العملي في إحدى مدارس المكلا الثانوية...
تجربةوحدوتة!
كتاب الفقه للصف الأول الثانوي كان خليطا من أقوال متعددة ولا أقول مذاهب متعددة كنت أضطر إلى تحقيق ما ورد في الكتاب المدرسي ومعرفة مصادر الأحكام التي اعتمدها مؤلفوه وكنت احرص ما أمكن على الوقوف في كل درس مع إحدى مسائله وأبين كلام المذاهب الأربعة وأحيانا الخمسة -إن اعتمد الكتاب المذهب الزيدي- أبين للطالبات دليل كل فريق وجهة الاستدلال مع ذكر أسماء المراجع وتنبيه الطالبات ان الأمانة العلمية تقتضي أخذ كل مذهب من كتبه المعتمدة وبيان أن الأقوال المختلفة قد تعتمد على دليل واحد وتختلف طريقة الاستنباط من الدليل لاختلاف الأفهام. وكان مرادي من اتباع هذا المنهج أمور منها: ترسيخ احترام العلماء في نفوس الطالبات وأن لكل عالم وجهته ودليله، و أيضا تنبيه الطالبات إلى سعة الفقه الإسلامي، مما فيه أعظم التيسير على الأمة.
كانت الطالبات يستمتعن بإعمال أذهانهن في فهم وجهة الأقوال المختلفة، وكنت انتظر منهن أن يثرن الأسئلة التي هي سبب النزاع بين المنتمين إلى الإسلام اليوم لاسيما مع انتشار المنهج السلفي في جنوب اليمن، واشتغال الشباب المتحمس لدينه بالقضايا التي يتبناها، وكان أول هذه الأسئلة: أنت تذكرين أقوالا متعددة للعلماء فأيها الراجح؟ قلت للسائلة: ماذا تعنين بالراجح؟ قالت أي الصحيح الذي يجب علينا أن نعمل به؟ قلت لها: أليس لكل عالم دليله قالت نعم قلت: إذن ان أقول ان الصحيح هو كذا قطعا وما عداه باطل هو قول على الله بغير علم مادامت المسالة أدلتها ليست قطعية قالت نعم قلت: إذن أن أقول الراجح هو كذا حسب ما رجحه الشافعي مثلا لا يعني أن ما رجحه أبو حنيفة باطل قطعا وإنما بحسب فهم الشافعي قالت نعم ولكن بأي الأقوال آخذ ؟ قلت لها خذي بما شئت ولكن بشروط سأشرحها لاحقا ولكن ليس منها الحكم على احد المذاهب المعتمدة بعدم جواز الأخذ منه لأنه باطل قطعا.
أما السؤال الذي اعتبرت تجاوب الطالبات مع ما أطرحه عليهن هو المقياس الذي أقيس به نجاح التجربة فقد كان عن الصوفية وعن الفقيه الصوفي الحبيب عمر بن حفيظ – شيخ الحبيب علي الجفري الداعية المعروف - سألنني:ما رأيك بالصوفية، والبدع التي يفعلونها، ولهم شيخ اسمه الحبيب عمر يعبدونه،و يقبلون يده، و لا يخالفونه في أمر. لم أظهر لهم معرفتي بالحبيب عمر- إذ سمعت كثيرا عن علمه وفضله - إذ كن يعتقدن عدمها.
واجتمعت بهن وانتهجت النهج ذاته الذي اتبعته في تدريس الفقه،عرض الاتجاهات المختلفة، وبيان أدلتها أو ما أستحضره منها مع التشديد على احترام كل منها، وبيان الأخطاء التي تصدر من بعض المتطرفين من جميع التوجهات مع شرح معنى التصوف الحق، ثم طلبت من الطالبات أن يكتبن ملاحظاتهن على كل ما أعطيتهن إياه.كانت النتيجة جيدة.. تكلمن عن سعة الدين وسهولته، وأهمية التوثق من المراجع،وعن أنهن كن يعتقدن أن الصوفية في بلدهن كفرة، ولكنهن فهمن الآن أنهم مسلمون لهم أدلتهم التي ينبغي احترامها..
قالت إحداهن : غدا سنقيم احتفالا لأجل توديع معلمات الأحقاف، ما رأيك يا أستاذة أن نعمل (مولد)، قالت أخرى: لكن ألم نتحدث عن احترام جميع الآراء، أنا ومجموعة من الطالبات نعتقد ان ترك المولد أفضل ، إذن فليكن الاحتفال مرضيا للجميع!
قتل فى المسجد:
عذرا لهذا العنوان المروع لكني وعدتك عزيزي القارئ بالتحدث عن سلبيات الانفتاح الفكري في اليمن، ومن أفظع سلبياته قتل إمام مسجد عرف بصلاحه وتقواه واستقامته ، قتله متعصب إذ هو في اعتقاده صوفي مبتدع مشرك حلال الدم!
الإجراءات التي تتخذها الحكومة ضد المتعصبين لم تكن- في تلك الأيام- كافية لردعهم، كان بعضهم لا يتورع عن قذف علماء الأمة السابقين والمعاصرين بأسوأ الألفاظ لأنه خالف عقيدتهم...
ومما زاد تعصبهم تعصب مقابل من قبل بعض جهلة الوعاظ فضلا عن العامة ، وصما لهم بالخوارج والمبتدعة الخ ..فضلا عن تحدث بعض الوعاظ بمسائل دقيقة في التصوف مما لا تدركها بعض الإفهام فيكون حديثهم هذا سببا من أسباب الفتنة..
أذكر أني قرأت نصا في حاشية ابن عابدين الحنفي (رد المحتار على الدر المختار) يتضمن كلاما سلبيا عن الوهابية، يومها قرأته على شيخي الدكتور باكر فغضب غضبا شديدا وقال: دعوها فإنها منتنة، لا تنبشوا في قديم الكتب لتستخرجوا منها ما يفرق الأمة ، وعودوا دوما إلى أصول العلم ومنابعه الصافية...
المكلا 22\مايو\ 2005 م
قالت صديقة لي في المكلا تحدثنا معا قبل أيام على الماسنجر.. لا بد أن تشاهدي في الفضائية اليمنية احتفالات الوحدة في 22 مايو المقبل فقد تقرر أن تقام في المكلا لأول مرة.. سترين كيف تغيرت المكلا إلى الأحسن....
وأنا حقا في شوق لأن أشهد هذا التطور الذي عاينت تناميه عبر سنوات دراستي الأربع في المكلا .. وأرجو أن تكون مقالاتي هذه بأجزائها الستة قد أثارت لديك عزيزي القارئ دافعا ما لتشاهد المكلا .. ولكن تذكّر أن الملامح الإنسانية هي السبيل الوحيدة- في تقديري - التي تسمح لك بها المكلا لكي تكتشف جمالها ورقيها وتدرك خصوصيتها ثقافة وحضارة وعطاء..
تم تحريره بفضل الله في:
يوم الخميس : 14/4/2005 م
*اقرأ أيضاً:
حكايات صفية : التسامح .. فضيلة المتناقضات / حكايات صفية : تفاصيل صغيرة