"اللهمّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها"..
فوجئت بالخبر تماما.. كنت في الآونة الأخيرة أفكر في طريقة تجعل تلك المرأة توافق على الزواج ثانية، ولكنني لم أجرؤ على مفاتحتها في الموضوع لما أعلمه من شدة حبها للمرحوم بإذن الله: زوجها المتوفى..
كانت تغضب كثيراً كلما جاءت لها أمها بعريس لتزوّجها ، والأم محقة فلا تزال ابنتها الأرملة في ريعان شبابها، هل ستبقى هكذا دون زواج طيلة حياتها؟
أما الأرملة الشابة فكانت لها وجهة نظر أخرى في هذا الموضوع ، كانت من شدة حبها لزوجها المتوفى رحمه الله، لا تستطيع أن تفكر – مجرد تفكير – في أن توطئ رجلا آخر داره ليصبح زوجاً جديداً لها وأباً جديداً لأطفالها الأربعة.. وكانت ترى أنه: ومن سيكون خيرا من " أبي زكريا " رحمه الله ؟؟ .. أو على الأقل، مثله ؟؟
- مع أنها قد دعت الدعاء الذي أوصانا به رسول الله حين المصيبة " اللهمّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها"..، ولكنها كانت لا ترى إلا زوجها المتوفى ،تماما كأم سلمة رضي الله عنها -
زواج ثانٍ ..؟!؟!؟ هذا مستحيل..
ولكن سبحان مقلّب القلوب، فبينما أنا أفكر في معضلتها هذه وفي كيف سأقنعها بضرورة الزواج، وإذا بي أُفاجأ بخبر خطبتها فعلا..
كيف حدث هذا؟ ومتى؟
ومن هو هذا العريس؟ ولماذا يريد الزواج بها؟؟
هل هي موافقة أم أنّ أهلها أجبروها على هذا الزواج؟؟
أخذت الأسئلة تطرق رأسي بقوة وأنا أستمع إلى تفاصيل ما حدث..
أصل الحكاية:
في الصيف الفائت، مرضت ابنتها الكبرى وتقرّح المريء لديها بسبب أنها تناولت حبة دواء مسكّن ثم استلقت مباشرة في فراشها ، فبقيت حبة الدواء في المريء وتحللت فيه (وهذا ما تبين فيما بعد)، فاستيقظت الفتاة من نومتها على ألم رهيب، وأخذتها أمها إلى الأطباء وفي النهاية قررت أن تأخذها إلى طبيب في العاصمة سمعت بمهارته.. لقد اعتادت هذه الأم على السفر جرياً وراء الأطباء والعلاج من بلد إلى بلد: من دمشق إلى بيروت إلى عمان، منذ أن كان زوجها رحمه الله مريضاً قبل وفاته، وحين كان وحيدها مريضاً ولم يصل الأطباء إلى تشخيص سليم لحالته، وبعد طول سياحة علاجية بين المدن توصلوا إلى أن مرضه هو مثل مرض والده" حمى البحر الأبيض المتوسط ".. شفاه الله وعافاه..
سنوات قضتها هذه المرأة بين المشافي والأطباء، حتى لقد صارت تفهم في الطب وأمراضه وعقاقيره..!
بينما هي في دمشق لزيارة الطبيب ليشخص حالة ابنتها، دخلت أحد المساجد لتصلي وتستريح قليلاً قبل أن تستكمل مشوارها الطبي ، وإذا بها تتعرف في هذا المسجد على فتاة من أهل المدينة تعمل في المحاماة، عرفت حكايتها فأصرّت على دعوتها لتستريح في بيتها، وتعمقت صداقتهما حتى أصبحت كلما احتاجت "أم زكريا" لزيارة دمشق فإنها تنزل في ضيافتها ..
وبعد أشهر من هذه الحادثة، فاتحت هذه الصديقة ولنسميها (د) أختنا أم زكريا في موضوع خاص: أخي يريد أن يتقدم إلى خطبتك.. بعد أن سمع مني عنك وعن أخلاقك ومدى كفاحك وصبرك على تربية أولادك بعد وفاة والدهم..
الشاب الذي طلب الزواج من أم زكريا يصغرها ببضعة سنوات، وأعزب.. فتوقعتُ أن تكون لديه علّة ما ليرضى بالزواج من أرملة، ولكن تبين أنه سليم معافى تماما ويستطيع أن يختار لنفسه عروساً مثل كل الشباب.. ولكنه فضّل هذه المرأة.. ولا نستطيع أن نقول أنه طامع بما لديها من مال، لأنها ببساطة: لا مال لها يُطمع به، بل إن واردها من عمل زوجها المرحوم لا يكاد يفي بمعشار احتياجاتها واحتياجات أطفاله، وهو يعلم بذلك.. وبالتالي سيتولى هو الإنفاق على أسرتها..
أحسست وأنا أستمع لهذه التفاصيل وكأنني أستمع لقصة حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل في عهد صحابته الكرام، ولكن لا.. هذه قصة تحدث الآن: في قرننا الحادي والعشرين!!
ألا زال هناك شباب يفكرون " بكفالة اليتيم "و" بمسح دموع الأرملة"؟!؟!
بارك الله بك أيها الشاب، وأكثر من أمثالك.. لكم نحن بحاجة إلى أمثالك في هذا الزمان..
طبعاً لم تكن مواقف الناس واحدة: بل انقسموا ما بين مؤيد ومعارض..
أما حزب المعارضة فقد كانوا فريقين:
أولهما: ولنسميهم " طيبوا القلب".. كانت حجتهم أن الشاب لا يدرك تماما ما هو مقدم عليه: أرملة وأربع أولاد في أصعب سنوات حياتهم: سنوات المراهقة، إذا كانت الأم لا تستطيع أن تضبط أمور البيت فهل سيستطيع " زوج الأم" أن يفعل ذلك؟
ثم هذا الشاب، ألن يشعر بعد دخوله معترك حياة هذه الأسرة أن العبء ثقيل والمسؤولية عظيمة – وهي كذلك فعلا -، وأنه لن يستطيع الاستمرار فيؤثر الانسحاب؟
ثم حين يولد له طفل ويجرّب مشاعر الأبوّة للمرة الأولى، ألن يحدث تمييز في المعاملة بين أولاده وبين أولاد زوجته" الأيتام"؟؟
لو أنه كان متزوجاً ولديه أولاد لكان الوضع أكثر تكافؤ، ولكان أكثر تقديراً لمسؤوليات الأبوة وأعبائها، ولكنه أعزب، وأصغر منها؟ فكيف؟؟
الكثير من الإشارات الحمراء رفعها أصحاب هذا الحزب، والحقيقة أنهم لم يكونوا يريدون هدم السعادة التي بدأت تلوح في أفق هذه الأسرة الحزينة منذ أكثر من 4 سنوات.. ولكنهم خائفون من فشل هذه التجربة غير المتكافئة.. هذا الفشل الذي سيجعل هذه المرأة المسكينة تتحمل آلام تجربة طلاق مرّة، وسيتعرض الأولاد لهزّات نفسية جديدة بسبب تحطّم أحلام سعادتهم على صخور الواقع القاسي..
ثانيهما:ولنسمّيهم" القساة.. العتاة "..فقد كانوا يرون أن ما تفعله هذه المرأة عار وأيّما عار، فهي كما لو كانت خائنة لعشرة زوجها المتوفى، بل لقد أخذوا ينظرون إليها نظرة احتقار ودونية.. خصوصاً أنهم يعتقدون أنها تتستّر في موافقتها على هذا الزواج وراء رغبة أطفالها في أن يكون لهم أب جديد، لتخفي رغبتها هي في أن تصبح ذات زوج جديد.. عار وأيما عار أن تفكر في نفسها.. المرأة " الأصيلة" هي التي تحبس نفسها بقية عمرها لرعاية أيتامها، ولا ترضى أبداً أن تدخل عليهم "زوج أم".. ولا ترضى لنفسها أبدا أن تعاشر رجلاً بعد زوجها المرحوم..
وإذا حاولنا أن نفهمهم أن هذا شرعاً لا شيء فيه، ثاروا ودافعوا عمن رأيهم واستشهدوا بكل قول للرسول عليه الصلاة والسلام وبكل حادثة حدثت – أو لم تحدث - تؤيد ما ذهبوا إليه، بل و ينكرون أو يؤولون ما خالفها من أحاديث صريحة ومن فعل صريح للرسول وأصحابه.. و الكلمة الشهيرة التي يلوذون إليها حين تفحمهم الحجة والبرهان: هذا الرسول وهؤلاء الصحابة، حين نصبح مثلهم في تقواهم وورعهم نتصرف مثلهم.. أين نحن وأين هم!!
يا سبحان الله.. ألا يرحمون ولا يدعون رحمة الله تنزل!! – إن جاز التعبير..
يا إلهي.. يا لقساوتهم ويا لجبروتهم.. بل ويا لغبائهم..
هل كتب على الأرملة أن تعيش أسيرة الماضي بدعوى "الوفاء لزوجها "؟
هل يعتقد المجتمع أنه بهذا يرحمها من إحراقها مع جثة زوجها كما كانت عادة الهنود؟
ألا يعرفون أنهم بذلك يضرمون النار في حياتها لتموت كل يوم مكتوية بنار حسرتها على نفسها وأولادها ثم لا تموت؟
لماذا يحرم عليها – عرفاً - أن تفرح من جديد وأن تحب من جديد؟؟
كلّما تعمقت معرفتي بواقعنا القاسي وأعرافنا الاجتماعية الجائرة ترسّخ إيماني بعدل الإسلام ورحمته.. والحمد لله أن الله تعالى هو الله، وليس أي واحد من البشر هوا لله تعالى.. والله إن مجرّد كون الله تعالى هو الله تعالى لهي نعمة لو شكرناه عليها طيلة عمرنا لما وفّيناه حقه.. فلك الحمد ولك الشكر يا ربنا على عدلك ورحمتك..
أما حزب التأييد فقد رفعوا الكثير من اللافتات الخضراء التي تبارك هذا الزواج، وفي طليعة هذا الحزب جاء أولاد "أم زكريا".. لقد لمسوا لطف هذا " الأب الجديد" ورقته في التعامل، وربما لمسوا حناناً منه جعلهم يتمسكون ببارقة الأمل التي لاحت في أفق حزنهم لتخليصهم من ذل اليتم وعذاب الفراق..
انضممت أنا أيضاً لهذا الحزب، فالضغوط الاجتماعية التي يعاني منها الأطفال بسبب اليتم، وأمهم بسبب "الترمّل" أكثر من أن تحصى، وخلوّ المنزل من رجل أمر صعب جدا، فعلى الأم أن تقوم بدورها وبدور الأب تربوياً ونفسياً وإدارياً وووو، فكيف ونحن أمام أم أنهكتها ظروف الحياة التي مرّت بها حتى الآن؟ وأحرقت قلبها نيران فراق حبيبها ووالد أطفالها؟
الحقيقة أن صديقتي هذه تحتاج إلى من يطبب قلبها المكلوم ، وأظن أن هذه هي مهمة " الزوج" بعد أن فشلنا جميعاً في هذه المهمة!!
صحيح أن الوضع صعب، وخطر، ولكن القيادة الماهرة تستطيع أن تنجو بالسفينة من قلب الإعصار..
حضرت حفل الخطوبة + كتب الكتاب الخميس الماضي.. كم جميلة هي تلك الفرحة حين ترتسم على وجوه أتعبها الوجوم والتقطيب وأحرقتها حرارة الدموع..
والخميس القادم إن شاء الله سيكون العرس.. صحيح أنه " على الضيق "ولكن المهم: الفرحة، والفرحة في القلب وليست بالبهارج الزائفة..
بارك الله لكما يا أم زكريا ويا أبا زكريا " الجديد"، وبارك عليكما، وجمع بينكما بخير، وأسأله تعالى أن يبدلكما بعد العسر يسراً، وبعد الهم والحزن فرحاً وسروراً لا ينقطعان إلى أن يتصلا بفرح وسرور دخولكما الجنة.. آمين.
هذه هي قصة زواج من قالت:" اللهمّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ".. والله إنها لأغرب من الخيال.. ولكن الله تعالى رب السموات والأرض مدبّر الأمور، هو الذي تولّى أمر زواجها..
ألم تدعُ بهذا الدعاء؟؟
ألم يقل النبي أنه ما من أحد يدعو به عند المصيبة إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خير منها؟؟
صدقت يا رسول الله.. صدقت.. وها أنا ذا أشهد معجزة جديدة لك تدل على صدق نبوّتك..
" فاللهمّ أجرنا جميعاً في مصائبنا وأخلف لنا خيراً منها"..
وأنا أكيدة بأنني سأشهد بعد هذه الدعوة تصديقاً جديداً لنبوّتك..
اقرأ أيضاً على مجانين:
حكايات بنت الفرات: جيش التحرير أم جيش التدمير../ حكايات بنت الفرات: مواقف مؤثرة/ حكايات بنت الفرات: وظائف إنسانية شاغرة