عادة يكون الثلاثاء إجازة لي من عملي بالجامعة خاصة وأنه كان يوم اجتماعنا الأسبوعي في إسلام أون لاين حتى وقتٍ قريب عندما غيرناه إلى الخميس لنضم الدكتور محمد المهدي إلى مجموعتنا في مشاكل وحلول، إلا أنني هذا الثلاثاء كنت على موعد مع أحد أصدقائي من العاملين بقسم الأشعة التشخيصية بمستشفى الجامعة، والسبب أن سكرتيرتي في العيادة كانت اشتكت من مغص حاد آلمها كثيرا وصاحبه عسر تبول ثم تغير بولها إلى اللون الأحمر وأخبرتني بذلك، فنصحتها باستشارة أحد أطباء المسالك البولية فلم يكتب علاجا وطلب منها فحصا بالموجات فوق الصوتية للمجموع البولي، ولما كانت جغرافيا مستشفى الجامعة تتغير بشكل دائم، ولم أعد ملما بخريطة أماكن الأقسام الجديدة، فقد اتصلت بذلك الصديق القبطي ليدلني لكنه أصر على صحبتي بارك الله فيه، ...... الحمد لله لم تكن المشكلة أكثر من بعض الحبيبات الحصوية في حجم الرمال وطمأنها الطبيب، لكن الحوار الذي دار بيني وبينه كان دافعي لكتابة هذه المدونة:
فقد سألني الطبيب هل تُعْرَضُ عليك حالات تناذر النفق الرُّسْغي Carpal Tunnel Syndrome، وهي حالات يشتكي المرضى فيها من تنميل وخللٍ في الإحساس في الكف وغالبا ما تعرض على طبيب الأعصاب أو جراح العظام، فكان ردي أنني لم أعد أمارس طب الأعصاب وتشغلني والحمد لله ممارسة الطب النفسي مع المجانين، ولكنني سألته عن علاقة طبيب الأشعة التشخيصية بحالات النفق الرسغي فأنا لا أعرف وسيلة لتشخيصها غير شكوى المريض واختبار الإحساس الجلدي وربما القوة العضلية في عضلات الكف الصغيرة، وهو تشخيص غير مؤكد بوسيلة موضوعية، ولولا أننا نصدق شكوى المريض وإخباره عن إحساسه لما استطعنا تأكيد التشخيص.
فأجابني بأن أحد وسائل التشخيص المؤكد الحديثة هي الموجات فوق الصوتية Ultrasonic Rays، وهذا موضوع أطروحته للدكتوراه، قلت له هذه الحالات كثيرة التواجد عند أطباء الأعصاب والعظام والروماتيزم وكثيرا ما يشتبه التشخيص كما أنه يبقى في أغلب الأحيان غير مؤكد بفحص موضوعي كالذي تثبته أنت في أطروحتك، فلماذا لا يحولونها لك، فأجابني بأن الأطباء في تلك التخصصات لا يعرفون أن من الممكن تأكيد التشخيص بالفحص بالموجات فوق الصوتية، فقلت له كيف لا يعرفون؟ وقسم الأشعة قسم خدمي تحتاج إلى خدماته كل التخصصات الطبية؟ فكان جوابه يا أستاذي الأبحاث الحديثة لا يدري بها أحد ثم أن كثيرين من ممارسي مهنة الطب والجراحة يهتمون في الأساس بكتابة عقاقير أو إجراء جراحات ويكفيهم أن المريض يشتكي والشكوى متماشية مع ما يعرفه الطبيب، ويؤسفني أن أقول أنني أتكلم عن حوار دار في مستشفى جامعي!
قلت له ولماذا لا تقومون أنتم في قسم الأشعة بتعريف أطباء الأقسام المختلفة بما لديكم من أساليب جديدة تفيد التشخيص فأجابني ونحن أيضًا غارقون في أعبائنا، ولولا أنني أجري بحثا للدكتوراه لما شغلني الموضوع وهو لذلك لا يشغل غيري!، تداعى إلى ذهني في لحظتها أنني لم أكن أتوقع أن عدم الترابط بين تخصصات الطب المختلفة مشكلة حقيقية في بلادنا بهذا الشكل، فمعنى ما سبق أن وسيلة جديدة للتشخيص قد تجنب المريض عقاقير لا داعي لها أو حتى جراحة بلا داعي، هذه الوسيلة لا يدري بها أحد، فالمريض يدفع ويشتكي ويأخذ علاجا أو تجرى له جراحة والنتائج لا أحد يحاسب أحدا عليها.
وكنت أظن مشكلة عدم الترابط تلك تخص الطب النفسي وحده بسبب موقف الناس المسبق منه، إذن فما كنت أحسبه مشكلة يعاني منها المرضى النفسيون وهم بريئون من الذنب لأنهم غالبا لا يعرفون، ويسأل عنها الأطباء في مختلف التخصصات وهم أقل براءة من المرضى بكثير لأن من يقرأ منهم في حدود تخصصه يعرف بالتأكيد، ولكنه غالبا يتصرفُ متعمدا إغفال أو إهمال أو الجهل بما يمكن أن يساعد به الطبيب النفسي في المستشفيات في أغلب الحالات، وفي كثير من مرضى العيادات الخارجية.
ويصح هذا الكلام، سواء في الحالات التي يكتشف فيها الطبيب أن الحالة المعروضة عليه ليست إلا حالة نفسية (كالقلق أو الاكتئاب أو نوبات الهلع) فيفسرها للمريض بالتوتر العابر أو يحجم عن تفسيرها تفسيرا نفسيا مكتفيا بأن يكتب أحد المهدئات وحبذا لو تكون النشرة المرفقة مع ذلك المهدئ بالإنجليزية حتى يحافظ على جهل المريض بعلته، أو في الحالات التي يصاحب المرضَ العضوي اضطراب نفسي كالقلق أو الاكتئاب ويفسر الطبيب ذلك بأنه رد فعل طبيعي وأن علاجه الناجح للحالة العضوية سيكفي، أو ربما رأى أن العلاج النفسي لن يفيد، والحقيقة أن ما بين الستين والسبعين بالمائة من حالات الشكوى لأي طبيب عام (أو حتى في بعض التخصصات) هم مدفوعون بأعراض نفسية المنشأ للشكوى بعرضٍ أو أعراض جسدية، ولعل قراءة مشكلة دوامة الهلع : أين حقوق المريض العربي تكفي لبيان الحال.
المشكلة ليست فقط مشكلة غياب دور الطب النفسي الوصلي أو الربطي Liaison Psychiatry–التي بدؤوا ينتبهون إليها ويصححونها في مستشفيات الغرب في التسعينيات من القرن العشرين، وإنما هي قد تفاقمت في بلادنا ومؤسساتنا العلاجية لتضيف عدم الترابط بين مختلف التخصصات بل التخصصات التي تخدم بعضها الآخر!، ولا أعرف هل يقتصر ذلك الخلل على الأداء الطبي في مؤسساتنا الحكومية أو المدعومة أم أنه ممتدٌّ للقطاع الطبي الخاص؟ ولكن من هم العاملون في القطاع الطبي الخاص؟ أليسوا نفس الأطباء؟ وتخيلت لو أن سكرتيرتي أرادت التحرك وحدها وهي لا تعرف شيئا عن الطب ولا الفحوص اللهم إلا ما تعلمته خلال عملها في عيادة للطب النفسي؟ وتخيلت كم من المرضى في بلادنا يتوهون لأنهم لا يعرفون وأطباؤنا مكتفون بأن المريض يدفع الكشف ويأخذ الوصفة، وهو ونصيبه!، أعدكم بأن أتابع الموضوع، لأنني أحسب مجتمعاتنا ما تزال بحاجة إلى الطبيب الحكيم أكثر من حاجتها للطبيب مُستورَدَ العلم مشوهَ السلوك مهما كان متخصصا، وإن شاء الله أن أكتب لكم عن الطب النفسي الوصلي ..... فقط ذكروني إن نسيت.
اقرأ أيضاً:
الطبيب النفسي سيدخلك في الدوامة فاحذرْ منه / يوميات مجانين: سمك... زعل.. آه يا أبو هندي / إياك من الأدوية النفسية!