في أحد الأيام.. كنت راكبة عربة المترو.. وكانت كثافة الركاب متوسطة.. جلست بجانبي سيدة شابة ومعها طفلها في غاية الرقة والجمال وكان ذا العشر سنوات على تقديري الشخصي.... حركته كثيرة وكلماته أكثر.
وكل حين وآخر يحتضن والدته وتحتضنه ويطبع على خدها قبلة.. تربّت عليه ويربّت عليها.. ثم قامت إحداهن بإعطائه مغلف به شوكولاته.. فلم يتردد في أخذه منها مبتسما ابتسامة في غاية التعبير عن امتنانه!! والغريب أنه فتحها وقسمها إلى أقسام غير متساوية وأخذ يوزعها على الأطفال من حولنا.. حتى نفدت قطع الشوكولاتة وهذا وسط استغراب من المحيطين.. ففعله لا يقدم عليه الكثير من الأطفال.. فبادرته معطية الشوكولاتة بواحدة ثانية وقالت له مؤكدة : دي بقى بتاعتك يا سكر.. خلاص كلهم أخذوا.. ففتح الغلاف وقسم القطعة نصفين – مفيش فايدة برده – ولكن هذه المرة وضع طرفها في فيه والدته.. التي قضمت منها كسرة واحتفظت له بالباقي.... قد كان هذا الطفل غريب التصرفات.. لم نألفها من قبل.. كما كان غريب عن باقي الأطفال .فهو طفل منغولي - داون.. -
أخذت أفكر بيني وبين نفسي.. وأنا أعاشر كل يوم الأطفال من جميع الأعمار.. سواء من مرتادي العيادات أو من الأقارب والمعارف.. لم أجد من أحدهم هذا الكم من الحنان.. والأحضان ذوات المعنى.. القبلات القوية صاحبة الصوت الذي يبرهن صدقها..!!
ابتسامة عريضة مستمرة.. ترحيب بالجميع.. لا زن ولا بكاء ولا صراخ ولا دلع!!
لم نرى طفلا يهدى هدية فيتقاسمها مع أترابه.. حتى نسيان ذاته.. يرفض ذوق الشوكولاته إلا لو ذاقها الباقون!!
ما السر في ذلك ياترى؟؟..
لماذا يفتقر أطفالنا الأصحاء –عافا الله جميع أطفالنا وأطفالكم وأطفال المسلمين والعالمين– إلى مثل تلك الخصال الرقيقة؟؟
تقاذف في فكري ساعتها أن السبب هو هذا العقل.. رخو المادة.. الذي تحويه تلك العلبة العظمية فوق الأعناق..
ربما سحبت طبيعتها الجامدة على طبيعته الرخوة على أفعال أطفالنا.. فبغيابه تظهر العاطفة!!!!!!!!
استغفرت الله.. وقلت: لازم يبقى فيه سبب..
ربما يتميز أطفال داون عن باقي متحدي الإعاقة العقلية -كما أحب أن أطلق عليهم– بفرط مشاعرهم.. وإن كان.. فماذا يميزهم؟؟.. لابد أن أبحث..
ذهبت لمركز الأمراض الوراثية بمستشفى الأطفال الجامعي.. وهذا المركز علاجي تأهيلي بحثي.. ولا يقتصر على الأمراض الوراثية كما هو اسمه بل أيضا يضم جميع الأطفال ذوي الخلل العقلي أيا كان السبب.. فجلست بجانب الطبيب.. وهو يناظر حالاته.. ويسجل ما بها من جديد سلبا كان أو إيجابا.. لم أهتم بأسماء الأمراض والمتلازمات.. بقدر ما اهتممت بالنظر للوجوه ورصد الأفعال وردودها..
جميع الأطفال بدون استثناء.. لا يهابون الطبيب.. بل يقبلون على الكشف بابتسامة.. نظرات تائهه نعم ولكنها معبرة.. تقّبل للمداعبة بل وردودا لطيفة عليها.. قبلات حانية على الخد.. سلامات باليد وبالإشارة وقت الرحيل.. هذا في أغلب الحالات التي بمقدورها التفاعل مع المحيطين..
إذا الأمر ليس قاصرا على طفل داون....... يا ربي..
هل استغل الإنسان عقله فبغى؟؟ وطمس ما به من عاطفة وحنان؟؟؟؟
ونمى بدلا عن المطموس.. غلاّ وحقدا وحنقة وأنانية ومشاعر باردة؟؟
هل وصل الأطفال لما وصل إليه الشباب والكهول؟؟ من فقدان الأحاسيس والعاطفة؟؟
هل عطب الدماغ يظهر ما بالإنسان من فيض مشاعر؟؟
هل سلامة العقل تمكن صاحبه من ترجيح أحاسيس وتنحية أخرى؟؟
الأمر شديد الملاحظة ليس فقط من الأطفال- سابقي الذكر - ولكن أيضا من مرضى الذهان.. الذين وللأسف يتندر بهم العقلاء..
وقد جلست لكثير منهم أستمع فوجدت ما لم أجده من كثير من الأصحاء..
تحضرني حادثة لن أنساها أبدا.. وقد كنت في السنة السادسة حيث يشرح لنا منهج الطب النفسي... وكعادتي
أحب محادثة المرضى.. وكل يوم أرسل لهم تحية الصباح.. وبعد محاضرتين أو ثلاثة.. لاحظت متابعة لأحدهم لتحركاتي وانتظاره لي وقت خروجي من المحاضرة.. ومراقبته لي عن بعد.. يلقي إليّ بالنظرات!!
ويهب واقفا حين قدومي للقسم.. يرسل إليّ بتلك الأفعال.. الوداد..
فلم أزيد أو أقلل من طقسي اليومي بإلقاء التحية على الجميع.. ودخلت قاعة المحاضرة ودخل الأستاذ الدكتور
الذي سيلقيها علينا.. وبعد مدة قصيرة دخل هذا الشاب والتفت يمنة ويسرة ثم ركز ناظريه عليّ.. لبرهة أحسستها طويلة نسبيا.. فنظر إليه الأستاذ الدكتور ثم إليّ.. وقال له : ماذا تريد يا فلان؟؟ لم يرد واستمر في نظرته.. فنهره الدكتور ونادى من يأخذه من قاعة الدرس.. فانتهز الشاب تلك الفرصة وتقدم نحوي وسط دهشة المحيطين وقدم إلي قلم.... جاف.. وقال لي : لو معايا أكثر كنت جبت!!! فأخذته منه شاكرة ممنونة وقلت له : إطلع بقى علشان الدكتور ما يزعلش منك.. فخرج.. ملقيا نظرة عليّ ونظرة للباب!!!!!
و كان هذا الحدث علي سعيدا.. فأنا أحب مرضاي وأحب أن يحبونني.. ولكن ما صدر من الزملاء ساعتها ومن الأستاذ الدكتور المحاضر.. قطع علي شعوري هذا..
واحد: شوفتي آخرة الحنية؟؟؟!!!
واحدة : هو دة الصنف اللي ينفعك.. مجنون لمجنونة!!
آخر : كويس إنه ما ادالكيش قلم بجد!!
والأستاذ : أرجوا عدم التحدث مع المرضى.. بعد ذلك.. فهم يشتاقون لمن يبرزون لهم من المشاعر.. ولابد أن يكون الطبيب حياديا!!! ولمّح باتهام لم أقبله.. فخرجت موضحة موقفي بعد المحاضرة!!!!!!
ثم.. أعود لما كانت عليه بداية الحديث..
ماذا في تلافيف المخ معطوب..يفجر العاطفة الكامنة في بني آدم.. وتختفي حيال صحته وعافيته – المخ -..؟؟؟
هل كان هذا الشاب قبل مرضه رقيق المشاعر كما هو ساعة لقائه بي؟؟ أم أن عطب عقله أدى لمثل تلك الفيوضات المشاعرية؟؟
هل توجد مشاعرنا ربانية المنشأ ونقوم نحن بكامل إرادتنا بحجبها وعدم استخدامها فتضمر وتنسى بناءا على القاعدة القائلة أن العضو غير المستخدم.. يضمر؟؟؟!!!
وهل تعبير أحدنا عن مشاعره من حب وود يعتبرها معظمنا بين الضعف تارة والحرمة تارة أخرى؟؟؟ فيكون
الإيثار لحجبها أحسن وأضمن....... وأقرب للتقوى!!!!!!
احترت واحتار دليلي كما يقولون..
دوما أواجه الأحداث بأسئلة تحتاج للإجابة.. فهل من مجيب؟؟
مودتي
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
واقرأ أيضًا:
يوميات رحاب: العالمانية / يوميات رحاب: في الصيدلية