بابتسامة خجلي قابلَت أسئلة المذيعة نجوى إبراهيم وضيوفها في برنامج (الحياة).. كانوا يسألونها عما كتب على القميص (تي شيرت) الذي تلبسه.. لم تحر جوابا.. لازالت عيناها تنطق بالحرج كابتسامتها.. ولم يرفع هذا الحرج قول المذيعة: نحن لا نقصد أن نحرجك، نحن فقط نناقش الموضوع ليستفيد الجميع...
ما الذي غيب عن الحضور الأفاضل أن هذا الاستجواب المُلِح لا يتسق مع راقي الفكر الذي يتبنونه؟ أم أن قوة قناعتنا بالحق الذي نعتقده تجعلنا أحيانا نغفل عن مراعاة أخلاق هذا الحق، فللحق سطوته وزهوه وبطشه الذي قد تفسد به النفس فسادا أشد وأخفى من فساد الظلم البين: روى الطبري عن حفص بن حميد قال: قلت لابن المبارك: رأيت رجلا قتل رجلا ظلما فقلت في نفسي أنا أفضل من هذا. فقال: أمنك على نفسك أشد من ذنبه.
وهذا الفساد الخفي متفاوت الدرجات بحسب سمو النفس خلقا ورحمة.. التأمل في هذا المعنى فتح لي أفقا جديدا في فهم قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)..
فكان عليه الصلاة والسلام مبلغا للحق على وصف كامل من الرحمة والرأفة بل هو مع ذلك عزيز عليه أن يلحق العنت بأمته، حريص عليها حرصا يجعله ملتفتا لدقائق الأمور في التعامل الإنساني إيجابا وسلبا: ألم يؤدبه ربه فيحسن تأديبه: (عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى).
قبل سنوات كنت ومجموعة من الصديقات في الجامعة نتحدث عن مفاسد الحكم الشيوعي في جنوب اليمن – قبل الوحدة – وما كاد يحتدم النقاش حتى خمد فجأة بانضمام إحدى الصديقات إلى المجموعة، تعجبت لهذا الخمود المفاجئ، لكن لم أتوقف عنده وتابعت حديثي بحماس لكن نظرة في عين صديقتي المقربة أسكتتني..
سألتها بعد انفضاض الجمع: ما الأمر؟ لماذا أردت مني السكوت؟
قالت: ألا تعلمين أن لصديقتنا تلك – التي انضمت آخرا إلى المجموعة – عم هو من قيادي الحزب الشيوعي البائد، وحديثنا قد يؤذيها.
قلت لها: لماذا يؤذيها؟ ما أفهمه أنها يجب أن تجهر بالبراءة من مثل هذا العم الفاسد، ثم لا أرى موجبا للسكوت عن كلام هو حق وصدق...
(( لم يكن الصحابة يتلون سورة (المسد) أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه... فانظروا إلى هذا الأدب))
سمعت هذه الكلمات من العالم الكبير الشيخ أحمد الكبيسي رحمه الله فأدركت حينها سقم فهمي، وفساد إدراكي، وكلما تذكرت الحوار الذي دار بيني وبين صديقتي المقربة كلما استبشعت قساوة جهلي بأخلاق الحقيقة..
في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقفات عظيمة هي بحق صفحة مضيئة من صفحات حفظ ديننا العظيم للتفاصيل الجميلة لحقوق الإنسان..
جاء في كتاب الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح الحنبلي : ج1/231 ((قال صاحب المحرر وغيره عقب حديث عائشة: إن ناسا يأتونا باللحم لا ندري أسَمُّوا عليه أم لا. قال: سَمُّوا أنتم عليه وكلوا . قالوا : وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد)).
إذن فديننا ينهانا عن سؤال ظاهره التحري والأخذ بأسباب التقى، إذ يعلمنا أن التقى حقا هو كمال الحرص على حق الإنسان في عدم إساءة الظن به بحمل تصرفاته على (الفساد) ابتداء.
هل انتهت تأملاتي؟ لا.. لكني سأكتفي بهذا القدر.. شكرا لبرنامج (الحياة) فقد أضاف إلى خبرتي الإنسانية موقفا جديدا حملني إلى أطياف متنوعة من التأملات أرجو أن تكونوا قد وجدتم فيما سطرته منها بعض النفع.. وشكرا لكم أيضا لوقتكم..
تم تحريره بحمد الله فجر الخميس :5/5/20005م
واقرأ أيضاً:
حكايات صفية : تفاصيل صغيرة / حكايات صفية: عقولهم ترللي ..