طبعا مخنوق.... وأنا أرى حولي ما أرى.
مصر كعادتها : ضجيج دون كثير طحين، مثل آلة طحن ضخمة أو مولد كبير، الكثير من العروض التي تبدو متنوعة، والأشكال التي تبدو مختلفة، واللافتات التي تبدو متعددة، والحصاد لا يعدو أن يكون فرجة أو مجرد رفع رأس في مدينة ملاهي تمتد لتشمل عشرات الملايين، ومئات الألوف من اللقطات، مجرد لقطات غدا أبلغ الأربعين، لا أشعر أنني مكتئب حاليا، ولكنني أنظر ورائي فأرى سلسلة من المشاهد والخبرات والتجارب أتمنى أن أفيد بها الناس، وأن أستفيد أنا بها.
لا تكفي الكتابة، لا تكفيني، أعتقد أن كلامي يصبح مثل كلام غيري، مجرد حبر على ورق ثم حروف في الفضاء الإليكتروني وسط مليارات أو تريليونات الصفحات على شبكة الإنترنت، فأي بؤس أعيش؟!!
أتأمل وأتساءل عن التأثير الذي يمكن أن تحدثه كلمة تخرج من قلبي، من حسرتي أو لوعتي أو ألمي أو حرصي، لا أعرف ما هو تأثير شخص مثل عمرو خالد مثلا، وأنا أتابع مسيرته، يعجبني ذكائه وحسابه لخطواته، وتوازنات حركته، أما أنا فأعتقد أنه لابد من حركة واسعة جديدة تتجاوز "عمرو" أو غيره، حركة تحتاج إلى رؤية أنفع وأعمق وأشمل وأوسع للدين والدنيا من حولنا، وقد يكون "عمرو" أو غيره خطوة يمكن أن تتبعها خطوات لأن الكيانات الكبرى والصغرى التقليدية تكلست، وما زال منها فاعلا إنما يتحرك بالقصور الذاتي، ويعيش على المجد القديم وتراكم جهود التجميع والتكديس دون إبداع يذكر والاستبداد البوليسي يخنق الجميع.
اليوم قرأت للصديق إبراهيم منصور مدير تحرير الدستور، وبالمناسبة الجريدة فيها 3 إبراهيم : عيسى، ومنصور، وداود، وكلهم تقريبا من نفس الجيل، ما علينا.
يقول إبراهيم عن الشعب المصري موجها كلامه إلى المستبدين: انسحبوا من الحياة بأموالكم –أو أموالنا– وبيوتكم فالانسحاب هو بمثابة القتل الرحيم لكم، وإلا فلن يرحمكم هذا الشعب الصبور لأنه إذا تحرك... إذا فكر... فلن يرحمكم.. لن يرحمكم أبدا "، ومنصور يربط هنا الناس لا تتحرك لأنها لا تفكر، كأنه يقصد هذا، وهنا بالتحديد تكمن المفارقة التي تحدثني نفسي بها دائما: كيف يمكن أن يفكر شعب استغنى عن التفكير، بل ويحتفي بتغييب العقل باسم الدين أحيانا، وباسم غيره، كيف يمكن أن يتغير إنسان بلا عقل تقريبا؟!! وكيف نوقظ العقل بعد أن نكتشفه !!؟ كيف تتحرك أمة لا ترى في نفسها القدرة ولا الحكمة، ولا ترى العالم إلا كما يراه الأطفال ؟! ولا تعتقد أن التفكير فريضة وتمارسه؟!
من حولي الآن عمال نظافة القطار المكيف الذي أركبه في رحلتي المكوكية من القاهرة إلى الزقازيق، حيث يحاولون تنظيف عربات القطار "المكيفة"، ومستوى النظافة، والفضلات التي يتركها الناس تدل على مستوى التحضر/العقل/الدين/الأخلاق/ .... حاجة تقرف.
الإنسان الفاقد للتمييز، الذي يترك من وراءه مذبلة، ما قيمة أن تتوجه إليه بكلام تخاطب فيه عقله؟! أين عقله؟!؟! وأين دينه؟! لذلك أشعر أنني أحيانا أقوم بدور في تلك المسرحية السخيفة المسماة " بالكتابة " لأن الناس تحتاج إلى شيء أعمق ربما، تحتاج إلى تفاعل مباشر، يأخذ ويعطي، وهو ما لا يحدث.
بالأمس كنت أتحدث مع صديقي الشاب بعد صلاة الجمعة، وكان مستفزا من برنامج تليفزيوني شهير يذاع يوميا على القناة الثانية من التليفزيون المصري، وبه تحاول "ماسبيرو"– اسم المنطقة التي بها مبنى الإذاعة والتليفزيون – أن تنافس برامج الحوارات المفتوحة على الفضائيات.
هذه الحلقة استضافت على حد روايته طبيبا نفسانيا شهيرا، وصحفي كبير، ومفتي سابق، وآخرون ربما، ورأى صديقي أن الجميع –عدا الطبيب– كانوا خارج ما يحدث في تحليلهم لحوادث التفجيرات الأخيرة في القاهرة، يعني منفصلون تماما ويتكلمون عن أشياء من رؤوسهم، وليس في الواقع، وهذا حال النخب العربية كلها.
بالمناسبة أنا أظهر في برامج مشابهة، وأقول كلاما لا أدري أين يذهب، ولا كيف يؤثر!!! ربما صدقت "حنان" حيث قالت لي: "الكلام وحده لا يكفي".
وفي نفس العدد من الدستور يشير "إبراهيم عيسى" إلى ما حدث في رومانيا حين تظاهر الناس لإسقاط شاوشيسكو وأسقطوه، ويتساءل في نهاية مقاله: هل عندنا واحد مستعد أن يموت من أجل الديمقراطية؟!
وبالأمس مات مقتولا أحد المهندسين الشبان من أعضاء الإخوان المسلمين في مظاهرة خرجت مطالبة بالديمقراطية
ولكن يا إبراهيم: في رومانيا فترة الشيوعية كان الناس يتعلمون تعليما لا بأس به إطلاقا، ونسبة الأمية في ظل الأنظمة الشيوعية غالبا ما كانت تصل إلى الصفر بعد جهود مضنية قضت على الأمية، ويبدو أن حكامنا تعلموا الدرس ولذلك تركوا الأمية في أغلب البلدان العربية لتظل في معدلات عالية تبدو قياسية مقارنة بأية بلدان تحترم نفسها، فهل يحتاج محو الأمية إلى إذن من السلطة؟
في أمة تدعي الإيمان هل يمكن أن نكون ملتزمين فعلا، وعقلاء حقا ونحن محاطون بكل هذه الأمية، وكل هذه التلال من القمامة؟!
وفي نفس العدد من الدستور توثيق لحوار مع نجيب محفوظ سأله محدثه عن ثورة 1919، وهي بالمناسبة أكبر ثورة مدنية في العالم خلال القرن العشرين، على حد وصف قرأته في مرجع محترم، نسيته الآن.
محفوظ يرى أن الشعب المصري تحرك في حالة عصيان مدني من الإسكندرية إلى أسوان دفاعا عن رمز رأى فيه قدوة، وهو "سعد زغلول" الزعيم الوطني الشهير، كم شاب وفتاة في العشرينات يعرفونه؟!
ومحفوظ يرى أن القدوة هامة وهي من مستلزمات الحركة عند المصريين، حسنا.... صار لدينا القدوة والعقل، وربما أضيف الإيمان السليم.
الاستبداد وضغطه من أعلى، وتآكل الأساس المدني الشعبي الجماعي بتعطيل التفكير، والسخرية من كل مبادرة علمية، والاحتفاء بالهلس في كل ميدان، وعدم الاهتمام بالعلم أو المعرفة أو تجويد العمل، أو الاستخفاف بالدفاع عن الحرية، وإدمان الكذب على الذات ليل نهار، والاستغراق في مسرحيات تنفيس الطاقة، وتبادل الكلمات في دوائر المتعلمين، والاكتفاء بالحديث عن الأوضاع الفاسدة الخاصة بالسلطة وأتباعها، وعدم المساس بواقع فساد الناس، أو العمل المشترك معا لإصلاح عقولهم وعقولنا واستعادة لياقتنا ولياقتهم الحركية، هذا وغيره أسلمنا إلى ما نحن فيه!!!
أعود إلى نفسي .. أحلم بحركة جديدة شابة متحمسة ومجاهدة في الله حق جهاده، حيث وضع السيف في موضع الندى مضر كوضع وضع الندى في موضع السيف، وكم من الجرائم ترتكب باسم الجهاد لأن العقل غائب!!!
الملايين من العرب والمسلمين جاهزين للبكاء على الأمة لأنهم يرونها بلا غطاء رأس، وأنا أغرق في اختناقي لأنني أراها بلا رأس.
واقرأ أيضا على مجانين:
على باب الله: 7/3/2005/ على باب الله القاهرة الدار البيضاء 17/4/2005/ على باب الله ما أروعك يا مراكش–18/4/2005/ على باب الله: التغيير – 19 / 4 / 2005/ على باب الله: بناة الحضارة – 20 / 4 / 2005/ على باب الله: حتى لا تتكرر أخطاءنا