حكايات بنت الفرات: مواقف مؤثرة (1)
الموقف الرابع : "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه".. صدقت يا رسول الله..
حكايتي اليوم هي عن عدة مواقف تثبت صحة قول النبي صلى الله عليه وسلم 100%.. الرفق في تعاملنا مع من حولنا، في توجيههم، وإرشادهم، في حوارهم.. يفعل الأفاعيل.. ويأتي بثمار ما كنا نتوقعها..
الحوار:الفريضة الغائبة..
عندما قرأت هذه العبارة لأول مرّة لم أدرك تماما معناها بكل أبعاده.. ربما لأنني لم أفلح في هذه الفريضة قبل ذلك، وبالتالي لم أكن أراها مهمة إلى هذه الدرجة ، خصوصا أن النمط الديني والعرفي الذي تربيت عليه كان: نفذي دون أن تعترضي أو تعلّقي أو تتساءلي.. لأنه الاعتراض والتعليق والتساؤل: عيب (عرفا)، وحرام (شرعا)
ولكن وبعد آخر تجربة لي في حوار آتى ثمرته، أدركت تماما معنى أن الحور: فريضة.. لكنها غائبة..
أولا.. أخذت إحدى فتيات المدرسة ترافقني في طريق العودة للمنزل بعد انتهاء اليوم الدراسي، وفي أحد الأيام، وبعد أن كانت قد فُتحت سيرة الحب في الفصل الذي تنتمي إليه هذه الفتاة، إذا بها تقول:
- أريد أن أسأل عن شيء، ولكني خجلة.
- لا تخجلي، فلا حياء في الدين.
- لست فقط خجلة، بل وخائفة أن تأخذي عني فكرة غلط..
- لا لن آخذ عنك فكرة غلط، هيا تشجعي وقولي، وإن شاء الله أقدر أن أساعدك في حل مشكلتك..
أخذت الفتاة ابنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة – على أبعد تقدير – تقص عليّ مشكلتها والتي تتلخص في أن شابا أعجب بها بينما كانت في أحد المطاعم مع أهلها، فتبعها إلى البيت وعرف بيتها ثم جاء ليخطبها ولكن أهلها رفضوه بسبب الفارق الكبير في المستوى الاجتماعي والثقافي ، ولكن الفتاة تمسكت به لأنها تحبه..
كيف أحبته؟ لأنه أخذ يكلمها بالهاتف..
كيف حصل على رقمها؟ طبعا تعاونت هي معه، فقبلت الورقة التي أعطاها إياها حينما كانت في المطعم والتي كان فيها رقم هاتفه ، وخابرته وخابرها كثيرا.. طبعا من وراء أهلها..
الوالد حينما عرف أصابته الجلطة، وهددها بأنه سيجعلها تترك المدرسة وسيجلسها في البيت وووو...
حاول والداها أن يبينا لها خطأ ما تفعله وأن هذا الشخص لا يناسبهم أصلا من حيث المستوى الاجتماعي، ولكنها كانت ترى في وجهة نظر أهلها ظلم كبير لهذا الشاب الذي أحبته.. لماذا أحبته؟
أعتقد أنه من الطبيعي جدا أن تحب من يحبها ويمتدحها ويثني عليها.. وهنا تكمن مشكلتنا الأساسية، "التجويع العاطفي" الذي نوقع أولادنا فيه يجعلهم يسقطون عند أول بارقة أمل لسد هذا الجوع..
ماذا فعلتُ؟
جعلت كلامي لها على أساس أنني أشير عليها برأي فقط – وهذا فعلا هو دوري -، ولها في النهاية أن تقدر الأمور بنفسها وتختار، لقد اتبعت معها أسلوب مجانين في تبصيرها بعواقب الأمور..
قلت لها: اسألي نفسك هذا السؤال: أيهما أهم بالنسبة لك لتضحي به: مستقبلك ودراستك وأهلك، أم هذا الشاب وحبك الكبير له؟
أيهما يمكن أن يعوّض وأيهما لا يمكن أن يعوّض؟؟ أنت الآن صغيرة جدا، لو أنك ستتزوجين وقد أنهيت الثانوية العامة وبدأت مشوارك الجامعي، فمعقول نوعاً ما، وإن كنت أرى أنها صعوبة كبيرة ومخاطرة أكبر.. ولكن على الأقل تكونين قد قطعت الشوط الأساسي في التعليم، وفي تحقيق أهدافك.. ولكن الآن، هل ستكملين الثانوية العامة وأنت في بيت الزوجية؟ هذا صعب جدا.. مسؤولية البيت والزوج والأطفال مسؤولية كبيرة ربما لن تنجحي في التوفيق بينها وبين دراستك، وعندها ستضحين بالأقل أهمية. وبالتأكيد ستكون الدراسة هي الضحية، لأن خراب البيت ليس سهلاً..
ثم هل هذا هو فقط طموحك في الحياة، ألا تريدين أن تكملي دراساتك العليا لتكوني عنصراً فاعلاً في المجتمع،
هل هذه هي أحلامك للمستقبل؟؟
- ولكنني أحبه كثيرا..
وأخذت الصغيرة تبكي، أحسست أن قلبي ينفطر عليها لألمها المبكّر..
- هوّني عليك، أنت الآن تحبينه لأنك ترينه وتكلمينه، ولكن عندما تنقطعين عنه فإنك ستنسينه شيئاً فشيئاً..
وحتى تعيني نفسك على النسيان وعلى التفكير السليم، ادعي الله عز وجل أن ينسيك إياه، هذا إذا أخذت قرارك بان تتركيه واخترت أهلك.. القرار قرارك في النهاية يا صغيرتي.. فكّري جيدا ثم قرري، وأسأل الله أن يلهمك الصواب وما فيه الخير لك عاجلاً وآجلاً.. وافترقنا..
انتظرت اليوم التالي بلهفة لأرى نتيجة هذه المحادثة، سألتها: على ماذا قرّ رأيك ؟
كانت لا تزال مشوشة وفاقدة للتوازن، فهي لا تريد أن تضحي بشيء مما تحبه، لا أهلها ودراستها، ولا حبيبها..
كل هذه الأمور كانت تشدها بقوّة..
أخذنا نتجاذب أطراف الحديث والنقاش.. ولكنني كنت أصرّ دائما على إعطائها مساحة الحرية لتقرر بنفسها مستقبلها ، كنت مصرّة على أن تفهم هي هذه الناحية، لأنها تستطيع أن تفعل ذلك فهي كبيرة وناضجة وتعرف كيف تفكر وتختار، كل ما هنالك انها قليلة الخبرة بالحياة، وهذا ما تعوّضه باستشارتها للكبار من حولها..
الحقيقة أنني لم أتوقع هذه الاستجابة السريعة، فما إن رأيتها في اليوم الثالث إلا وقد أخذت قرارها بأنها ستترك موضوع الزواج بهذا الشاب، وستلتفت لدراستها وبناء مستقبلها.. ستعاني إلى أن تنساه.. ولكنها أخذت قرارها وحسمت أمرها أخيراً..
كل ما أريده من هذه القصة أن أوصل لكم أن الحوار هو فعلا ما يبني الشخصية وينضجها ، قد يحجم الأهالي عنه خوفاً من أنهم إذا حاوروا أولادهم ثم أعطوهم الحرية ليفعلوا ما يشاؤون فإنهم ربما فعلوا ما هو ضد رغبات الأهالي، ولكنهم نسوا أن الحوار حين يكون قائماً على أسسه الصحيحة، مع وجود الثقة المتبادلة بين الأطراف المتحاورة مع التوكل على الله فإنه سيبني لا محالة.. وسيأتي بالثمار التي نشتهيها..
ثانياً.. في إحدى فصول الصف الثاني الإعدادي فتاة مشاغبة جدا، لدرجة أنها عملت "مقلب" بإحدى مدرساتها فكان الطرد من المدرسة 3 أيام نصيبها.. طبعاً الجميع ضدها: مدرّسات وطالبات، وهي بدورها و لتدافع عن وجودها وكيانها تبادلهم هذا الرفض برفض مماثل حيث تتكبر على زميلاتها في الفصل ولا تعتبرهم بشراً أصلاً.. عرفت هذا بناء على "ملاحاة" تمت أمامي عندما كنت في حصتي لديهم..
وهنا لم أسكت، وتكلمت مع الطرفين عن معاني الأخوة في الله وكيف أننا نراعيها سواء كنا مخطئين فنرجع عن خطئنا أو غير مخطئين فنساعد من أخطأ ونحتويه لا أن نكون أعواناً للشيطان عليه.. ثم تحدثت عن خطر الكبر وكيف أنه ممكن "يودي في داهية" ، وما طرد إبليس من رحمة ربه إلى لأنه تكبر..
وانتهت الحصة وإذا بالفتاة تلحق بي إلى خارج الصف لتقول لي، هل يمكن أن أتحدث معك موضوع خاص: فقلت لها: طبعاً، تفضلي..
وإذا بها تقول: يا آنسة، ما رأيك بي كطالبة؟ وبدأت الدموع تغرق عينيها..
عرفت ساعتها كم هي محطمة ويائسة رغم كل ما تظهره في الفصل أمام صديقاتها من صلف وغرور ولا مبالاة..
قلت لها، شوفي، أنت إنسانة كويسة جدا من داخلك، ولكن لديك يعض الشغب الطفولي والعادي، وخطؤك الذي طردت بسببه من المدرسة ليس خطأ بحد ذاته، فجميل أن يكون الإنسان صاحب نكتة ومقالب طريفة، ولكن الخطأ أنك استخدمت هذه الموهبة في المكان الخطأ، فمثل هذه الأمور لا يصح أن تحدث في المدرسة.. هذا كل ما في الأمر، أما عن شخصيتك وهل أنت إنسانة كويسة أم لا، فرأيي أنك إنسانة كويسة جدا وسيكون لك مستقبل كبير إن شاء الله..
وإذا بها تهدأ قليلاً.. وتشكرني ثم تنصرف مسرعة لأن مدرّسة الحصة التالية قد دخلت الفصل..
ومنذ ذلك اليوم أصبحت هذه الفتاة أهدأ قليلاً من ذي قبل، وأكثر التزاما.. لم أر بعد تعاملها مع زميلاتها، ولا أتوقع فيه تغيرا سريعا، ولكنني متفائلة بأن التغير قادم بإذن الله
ثالثاً.. في أحد فصول الثاني الإعدادي أيضاً فتاة، تسبب كذلك شغبها بفصلها من المدرسة 3 أيام، كنت أحس أن في قلب هذه الفتاة ثورة عارمة على كل القيم والقيود، وهذا ما ألاحظه على كثير من بناتنا.. ولهذا تصدر منهم في المدرسة تصرفات غير مدروسة ولكنها في النهاية تعبر عن رغبة عميقة في التحرر وكسر كل القيود..
عندما كنت أشرح معنى كلمة ربانيين، قلت: هو ذلك الشخص الذي إذا رأيته ذكّرك بالله، عادة ما نتذكر الله فنخاف منه، ونكره سيرته، ولكن هذا غير صحيح..
فقالت الفتاة: ولكن هذا ما يحدث فعلا!
فقلت لها لأن السبب هو أن فكرة الله عز وجل حين زرعها أهلونا في نفوسنا وعقولنا عندما كنا صغارا كانت بالترهيب فقط، كلما أرادوا ردعنا عن شيء قالوا: لا تفعلي وإلا فإن الله سيحرقك بالنار.. فطبيعي أن تكون فكرتنا عنه أنه إله التدمير والحرق والرعب.. لم يخبرونا يوماً عن مدى رحمته وعدله، بل عن مدى حبه لنا..
وأخذت أذكر لهن بعض الأحاديث القدسية التي تثبت ما أقول.. فإذا بملامح وجهها القاسية والمتمردة تلين قليلاً..
لهذه الفتاة بالذات قصة مع الحجاب.. قصة تتحدث بها كل المدرّسات..، فهي محجبة ، ولكن كما لو كان حجاب " فض عتب" فهي تربط الإيشارب إلى وراء رأسها فتظهر رقبتها كلها .. ليس هذا فقط، بل وتفتح أزرار قميصها العلوية ليظهر صدرها بشكل لافت للنظر.. هذا في الشارع، أما داخل أسوار المدرسة فتخلع الحجاب لتفرد شعرها فيراه الجميع، ومدرستنا ليست مدرسة نسائية فقط، بل فيها مدرّسون وعاملون من الرجال..
كنت أرى هذا المنظر ولم أعلّق إلا مرّة واحدة وليس بأكثر من ابتسامة تنم عن عدم الرضي والعتب.. ولكنني لم أناقش معها الموضوع أبدا.. لأنه لا فائدة من إقحام نفسي في هذا الأمر فهي متمردة جدا وتريد أن تشعر بحريتها فيما تفعل وتختار، وهذه المساحة غير موجودة لا في البيت ولا في المدرسة، وبالتالي إذا تكلمت سيكون مصير كلماتي الرفض كسائر الكلمات التي سبقتني.. ولهذا آثرت الصمت، ولكنني كنت أتحين الفرصة المناسبة لأقول شيئاً ما، ولكن بطريقة تكون مقبولة لديها..
وسبحان الله.. جاءت الفرصة..
كنا في رحلة مدرسية، والفتاة على حالها.. تُظهر رقبتها وأعلى صدرها.. وتلعب هنا وهناك مع زميلاتها، والمكان مليء بالرجال والعاملين،
أمسكت نفسي عن التعليق، وكنت لطيفة وودودة معهن جميعاً، وإذا بها في نهاية الرحلة وقد تصادف وقوفي بجانبها في انتظار الحافلات التي ستقلنا إلى بيوتنا، إذا بها تسألني: هل ربط الحجاب إلى الأمام أم إلى الخلف أحلى وقد ربطته إلى الأمام وأغلقت أعلى قميصها!!
سررت كثيرا لهذا التطور الحاصل، فقلت لها: بصراحة: ما أراه الآن رائع جدا.. وهذا هو الأحلى فعلا ً...
سررت كثيراً لأنها بدأت تفكر باتجاه آخر غير الاتجاه الذي كان مسيطراً عليها ويشدها، أي بدأت تتحرر من رغبتها الدفينة في مخالفة كل الأوامر والتحرر من كل القيود، فهذا التحرر هو الذي سيتيح لها أن تفكر بعقلها وتختار وفقاً لإرادتها ورغبتها هي بنفسها.. لا تحت ضغط الكره والنفور من شيء ما..
أسأل الله تعالى أن يجعل هداية هؤلاء البنات على يدي، وأن يجعلني أليق بمكانة: سفيرة الإسلام، وأن أؤديها حقها، وأن أبشّر ولا أنفّر.. آمين..
واقرأ أيضاً:
حكايات بنت الفرات مشاركة على : بوح الدكتور أحمد .. / حكايات بنت الفرات لغة الجيل الجديد / سب النبي .. هل هو حقاً