اختار التقرير الأخير للتنمية الإنسانية العربية، والذي يتناول الحريات تعبير " الثقب الأسود" لتشبيه أوضاعنا العامة في العالم العربي، ومعلوم أن "ظاهرة الثقوب السوداء" في الكون تعني أن الدخل إليها مفقود، والخارج منها مولود، ولا أعتقد أن الأنشطة المتسلطة على رقابنا هي فقط ثقوبنا السوداء، ولكن الكثير من أفكارنا ومؤسساتنا الرسمية والأهلية دينية كانت أو ثقافية أو سياسية، وما استقر لدينا من غياب الشفافية، وانعدام تقاليد النقد الذاتي، أو حتى الاختلاف الصحي للآراء المؤسس على جهد ودراية، وإهمال للعقل ودوام للحوار، وكافة أمراض الكيانات والتجمعات غير القائمة على وعي أو نظم ولوائح وطرق مرنة في الإدارة بالفاعلية، وليس بالكتل والأمزجة والتحزبات، وكافة تبعات القول بالهوى وعرض المشكلات دون حلول.
أغلب طاقاتنا مبددة في هذه الثقوب جميعها، ومنها ما هو موجود بمباركة الجميع منا واطمئنان، وراحة بال حين نكتفي بشتم الحكومات وكأننا أبرياء أنقياء من كل نقائصها، رغم أن كلنا في الهم، كل "بسبب موقعه"!!! ويصعب على المرء إلا أن يقول الحق، ولو كان مرا، ويضغط على أعصابي هذه الأيام هذا المشهد الموجع المتكرر للاجتياح السلطوي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ضمن المشهد السياسي العام.
يوجعني أن يتحرك الإخوان نيابة عن الناس أو بديلا عنهم أو يدفع الإخوان وحدهم ثمن مطالب شعب كامل بالحد الأدنى من حقوقه، ويوجعني صمت الباقين أو خفوت صوتهم أو قلة حيلتهم، ويوجعني أن يدخل الإخوان أصلا إلى هذه الساحة، وتلك المعركة، وذلك الحجم من التصعيد الذي يبدو أنه جاء أكبر من احتمال السلطة ومن توقعاتها، والخطة جاهزة، انتهاك للبيوت، واعتقالات لصفوة من رجال البلد، وإجراءات قانونية يشوبها الكثير من التعسف والتلاعب والبطلان في ظل حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ عقود، ونرى هذا في عياداتنا اكتئابا وقلقا وانهيارا لدى الأبناء والبنات، وحزنا صامتا عند الزوجات والأمهات، ودموعا تغالب التماسك والصبر الجميل على البلاء وينوب الآخرين من الحب جانب ضربا واعتقالا هل كان الإخوان يدركون أن المسرح كان جاهزا لتكرار نفس المسرحية القديمة بكل مكوناتها ؟! مسرحية التفريق والاستفراد والتنكيل بالجميع؟
هل تحول المشهد الرئيسي للسياسة في مصر عبر العقود الماضية إلى ما يشبه متلازمة "سادو ماسوشية" بحيث يتلذذ طرف بانتهاك حقوق الآخر، ونحن نتلذذ بالمشاهدة وتنتعش الضحية وتشعر بالبطولة والتحقق والرضا عن الذات حين ترى دمها يسيل لتتوقف بالتالي كل النقاشات مع الآخرين المختلفين ومحاولات المراجعة أو الشفافية أو النقد الذاتي أو التخطيط الاستراتيجي أو حتى النزاع الداخلي بين أجيال واضحة ووجهات نظر مختلفة تضمها تلك الحركة الواسعة؟!!
فيكون الصدام هروبا من التعامل الناضج مع هذه الملفات جميعا؟! وهل هناك أمل حقيقي في إصلاح بلد يسكت ناسه على ما يرونه أمامهم الآن، أو يمصمصون شفاههم ودمتم؟!!
وهل سيبتلع هذا الصمت تحركات القضاة والجامعيين وغيرهم؟!!
على أي أسس قامت حسابات الإخوان حين قرروا أن يتحركوا هكذا؟!
ومن استشاروا من عقول وحكماء؟!
وبأي حق أو منطق تغطي السلطة على حتمية اتخاذ خطوات حقيقية للإصلاح بمسرحية "الجماعة المحظورة" التي شاهدنا فصولها عشرات المرات من قبل؟!!
وهذا الجمهور العريض من المتفرجين هل هو غافل أم مغفل أم مستغفل؟!!
وهل يمكن أن تتحكم في الإخوان عقلية القابلية للاستخفاف، أو الاندفاع لنفي الإشاعات (الشائعات)، أو محاولة إثبات الوجود، أو إرضاء نزق البعض داخل الحركة مخافة الانشقاق أو الاتهام بالعمالة للدولة والأمريكان؟!
هل يمكن أن يبتلع الجميع الطعم ويقعوا في الفخ هكذا "كل مرة" ومن الذي يدفع الإخوان أو النظام أو كلاهما، وكذلك النخب السياسية لهذا المشهد كل مرة فيؤخرنا جميعا عدة عقود للخف؟!!
وإلى أين تأخذنا الغاشية العلمانية التي يتبناها بعضنا في مواجهة فاشية الإخوان الدينية كما يصفونها؟!!
إلى متى سيظل منطق التخوين الدائم أو التواطؤ الضمني مع السلطة أو تبادل الشتائم أو المجاملات دون حوار حقيقي هو نمط ممارسة الفرقاء المختلفين في مصر؟!!
إذا ظل الإخوان لا يعرفون أو يمارسون من عالم السياسة إلا لعبة صدام / هدوء / وبالعكس والتناوب، وإذا ظلت السلطة قادرة على تفريق صفوف أصحاب مطالب الإصلاح والديمقراطية، وحصارها لتظل نخبوية وضائعة وسط غبار المعارك بين دعاة الإصلاح وبعضهم البعض، وبينهم وبين النظام .
أنا أرى أن سيناريو "فرق تسد" يتكرر بامتياز، وأعتقد أن مغالبته ممكنة، ولكن بإجراءات فورية وحاسمة أشرت إليها في مقال "أجندة صيف" "بجريدة صوت الأمة".
ويا دكتور عماد أبو غازي ابذل معي مجهودا أكثر لنجتهد كيف يصبح الإخوان وغيرهم أكثر مدنية وديمقراطية لأن كلامك هو مما يعكر الماء، والصيادون كثيرون .
لكنني طبعا أحييك على صراحتك وشجاعتك فمنهما يبدأ الحوار الحقيقي .
واقرأ أيضا على مجانين:
على باب الله: الخميس 10/3/2005 .. من مدريد/ على باب الله: في انتظار الباشمهندس/ على باب الله: أن تكون شهوانيا/ على باب الله: أجندة صيف ساخن