شغلني الاهتمام بالتحولات التي حصلت في بلدان أوروبا الشرقية –سابقا– وهناك الملايين ممن يعدون الآن في عمر الشباب يكادون لا يعرفون شيئا عن تلك الدول عندما كانت شيوعية ثم طبيعة التحولات التي حدثت لها، وبالتالي يبدو العالم في ظن أو إدراك هذه الأجيال، وكأنه كان هكذا أمريكيا رأسماليا، أو يبدو راقصا على إيقاع عولمة واحدة متشابهة طوال الوقت، وهو ما لم يكن صحيحا حتى وقت قريب حين انهارت المنظومة الاشتراكية، وقليل منا من يعبأ بالتاريخ ودروسه، ولذلك ننهزم ونتأخر لأن التاريخ خير معلم لمن أراد أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون، أو على الأقل يتلافى الوقوع فيما وقعوا فيه!!!
وفكرت حين كان العالم يشهد هذه التحولات أنها تهمنا من أكثر من زاوية، فحاضرنا مازال خليطا من شمولية سياسية، وديكتاتورية عسكرية، وتسلطية اجتماعية، وفوضى ثقافية أو لنقل انغلاقا يتلون ويتجمل ببعض المسحات العولمية، وسبب آخر، وهو أن هذه الدول – الاشتراكية سابقا – كانت تحرص على علاقات متينة مع العالم العربي، ودأبت على مناصرة قضاياه في المحافل الدولية، وأفرطت في ربط علاقات ثقافية وأكاديمية استفادت منها النخب في بلداننا، وبخاصة تلك التي رفعت رايات ثورية اشتراكية لبعض الوقت، ولم يكن نادرا حينذاك أن تجد المبتعثين من مصر أو سورية أو العراق أو الجزائر يعاملون مثل أهل البلاد، ويحصلون على أعلى الشهادات ويعودون ليحتلوا أفضل المناصب بوصفهم من ذوي الشهادات المستوردة رغم تشكيك البعض في مستوى هذه الشهادات مقارنة بمثيلاتها التي كانت تصدر عن جامعات أوروبية غربية، ثم انطوت تلك السنون وأهلها، فكأنها وكأنهم آثار، كما يقول الشاعر.
وشغلني التفكير في كيفية تخلص هذه الشعوب من الطغمة الحاكمة في كل منها، الأمر الذي اكتشفت بعد ذلك أنه لم يحدث على النحو الذي كنت أتصوره، فمن كانوا يقبضون على السلطة والثورة أعادوا توزيع ونشر قواتهم وجهودهم وأبنائهم وأحفادهم، ومفسحين بعض الطريق للوافدين الجدد من نخب الصعود الرأسمالي بأساليبه وأدوات إنتاجه وأنشطته الاقتصاد والمجتمع المستندة إليه، الأمر الذي وصل بالناس هناك إلى القول:- (ليت أيام الاشتراكية تعود)،
وأذكر أنني سألت أحدهم أو إحداهن:- ما الفارق بين الزمن الفائت والآن؟! فقال:- زمان لم يكن هناك سوى أحذية من نوع معين، وملابس ذات جودة متوسطة، وموديل متقارب، وأطعمة قليلة التنوع، ولكنها في متناول الجميع، كان الكل تقريبا يعيش على كفاف أو مستوى متواضع متقارب، وشبه نمطي، والآن: كل شيء موجود في الأسواق، الأطعمة والملابس والسيارات والأجهزة من كل نوع شكل وموديل، ولكن لا توجد عند أحد الأموال الكافية ليقتني كل ما يحلم به!!!
لا أنوي الدخول في مناظرة أو مقارنة سطحية بين عيوب ومميزات الاشتراكية في مقابل الرأس مالية، وإن كان الأمر يستحق الفهم والمتابعة لمن أراد التفكير في مستقبل نهضة لهذه الأمة أو حتى لقطره أو حياته الشخصية، فالأحلام الرأسمالية والطموح إلى الاقتناء وتملك الأشياء هي القوة الدافعة والرافعة لهذه الفلسفة والطريقة في إدارة الأمور الشخصية أو العامة، ويبدو أن الاشتراكية قد سقطت لأن الرأسمالية كانت أكثر إغراءا ولمعانا وقدرة على إثارة الوعود والطموحات والتطلعات حتى في نفوس مواطني البلدان الاشتراكية!!!
كنت أتساءل عن دور الدين ومكانه ومكانته في ظل التحول من نظام إلى نظام، وعلاقة الكنيسة بالدولة، ووضع القيم في المجتمع، ووضع المرأة والتعليم والعمل، مسيرة هذا الإنسان الذي كان مجبورا أن يهتف باسم جلاديه ثم لما تحرر من قهرهم وجد نفسه مقهورا، ولكن بطريقة أخرى، ولصالح جهات ومصادر أخرى!!!
تذكرت تلك الفتاة المجرية التي غضبت حين لاح أنني أنافسها على مقعد في قيادة منظمة شبابية لحوار الأديان، واستراحت حين فازت بهذا المقعد لمدة عام.
سألتها فيما بعد عن الغضب والراحة فقالت:- لكي أستطيع تحمل الحياة في بلادي لابد أن أسافر مرة في العام وكان هذا في النصف الثاني من التسعينات، أما الآن فقد اصطفت هذه الدول في طابور طويل لدخول الاتحاد الأوربي، الأمر الذي تطلب منها إحداث تغيرات في هيكل الاقتصاد وطبيعة المجتمع، ومشتاق أنا لمعرفة انعكاسات كل هذه التحولات المتوالية على تلك البلدان!!!
عندما كنت على وشك المجيء إلى (بودابست) من سنوات لحضور مؤتمر، ولم أحضر، سمعت من العائدين عن انتشار النشل، وعن الصيت الذي حازته المدينة كعاصمة للرقيق الأبيض سحبت البساط من تحت أقدام أمستردام!!
طبعا لا يمكن ولا أحب اختصار أي بلد في هكذا انطباعات أو أجزاء، دعونا نرى .
ومن تدابير القدر أنني في رحلة جنيف الأخيرة قابلت أكاديميا مجريا، وكان لطيفا للغاية، ووعد أنه وسط سفرة يستعد لها سيزورني يوما في المؤتمر الذي أنا ذاهب لحضوره، ومن ثم قد نتجول سويا في المدينة، وهذا أفضل شيء، أي أن يصحبك أحد من أهل المكان إلى ما وراء المشهد الأمامي لترى وتشاهد عن قرب حياة الناس الحقيقية.
وفي هذه البلدان أقليات عربية وإسلامية، ولكنها مثل مثيلاتها في كل الغرب والشرق تلعب دورا هامشيا، وأحيانا سلبيا، وإن كانت قد نشطت بعض الشيء بعد (11) سبتمبر2001 لتدافع عن وجودها على الأقل في هذه البلاد التي هاجرت إليها واستوطنت وتحاول أن تجد لها فيها وضعا ومكانا ومكانة تجمع بين الاندماج المريح، والحفاظ على بعض الهوية الثقافية، وهي عملية ليست سهلة، خاصة وتلك الجاليات متروكة لتنجز هذه المهمة وحدها!!!
اقرأ أيضاً:
على باب الله جواز سفر/ على باب الله الحوار/ على باب الله: بنية وبيئة