أشكرك يا أخ أحمد على اقتطاعك من وقتك لترسل هذه المشاركة على ما أنشره من حكايات، وأنا سعيدة جدا بهذه الردود والمشاركات والانتقادات التي تصلني من القراء الأكارم، فهي تضيف لي وتطوّرني كثيرا وتبين لي مواطن الخلل في كتاباتي وأخيراً: تسعدني..
فجزاك الله كل خير، وجزاكم الله كل خير جميعاً.. والحمد لله أن هيّأ لي إخوة ناصحين ناقدين مهتمّين..
سأرد على مشاركتك مقطعاً مقطع، وسألوّن ردي باللون الأزرق ليتبين خلال مشاركتك..
بداية، أحيي الأخت "بنت الفرات" على مشاركاتها الغزيرة، التي تبدي إهتماماً كبيراً بالناشئة، والتي تمارس عملها (كمدرّسة) بشكل حيوي للغاية. وقطع، الأخت كونت صورة عن خطوط حياتها العامة، فهي عراقية الأصل قد نشأت ببلد خليجي نفطي، ومارست دورها التربوي في غمار المجتمع الذي إحتواها طالبة.
يؤسفني أن أقول لك أنك قد أخطأت في الاستنتاج، فلم أذكر في كتاباتي كلها أنني نشأت في الخليج أو أنني من العراق نصره الله، بل ليس هناك ما يشير من قريب أو بعيد إلى ذلك إلا اسمي، ولكن هل الفرات نهر عراقي من المنبع وحتى المصب؟!؟ الفرات ينبع من تركيا مارا بسوريا منتهيا في شط العرب مع دجلة ليصبا أخيرا في الخليج!
وهذا يضعك أمام ثلاث احتمالات لتحديد جنسيتي، فلماذا رجّحت ما ذهبت إليه؟؟!!
و قطعا ليس هذا الذي دفعني لأن أقتص وقتاً من دراستي وبرنامج نشاطي الرياضي، إنما لكي أنتقد ما كتبته الأخت بالموقف الأول في مقالتها "مواقف مؤثرة 2". المقالة تتحدث عن بنت مراهقة بعمر الخامسة عشرة قد أحبت شاباً ما- دون ذكر أي معلومات عن الشاب، كأنه لا يحتاج أصلاً أن نعرف عنه أي شيء-
لا طبع، لم أذكر شيئاً عن الشاب ليس لأنني أراه لا يستحق أن يُذكر بل لم أفكر بذلك أصل، وإنما لأنني أقتطف من الواقعة ما يفيد فقط، ووجدت أن مواصفات الشاب لا تقدم ولا تؤخر من الأمر شيئا لأن الاعتراض على وضع بعينه وهو التفاوت الطبقي والاجتماعي، والأهم صغر سن الفتاة وعدم اكتمال نضجها بعد بما يؤهلها لتخوض هذه التجربة المصيرية .
ولقد قمع أهلها الحب بطريقة بربرية~همجية كأي أسرة عربية ترزح تحت التخلف القبلي والأقمطة الفكرية. ولكم هو مضحك موقف الأب المجلوط المهدد إبنته بإجبارها على ترك المدرسة، والأنكى أن هناك "و.. و.. و.. و" بعد تهديده، أي أنه، ربما، هدد بذبحها و ضربها أو تركها ملقية بحاويات النفايات، وبأي ذنب؟ ذنب الحب ياقوم. نعم، الفتاة، الأنثى، المرأة، الإنسان (الإنسان عندي وليس عنده طبعا) قد أحبت أقول لكم، وأحبت من؟ صنما، نخلة، ثورا، شيطانا؟ لا، أسوء، لقد أحبت "رجلاً"، وإذن: الويل والثبور عليها من فتاة متمردة شريرة باغية. نعم، هذا منطق الانغلاق الفكري وظلم الدين، هذا هو منطق متوحشي الهند الذين ملئوا خليج العرب حتى صاروا السادة ونصوا قوانين غابات "كلكاتا" وقبائل عابدي الفئران ومستعبدي البشر الأوائل قبل أي شعوب أخرى.
هذا هو منطق الهندي الذي استعمر أرض العرب وتطعم بأفكار محمد بن عبد الوهاب وابن تيميّة وغيرهم من أئمة الظلام والتوحش الفكري الأصيل. وهؤلاء هم، نعم هم، من سيحولون مجتمعاتنا إلى شعوب متعرية باغية إباحية، بعد أن يكبتونها ويعصرونها ويجمدون فيها الفكر والإنسان والسؤال والغريزة حتى.
يفتخر أحد همج السلفيين، والمفتخِر من سوريا، أن أميراً بحرينيا غنياً قد تقدم لإحدى بنات أخيه وأعجب بها لأنها لم تتعلم إلا لمرحلتها الإبتدائية، وانشغلت بحفظ القرآن وتعلم الطبخ. فسألته، ببراءة شاب عاش بعيدا عن هذه الطامات الفكرية، وماذا عن ثقافتها كأم للمستقبل؟ نظر إلي بإبتسامة باردة وربما راثية، ابتسامة كتلك التي تلقيها الأمهات على قصص أطفالهن المليئة بطولات وهميّة وحماس حارق.
قال أخيراً، بعد إبتسامته المرافقة لهزات رأسه كمتصوف ما، أنني شاب "ضحية للأمركة" وأنني أستهين بثقافة البنت القرآنية التي تلقتها، ظاناً (والظان هو أنا على لسانه) أن ثقافة الجبر والتأريخ وعلم النفس والاقتصاد هم التي ستنشأ أمّا مثالية.
حككت طرف حاجبي بحيرة، وسألته بكل صدق وهدوء وروح معذبة لأن تفهم كيفية فهمه لكلامي على هذا النحو، وعن طرق تحليله العقلية التي أدت لهذا الفهم؟ وإذا ما كنتُ أتكلم بهذا الشكل السيء حقا، الذي يدفع البعض لتلبيسي أموراً وقضايا خطيرة لم أقلها؟ لم يجب، بل أعاد إلقاء إبتسامة الأم الراثية الحنونة.
أكملت أنا بلهجة تكتنف الهدوء، رغم أنني كنت أعالج مغصا بسويداء قلبي، إذ علمت أن الرجل لن يفهمني، وإنني أبدد وقتي ليس إلا.
ولكن كيف أصمت؟ ولم أصمت: لقد شرحت له، وقلت بأن حفظها للقرآن لا يعني إطلاقا أن عندها ثقافة قرآنية، ذلك لأن القرآن الكريم كتابٌ عالي اللغة والأسلوب والحبكة، ومسألة حفظه لا تعني فهمه، لأن فهم القرآن لا يستوجب فهم العلوم الإسلامية من تأريخ وحديث وفقه وتفسير فحسب، وإنما يشترط فهم لا بأس به بعلوم الجيولوجيا والاقتصاد والتأريخ واللغة العربية وحتى علوم الفلك.
القرآن مدرسة للعقل لا للنقل يا سيدي- مازلت أخاطبه- وهو موطن للكثير من الحلول اليوميّة لحياة كلّ فرد مثقف بثقافة حقيقيّة. أنتهيت فجأة كعادتي بالحديث، بينما نصحني أن أستعيذ بالشيطان وأن أكف عن هذه الأفكار، وتركني ماضيا. حسنا، وهل يختلف الأب المجلوط عن هذا الآخر بشيء؟ لا أعتقد.
لقد بنيت كل هذا الاستنتاج يا أحمد على فكرتك الأولى وهي ان أحداث هذا الموقف تدور في الخليج، لا يا عزيزي، كل ما ذكرته خاطئ، فلا الفتاة من أبناء الطبقة فاحشة الثراء والسطوة، ولا.
بل هي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة في المجتمع، تعيش عيشة كريمة نعم، ولكن بالمعقول، وأهلها ليسوا حتى من أولئك المنغلقين الذين تتحدث عنهم، ولكن طبعا لا تزال قيم وعادات المجتمع تحكمهم كحال غالبية أسرنا ولكن ليس بهذه البربرية والهمجية التي تخيّلته، فلو أن الأب كان همجيا كما تظن لما رأيتُ هذه الفتاة مرة أخرى في المدرسة لأنه كان على أقل تقدير سيحبسها حقا في البيت، ولما وجدتَ هذه الأسرة تتنزه أسبوعيا لتتناول طعام الغداء خارج، ولما وجدت حجاب الفتاة عادي، ولما وجدت والدها يناقشها في الأمر ويبين لها وجهة نظره ويحاول إقناعه، فالآباء البربريون الهمج – وأعرف الكثير منهم – لا يفعلون ذلك أبد،
واسمح لي بأن أعترض على وصفك لهؤلاء الأئمة الكبار والذين كانت لهم أياديهم البيضاء التي لا يستطيع أحد أن ينكرها في نصرة الدين، قد تكون لهم أخطاؤهم، وهذا عادي فكل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب القبر الشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن نحوّل أخطاءهم إلى ثغرات نجيز لأنفسنا أن نتكلم عنهم بسوء بسببها فهذا ما أربأ بك يا أحمد عنه..
هل تعلم أن الشاب الذي تقدّم للفتاة والمصرعلى الزواج بها بدعوى الحب حتى ولو تحقق هذا الزواج بدون موافقة أهلها هو من صنف ذلك الأمير البحريني الذي يريد جسداً يستمتع به فقط
ولهذا فضّل الصغيرة غير المستنيرة ؟ هو من هذه الطبقة الاجتماعية التي لازالت موجودة في بلدي وللأسف بكثرة، ولهذا كان هناك الفارق في المستوى الاجتماعي الذي تحدثت عنه.. والقاعدة الشائعة هي: خذ الصغيرة وربيها على إيدك وعمرها ما بتطلع عن شورك.
والأب المجلوط يختلف كثيرا عن هذا الذي تحدثت عنه لأنه لم يرض لابنته حياة وزواجا كالتي رضيها ذالك لابنة أخيه..
ما تقوله وتصف به المجتمعات موجود ولكنه لا ينطبق على الحالة التي نحن بصددها.
أوافقك على كلامك عن أهمية إعداد الفتاة بمختلف أنواع العلوم لمهمتها في الحياة وهي : أن تكون أما وزوجة صالحة، وعلى أنه لابد من فهم القرآن لا حفظه فقط فالحفظ لا يولّد الفهم، والأهم هو حفظ القرآن بالعمل وليس باللسان فقط، والعمل لا يأتي إلا حين تتغلغل مفاهيم القرآن إلى شغاف القلوب حبا وإلى تلافيف الدماغ فهما .. عندها فقط يكون الانسان مثقفا قرآنيا
لكن المشكلة الحقة ليست بالأب ولا الأم، وإنما بالمعلمة التي تعاملت مع القضية بشكل "طبقي" بحت، ناسية أنها أرتكبت أخطاءً إجتماعية وفكرية ودينية حتى (دونما قصد) ولعلها قد عاشت كفاية بمجتمع نفطي دفعها لأن تفكر بهذه الطريقة الطبقيّة. إذن، لنتحدث يا سيدي دونما ضغائن:
لا ضغائن بإذن الله، "ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا "..
تتسائلين: "كيف أحبته؟ لأنه أخذ يكلمها بالهاتف". ربما، ولكني أستمحيك العذر بتذكيركِ أن حب الأنثى للذكر هو جزء من غريزتها السليمة، هذا إذا لم يكن عند حضرتكِ أو مجتمع العيب و الفصل الجبري بين الجنسين مانع.
نعم، الحب هو جزء من غريزة الجنسين صدقيني، وهو لا يأتي من إتصال هاتفي وإنما من غريزة. حسن، نحن لا نعلم إن كان الشاب صادقا أو كاذب، أبدى رغبته بأمر جدي أو كان لاعبا.
وكلّ هذا ليس بموضوعنا رغم أهميته، لأن تفسيرك لوجود الشاب بحياة الفتاة خاطيء، إذ أنك عللته بحرمان عاطفي، وليت شعري أتعوض أم أو صديقة عن حاجة امرأة لرجل؟ لو كنتِ تحسبين هذا، فأنصحكِ أن تعيدي تفكيرك بالأمر لأنه خطأ.
الفتاة هي رمز آخر، إستغاثة أخرى، مأساة جديدة لعمليات فرز الجنسين الأشد من بشعة والأشرس من شنيعة. إنني مازلت مشددا على أن عزل الذكور عن الإناث بالمدارس هو جريمة حقيقية، ذلك أن الذكر ينمو مع مراعاة نظرة أحادية للأنثى. أنه لا يعرفها كإنسان بل كمادة لحميّة جميلة، الأمر الذي يدفعه للتعامل معها بحيوانية.
أما الأنثى فهي لا تفهم كيف يفكر الذكر، و لا نمطية مشاعره، أو كهن تفكيره و سلم أولوياته، و إنما تراه طفلا مشاكسا أولا، ثم شابا خشن الملامح لاحقا. هذه هي العلاقة المهترئة التي يبنيها مجتمع النفط والكوكاكول، ويريدون للمرأة أن تتعرى لرجل لا تعرفه بعد زفافها له وأن تعيش معه بشكل "طبيعي"، وكذا الحال مع الرجل. هكذ، كقطيع حيوانات، يتزاوجان وينجبان ويتركان الطفل لهدى الله كي يحيا.
الواقع أن هناك أخبار محزنة للعشائريين، وهي أننا لسنا حيوانات رغم أنف داروين ونظريته السخيفة. لا، نحن بشر لنا حاجاتنا ونتطلع لتفاهم حقيقي قبل الزواج وحب وتجاذب نفسي وروحي تحت غطاء من العفة والطهر والأدب.
نعم يا بنت الفرات الغالي على قلبي، الحب أمر لا يستحق الاحتقار، والاختلاط الصحي ليس جريمة مادام بشروطه الصحيحة الإسلامية. ولا يعني هذا حوارا يوميا وعلاقات بين الشباب والبنات، بل يكفي أن ترى البنت الشاب أمامها يوميا، لتعرف أنه يعطس مثلا.. أتصدقين أنني أندهشت لسماعي لصوت زكام فتاة وهي تسحب سوائل أنفها بأول أيامي بالمدارس الأمريكية؟ كنت أظن أن سحب سوائل الأنف اللاإرادي هو من قضايا الذكور ربما. إذن، يكفي رؤية "الآخر" كي نتعلّم عنه الكثير، وليس بالضرورة إقامة علاقات ودية أو حوارات سريعة.
قلت أنها أحبته لأنها سلكت هذا الطريق، أي سمعت بإرادتها كلماته وانصتت لحديثه على الهاتف، وإلا فلماذا لم تحب كل رجل يمر بالشارع إذا كان الحب غريزة؟ أنا معك بأن الميل للجنس الآخر أمر فطري في قلب كل إنسان، ولكن ألا يحتاج هذا الميل إلى سبيل تمهد أمامه ليتطور إلى حب ؟؟
هذا ما قصدته، ولم اقصد أبداً أن أجرّم مجرد عواطفها التي في قلبها.. الطريق التي اتبعتها فقط هي الخطأ وليست المشاعر بحد ذاتها..
ثم تعليل سرعة وقوعها في حبه بالحرمان العاطفي من أهله، هذا ليس كلامي بل كلام علماء النفس والأطباء النفسيين الذين نشفت حلوقهم من كثرة ما صرخوا بالأهالي ليشبعوا أولادهم عاطفيا ليكون هؤلاء الأولاد متوازنين أمام مغريات الحياة وجواذبها الخارجية ولا يسقطوا عند أول قطرة حنان تلوح في افق حياتهم..
وأنا معك في أن الاختلاط أمر صحّي ومطلوب ولكن بضوابطه الشرعية..
ثم ماذا؟ لاحظوا التعليل المنطقي الهائل:
حاول والداها أن يبينا لها خطأ ما تفعله وأن هذا الشخص "لا يناسبهم أصلا من حيث المستوى الإجتماعي"...ألخ. نعم، هكذا حاولوا إقناعها، وهكذا رددتِ كلامهم بثقة عالية يا سيدتي التي نسبت الفرات أبا لكِ. كيف يفكر هؤلاء البشر؟ كيف يصنفون البشر لمستويات تليق بهم وأخرى لا تليق؟ لو كان سكير، زاني، أو جلادا لفهمنا، لكنه وببساطة "ليس من مستواهم" يا قوم. طبعا، هم اللذين ما توقفت أزندتهم عن القتال عن قضايا العرب والمسلمين، ودعوني أذكركم أن ذاك الجندي الذي مزّق علم الصهاينة فوق أرض سيناء كان من عائلة هذه البنت وليس مصريا، وأن والد البنت وجدها وأصدقائه من هجموا على جنين عام 1948 وحرروها من الصهاينة وليس فرقة عراقية صغيرة بمواجهة عدة فرق صهيونية. وأن حرب الاستنزاف كانت فكرة والد البنت وليس فكرة الجيش السوري إطلاقا.
أقول لكم كيف يتساوى العرب وباقي الناس مع أسرة كهذه؟ كيف يمكن لإنسان أن يواجه أرصدتهم المصرفيّة وتذاكر سفرهم السريعة وحداثة سياراتهم؟ لننسى السخرية الغاضبة للحظة واسمحي أن أسألك: هل الفقر عيب؟ هل الإنسان أقل قدرا حقا لأنه ولد بظروف قاسية وأنه فتح عينه على الكفاف الأبيّ والعيش بكرامة دون إفراط؟ هل "الفقراء" ممنوعون من السعادة؟ أتعرفين، كان الإنجليز بقرون ماضية يعتبرون الفقراء قوم تحتم قدرهم أن يكونوا فقراء، لكي يذلوا ويهانوا ويعيشون كفقراء، بينما يعيش النبلاء كنبلاء ترفين لأن هذا بلوح قدرهم.
وهكذا، فليس "لا يجب على الفقراء أن يساومون على اللحن اللذي سيرقصون عليه" كما يقول الإنجليز، بل لا يجب أن يحبون ويتزوجون وينجبون، ولو فعلوا فليذهبوا لمن هم بمثل "مستواهم" لأن الإسلام نصحنا بالطبقيّة والتعالي ورفع الأنوف. خصوصا الرجل القبلي الفكر، الذي يرى أن من ينكح ابنته، حتى لو كان زوجها، يوجه له لكمة برجولته، ولهذا يريد لموجه اللكة أن يكون بمستواه.
تماما كتفكير بعض همج الأهوار بالعراق قبل مئة سنة، إذ يرفض أخو الزوجة أن يراها قرب زوجها لأن بهذا إهانة له.... يا لسوء حالنا. أتعرفين سيدتي؟ أنا أعرف شابا فقيرا، لكنه لا يمد يده ليشحذ ولا يرتدي رث الثياب وإنما أفضلها وأجودها. يرغب بالأفضل دوما ويساعد المحتاج رغم قلة موارده، ويكافح عاملا وتلميذا لكي يحقق ما يريده لنفسه ولأسرته ولأمته ولدينه.
يمكن لهذا الشاب أن يعمل بمبلغ 6000 دولار شهريا بقناة الحرة الأمريكية، يمكنه أن يمضي مترجما للعراق (وطنه) بمبلغ 80.000 دولارا بستة أشهر، ويمكنه أن يعمل كمهرج يتدرب على التعامل معه جنود المحتل، مقابل 12000 دولار خلال شهرين فقط، والعقد قابل للتمديد. لكنه لم ولن يقبل، ويفضل أن يبقى بحالة دون الوسط بقليل على أن يكون غنيا بدم أهله.
هذا فقير نعم، ولكنه يستحق سلاما عسكريا كأي جنرال عظيم ينتصر بحرب جؤر طويلة. نعم فقير، ولكن هل سيبقى إلى الأبد فقير؟ وما هو الفقر؟ إنه حالة اقتصادية غير منتظمة، تضغط على مشاعر الإنسان وتقلقه دوما، لكن هذا يتحول لزاد يومي لا يعني شيئا لجانب كتاب عظيم أو خشوع بصلاة، ومحال أن يعني شيئا بتلاوة القرآن الجميل الرائع العذب. عم تتحدثين؟ الفقير هو ذاك الذي يضع نفسه فوق مستوى الغير لأنه صاحب مال أو لأن أبوه أو جده صاحب تأريخ أو سابقة بالمنطقة. الفقير هو من يفكر كببغاء ويدير ظهره لنور الإسلام الذي أتى بحب الإنسان لأخيه الإنسان، والذي استقدم ثورة الحرية الحقيقية والعبودية العُليا لله وحده دون العبودية لأحد سوى كلمة الله على أرضه.
هذا هو الفقر بعد أن يبتعد صاحبه عن مجد الإسلام العظيم، وهذا هو من يستحق أسفي وحزني وقلقي. سبحان رب العدالة، سبحان رب العزّة، سبحان رب المغفرة، سبحان رب المحبة. أكتب وتختضل عيني حبا لهذا الرب ولعظمته، الذي ساوانا بمنامن، بمأكلن، بحاجاتن، بألمن، بعواطفن، وبموتنا. نعم، كلنا نجوع وكلنا نعطش وكلنا نموت أخير، فقيرنا وغنينا، عبدنا وسيدن، ونتساوى أمام الله يا سيدتي. نقف صاغرين جدا على أعمالنا وجبروتن، نشاهد فيلما سريعا لغبائنا ونخجل من أنفسنا ونمتعض لطغياننا. سبحان رب العزة و سبحانه على إعجازه بخلقنا من تراب سويّ:
بسم الله الرحمن الرحيم
{و مِن آياته أنه خَلَقَكُم من تُرابٍ ثُمَ إذا أنتُم بَشَرٌ تَنشرُونَ} الروم (20)
صدق الله العليّ العظيم
أنا سعيدة حقا يا أحمد لكتابتك هذه، لأن قلبك مليء بالألم والأسى والحمد لله أن جاءت مقالتي فرصة لتفرّغ ما يضيق به صدرك، ولم اعد أعجب الآن من أنك فهمت الأمر كما فهمته، فقد أسقطت كل ما يؤلمك ويعتلج في صدرك على قصة هذا الشاب وتلك الفتاة فلم تر القصة إلا بألوان نظارتك، ولكن لا بأس فهذا مفيد جدا لك، إذ أنه الخطوة الأولى من تحريرك من كم هذا الغضب الهائل الذي يحرق قلبك..
ومن هنا أطلب منك أن تحيي صديقك هذا الذي يرفض ان يحيا حياة الترف على أشلاء أهله..
بارك الله به وأكثر من الشرفاء من أمثاله..
وأعود لأقول: الأمر ليس أبداً كما فهته.. فالشاب المتقدم للفتاة ليس فقير، بل هو من ذوي الأوضاع المادية المرتاحة، ولكن الفارق في الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي لاترى في المرأة إلا... أنت تعرف البقية!
فالتفاوت في الطبقات الاجتماعية ليس هو التفاوت في المستوى المادي من فقر وغنى.. وقد تمّت حالة شهدتها أنا وهي حالة زواج فتاة من شاب متفاوتين مادياً ولكنهما متقاربان اجتماعيا.. ستقرؤها في هذا العرس مجنون جدا
إذا كنت سفيرة الإسلام فالطريق أمامكِ واضح: هذا ملح أجاج وذاك عذبٌ فرات. أسلكي فرات القول وطيبه، وتذكري إن دين الإسلام هو أقوى ثورة عدالة بهذا الكوكب ومنذ البداية، وأنه ما من فيلسوف أو منظّر أو باحث إلا وتوصل لكمال هذا الدين بعد غربلته مما ألحق به من زيادات.
أسأل الله أن يجعلني من خيرة ممثلي الإسلام وأن يلهمني سداد القول وصوابه، وأن يتقبل مني.. آمين
نعم، الفتاة صغيرة فعلا على الزواج وربما لن تفهم شروط الزوج الذي تطمح به، لكنما الرفض بهذا الشكل خاطئ، ثم لماذا لا يقبل الأهل بخطبة الشاب لأبنتهم لكي يتم التعارف بحضورهم؟ ولو كانت البنت على خطأ فإن الزمن سيكشف حقيقة العلاقة. ولماذا لا تطول الخطوبة سنة أو إثنتين لثبات المشاعر ولنضج الشابين ولتأكدهما من مشاعرهم، ثم العمل على تزويجهما؟
لأن الأهل أصلا عرفوا أنه لن يصلح زوجاً يأتمنونه على ابنتهم، فالدين قد أوصى بمن بقبول من نرضى دينه وخلقه، وخُلُق هذا الشاب مرفوض، يكفي يا أحمد انه لم يحترم رغبة أهلها حين ردوه رداً جميلا من الباب، فحاول الدخول من الشباك، والله تعالى يقول: "ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها " أليس كذلك ؟؟
هل سنبقى نعاني من الشذوذ الجنسي بين الجنسين وركوب المخاطئ؟ لماذا لا نتبع حل المجتمع العراقي بتزوج العاشقين بمجرد بلوغهما آخر مرحلة ثانوية أو بأول مرحلة جامعية، ومنع الحمل بواسطة معدات خاصة حتى التخرج وعيش الزوجين ببيت واحد بدلا من بيت أهليهما واللقاء أسبوعيا أو يوميا بساعة انفراد؟ هكذا يرتاح الشاب والشابة من جانب القلق العاطفي والجنسي ويتفرغ لدراسته.
رائع جدا أن يكون مجتمع من مجتمعاتنا العربية قد أوجد حلا لمشكلة تأخر الزواج وعلى هذه الصورة، وهذا ما ينادي به العقلاء في كل مجتمع لتدارك الكوارث التي تنشأ من جراء أوضاعنا المقلوبة ولكن نقلة مجتمع بكامله تحتاج إلى جهود متواصلة وعلى فترة ليست قصيرة من الزمن لتحقق نتيجة معقولة،
أما كان هذا الحل أفضل للجميع؟ أما كانت البنت نضجت خلال خطبتها وتأكدت من مشاعرها؟ أما كان الشاب قد أستقر مع حبيبته وعاش معها بكنف الزوجية والمبيت معها ليلة أو أكثر بكل أسبوع؟ و لماذا لم يتكلم والد الفتاة مع الشاب ويفهم حقيقة أمره وينصحه كابن له بكل المقتضيات؟
أترين؟ النشأة بالمكان تؤثر على التفكير يا سيدتي، وأنا لا أزعم أن هذا الوعي عند أغلب أهل وادي الرافدين فقط، بل هو عند كل شعب عاش حضارة حقيقية وتجربة اجتماعية قياسها قرون مديدة. لعلك غاضبة مني الآن، للهجتي المستاءة أو لسخريتي من سكان الخليج العربي، ولعل الأخوة والأخوات من الخليج غاضبون كذلك، لكنما هي غضبة حرصي عليهم وغضبي على وضعهم.
لأنني أعلم جيدا أن النهضة ممكنة بين أكبر عدد منهم، ولكن أولا علينا أن ننور المجتمعات بنور الإسلام الحق، بكلمة العقل الإسلامي، وليست بكلمة القبلية ولا ثقافة عصور هامشية حتى على تأريخ الخليج العربي المعروف بتخريجه لعقول إسلامية فذة بعصور الإسلام الثماني الأولى. ولنتذكر أن هذه الأوضاع وليدة أخطاء الحكومة بتقصيرها بالتثقيف، وبجهود الاستعمار ببث القصور الديني وحقيقة تواجده بالحياة، وهي مشكلة بكل بلد عربي رغم تغير مفصلياتها. ووجود هذا القصور كحالة غالبة بالخليج لا ينفي وجود عوائل متدينة بثقافة إسلامية رائعة، وشباب مؤمن وفتيات متدينات وذوات شخصيات عصفورية بريئة.
لست غاضبة منك لهذه اللهجة المستاءة من الأوضاع الخاطئة، فكلنا يا أحمد مستاؤون منه، ولكن قد نختلف في طريقة التغيير فمنّا من يفضل طريقة التقويم "بالعافية" لأنه يجدها أسرع، ومنا من يفضل طريقة التغيير الهادئ اللين ويجدها أرسخ.. وأسأل الله أن يلهمنا الصواب ويوفقنا إلى ما فيه خيرنا وخير بلادنا.. آمين .
هذا وشكر خاص لابنة فراتنا الجميل و... حبابة ماكو زعل بيناتنا إنشا الله، و ترا آني ماين عَليج هلّي أحجي هيج.
شكرا للقرّاء على وقتهم
وأنا بدوري أشكرك ثانية على اقتطاعك من وقت دراستك ورياضتك لتكتب وتشارك، فجزاك الله كل خير ووفقك في دراستك وأقرّ عينك في الدنيا والآخرة، وطبعا ماكو زعل بيناتنا إن شاالله، وبتمون يا احمد إنك تحكي معي هيك.. وأكتر من هيك..
وبانتظار مشاركاتك دائماً..
واقرأ أيضاً:
مازلتُ أذكركِ.. / مذكرات العراقي الشريد: أنا و ليلى / كفرتُ / إلى من تعلم... / الثاني من ماي.. عيد ميلادها / كراهية / عندما تتحطم الأحلام / تتهاوى أوراقي