ضمن برنامج التراث الشعبي الذي أقامته جمعية مصر للثقافة والحوار تلقيت دعوة كريمة منهم للتعليق على فيلم قديم نسبيا يتناول مسالة السحر والشعوذة، وكنت قد شاهدت الفيلم منفردا، ولم أجد قيمة فنية أو إخراجا تقنيا عاليا، ولكن أعجبني أن أرى فيه مصر"نهاية السبعينات، وبداية الثمانينات"، من مكونات اجتماعية، وأنماط ومشكلات، وهو واقع عشته بوعي أقل لأنني كنت أصغر، وأرى دائما أن السينما قد صارت "ديوان الحياة" كما كان العرب يقولون قديما:" الشعر ديوان العرب" فكثير من الأحداث والقضايا والأفكار طرحته السينما للنقاش بشكل قد نتفق أو نختلف مع صورته أو نتائجه، ولكننا ينبغي أن نستثمر هذا الوسيط، وطريقته الجذابة في العرض والتناول، لتكون مدخلا للنقاش حول قضايانا وحياتنا، وهكذا فعلت الجمعية بعرضها هذا الفيلم لمناقشة القضية.
وكنا قد ناقشنا كثيرا في مجلس المستشارين موضوع الخرافة والتفكير الخرافي، وشيوع التخاريف والقصص العجيبة والتفسيرات غير العلمية ولا المنطقية للظواهر المرضية أو الاجتماعية أو حتى الحوادث الإجرامية.
ومؤخرا خصصت مجلة " الفكر العربي " الشهرية ملفا في عددها الأخير الذي في الأسواق عن "الفكر العربي والخرافة"، وأعتقد أن هذا العنوان، وتلك الظاهرة هي من أهم ما ينبغي أن ننشغل به لأن العقل السقيم، والإيمان السقيم، والمجتمع الذي تحكمه المشاعر المشوشة وقصص أمنا الغولة، ولا يتجه إلى تبديد غموض الجهل بأنوار المعرفة المنهجية العلمية، بمصادرها سواءا من الدين الصحيح أو الأساليب التجريبية المتعارف عليها، هذا المجتمع هو صيد ثمين لأي عدو أو حتى لأي مرض أو أزمة أو فتنة تنشأ على أثر حكاية أو شائعة من قبيل ما يحصل وتتبادله الألسنة أحيانا، والتربة خصبة وجاهزة للاشتعال والانفجار للأسف الشديد.
أنا مفزوع أن تنتشر هذه الأفكار في مجتمعاتنا التي تقول بأنها متمسكة بالإسلام الذي إنما جاء أساسا لإيقاظ العقل وتبديد الجهل والخرافة وتحرير الإنسان من الأوهام والسلطات فلا يكون عبدا ولا منساقا ولا سيرا إلا للحرية والعدل والسؤال العلمي، وهذا معنى من معاني: لا إله إلا الله، والذي يحدث لأن من شيوع اللجوء إلى الدجل والسحر وتسخير الجن إنما يعكس خللا عميقا وأزمة كبيرة، ويلزم أن يتصدى لها الداعون إلى الخير، وكل من يريد صلاحا لهذه المجتمعات المسكينة التي نعيش ضمن أهلها وحركتها، وهذا التصدي لابد أن يكون بصحيح الدين الذي يساء استخدام بعض نصوصه أو يساء فهمها أو نسب إلى الدين ما ليس منه كذبا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
الالتباس كبير والتشويش واسع، وفي الندوة قامت دكتورة في علم الاجتماع ترد على ما ظنت أنه موقفي من القضية بوصفي أنكر وجود الجن أو علاقته بالحياة الإنسانية، وما إلى هذا قصدت، ولكنني أنكرت التوسع في نسبة كل الظواهر سواءا المرضية الفردية أو الحوادث مثل الحرائق وغيرها إلى الجن كما يحدث كثيرا!!! ومن خبرتي أن هذه الأشياء أصبحت مشجبا أو شماعة جاهزة لتعليق كل قصور حياتنا بنواحيه المتنوعة، فكل فشل في نظامنا الطبي أو تفاهمنا الأسري أو فهمنا لأجسادنا أو للصحة والأمراض، وكل إهمال حكومي أو طغيان من حاكم أو مدير أو سوء تقدير في أية ناحية من نواحي حياتنا صارت قابلة للتأويل بوصفها صادرة من قوى غيبية، فما العمل في أمة فاشلة في عالم الشهادة مرتحلة منه هاربة إلى تسكين مخاوفها وقلقها وشعورها بالعجز، ومن لزوم إصلاح حياتها... هاربة غلى الغيب والمجهول؟!!
ويتبع >>>>: على باب الله: التعويذة مشاركة
*اقرأ أيضاً:
على باب الله: عائد من استانبول / على باب الله: (أحداث كنيسة الإسكندرية) / على باب الله: رمضان العهد والوفاء / على باب الله: عن العسكرة والأقدمية