قرأت تعويذة أستاذي الدكتور الكريم أحمد عبد الله، فتعقيب أختي الفاضلة لمى عبد الله عليها، فاستفزني ذلك إلى التعليق على فكرة الموازنة بين عالم الغيب والشهادة والتي سبق تناولها بأكثر من صيغة في (مجانين)..
أعتقد أن الطروحات الموجودة في الموازنة لم تخرج عن كونها ردة فعل، يؤكد على جانب الشهادة ويحجم جانب الغيب تحجيما يوهم البعض بأنه دعوة للإلغاء كما ذكر الدكتور أحمد عن أستاذة علم الاجتماع في تعويذته..
إذن: ما الطرح الذي أرتئيه موازنا كما تعلمته وفقا لقواعد الشريعة؟
نحفظ من صغرنا هذه القاعدة العقدية – إن صح التعبير -: كل ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي..
هذه القاعدة منخرمة باختلافات العلماء في مسائل كثيرة منها هل تثبت للولي كرامة إحياء الموتى – بإذن الله – مثلا؟
ولست بصدد الخوض في تفصيلات الخلاف بين العلماء في هذه المسائل.. لكن الفكرة الرئيسية التي أود أن أخلص إليها هي: أن هناك طائفة كبيرة من العلماء تثبت خرق العادة بإذن الله لمن شاء من عباده.. وعليه فإني أرى في إقصاء هذا القول تطرفا في تناول هذه المسألة (الموازنة بين عالم الغيب و عالم الشهادة ) هو تطرف مضاد للتطرف في التعلق بها تعلقا مندفعا غير منضبط بالضوابط التي لا تصح إلا بها..
ما هي هذه الضوابط؟
سأذكر ما يحضرني منها في هذه السطور المتعجلة:
من ذلك ما ذكره الإمام الشاطبي في الموافقات أن نسبة الكرامات لا سيما المتعلقة منها بعالم الغيب، والتنبؤ به، هي نسبة ظنية، بمعنى أن لا عصمة في التلقي عن الله تعالى إلا بالوحي، والإلهام ليس وحيا..
وعليه فإن سمعنا من أحد الصالحين توجيها ما ، فلا نأخذ به على سبيل القطع بحصول نتائجه، هذا كله مع إثبات حسن الظن بالله وبعباده الصالحين..
ويترتب على ذلك أن لا يترك المرء الأخذ بالأسباب العادية التي أمر الله بالأخذ بها، فيعطل عقله، تبعا لإشارة من رجل صالح قد لا يكون السائل قد فهمها على وجهها، أو قد يكون الرجل الصالح لم يستبن له الأمر بجميع جوانبه، إذ لم تستكمل له أدوات الحكمة جميعها، ويحضرني في هذا المقام ما نسب إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه:
إن من شيوخي من أستسقي الله به، ولا أقبل له حديثا.
وفي السياق ذاته تأتي مسألة التعلق بخرق العادة، وجعلها أساسا يقيم به دين الشخص وصلاحه وأهليته لأمور الدين أو الدنيا، وما أجمل ما قاله ابن عطاء الله السكندري في حكمه:(ليس كل من ثبت تخصيصه كمل تخليصه)، يقول الشيخ سعيد حوى رحمه الله في (مذكرات في منازل الصديقين والربانيين ): قد يعطي الله إنسانا خصوصية لكن خصوصيته تؤهله لأن يكون في موقع معين فإذا تجاوزنا به هذا الموقع لا نكون قد عرفنا الحكمة الإلهية، ولا عرفنا الحكم الشرعي.
ومن جميل ما سمعت من الشيخ الجليل، والعالم الكبير، الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي حفظه الله –في أحد البرامج الدينية في قناة الشارقة الفضائية: قوله تعليقا على سؤال وجه إليه عن كرامات أحد علماء سوريا المشتهرين بالتصوف والذي توفي قبل خمسين سنة تقريبا.. قال الشيخ البوطي: ما تتحدث عنه من كرامة إحياء الموتى بإذن الله، لا يصح نسبتها إلى الشيخ، إذ لو صحت لتناقلتها وكالات الأنباء، وأجهزة الإعلام، لان حدثا كهذا لا يمكن أن يخفى، فليعمل الإنسان عقله، ولا ينساق وراء مثل هذه الأمور، التي لا طائل عملي من ورائها أو كما قال...
فالشيخ البوطي في خطابه هذا أيقظ عقل السائل، وحفز همته، إلى أمرين مهمين: أحدهما: التثبت في النقل، والثاني: هو الالتفات لما هو أجدى للإنسان من القيام بالحقوق الواجبة عليه
و لا يخرج تعامل البعض مع الرؤى عن هذا المنحى المتذبذب بين عالمي الغيب والشهادة..
إذ يجعلون الرؤى الصالحة قول فصل في موضوع ما قد يكون مصيريا، غافلين عن أن الرؤى ظنية، وتفسيرها ظني، وهي إنما يستأنس بها بعد أن يدرس المرء ظروفه، ويقدر الأصلح له..
ولذلك نجد أن البعض يتلفظ بعبارات.. مثل قد رأيت رؤيا في هذا الأمر، وأخذت بما تشير به فلم أوفق، وتحمل كلماته سخطا وتشككا قد أفضى به إليهما المنهج المشوش لفهم علاقة المسلم بعالم الغيب..
يغيب عنه كما ذكرنا آنفا ظنية الرؤى، إذ تحتمل كونها من الله أو من تلبيسات النفس، ولو كانت الرؤيا لسيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم – وفي ذلك تفصيل ذكره الإمام القرافي في الفروق –..
كما يغيب عنه أن تفسير الرؤى ظني أيضا، إذ أن الإشارة قد تفهم بأكثر من معنى بحسب المفسّر..
كما يغيب عنه معنى أكثر خطرا، وهو أن الخير قد يكون في ابتلائه بضيق العيش، أو الطلاق إن كان الأمر زواجا ، أو التعثر إن كان أخذا للعلم، والله بهذا كله يريد أن يحط عنه بعض خطاياه أو يقربه إليه، أو له حكمة لا يعلمها إلا اللطيف الخبير، الذي هو بعدله لطيف خبير، وبفضله لطيف خبير، فسبحان من بيده الأمر كله..
ولازالت هذه القضية تحتاج لمزيد بسط، وتأمل، وتبصير لأنفسنا والناس بجوانبها، والله الهادي إلى سواء السبيل..
حرر في:
ليلة الأحد : 21/8/2005
واقرأ أيضاً:
إلى بثينة كامل .. من وحي سطورك / للنساء فقط .. في سطور