حوار مع أ.د أحمد عكاشة(1)
كيف تقيم المؤتمر العالمي الذي عقد في القاهرة مؤخرا ؟
- مؤتمر القاهرة كان هو أكبر حدث علمي وطبي دولي في تاريخ مصر حيث اجتمع أكثر من 5500 طبيب وطبيبة من 119 دولة منهم 15 دولة إفريقية ألقوا واستمعوا لأكثر من 3500 بحث ومحاضرة وورشة عمل في حوالي 250 جلسة، وضم المؤتمر نخبة من كبار أساتذة التخصص كما شمل تنوعا كبيرا في الحضور فمن منغوليا ويعمل فيها كلها خمسة أطباء نفسانيين حضر منهم اثنان ومن الحبشة حضر منهم ثمانية عن عشرة، ومن الهند حضر 360 ومن أمريكا حضر مائتان، وامتلأت القاعة حتى آخر جلسة في آخر يوم على خلاف المعتاد في مثل هذه المنتديات.
حضر المؤتمر حوالي 670 طبيبا وطبيبة نفسانية من مصر وأكثر من العدد جاءوا من كل الدول العربية واشتركوا وحاضروا وناقشوا زملاءهم من كل العالم وهنا أعتب على الزملاء الذين لم يروا في هذا الحدث غير دعاية شركات الأدوية التي أصبحت بالفعل واقعا كبيرا تكاد نسبة كبيرة من الأبحاث تصل إلى 70 % تعتمد على تمويلها وفي أي مجتمع نحتاج إلى بحث علمي ويحتاج البحث إلى ميزانيات ضخمة،ـ لا تغطيها الحكومات وحدها، ثم تطمح الشركات إلى استرداد ما أنفقته في الأبحاث برفع سعر الدواء بشكل مبالغ فيه غالبا، وبخاصة بالنسبة للدول الفقيرة، وإن كان يظل للطبيب اختياره في أن يصف للمريض ما يناسبه من الدواء سعرا وأثرا، وبعض البلدان الفقيرة تنتج نفس الأدوية الحديثة ولكن بأسعار في متناول الجميع.
تدخل في الحوار هنا أستاذنا محمد شوقي العقباوي قائلا: من المفهوم والمتوقع أن تكون الأبحاث العلمية الممولة التي تنتجها كل شركة تمول بحثا، ولكن هذا واقع يدفعنا إلى سؤال هو: ما العمل؟ وما البديل؟
والدكتور عكاشة أكمل حديثه: من حق الشركات أن تكسب ولكن أيضا ليس على حساب نزاهة الطبيب، ولا حقوق المريض، والتقدير يظل متروكا لنا نحن الأطباء في أن نعتقد الصواب، ونختار المناسب حسب حالة كل مريض وهذا حاصل في كل الأمراض العضوية أيضا ويؤسفني أن أقول أن التعامل مع هذا الواقع بمقاطعة المؤتمرات التي تجمع المتخصصين هو نوع من التعالي الذي يضر حين يحول بين الطبيب وبين معرفة أحدث ما يجري، وآخر ما وصلت إليه الأبحاث والأدوية وفي ميثاق مدريد لأخلاق ممارسة الطب النفسي فإن حضور المؤتمرات واللقاءات البحثية هو من أهم مصادر تكوين الطبيب المتخصص ورفع كفاءته وأعتقد أن هذا ما حدث على نطاق واسع في مؤتمر القاهرة رغم وجود بل وبتمويل عدد كبير من شركات الأدوية في دفع اشتراكات المشاركة للأطباء من الدول الفقيرة، ومنها مصر.
وماذا عن مساهماتكم العلمية في المؤتمر؟
في محاضرتي الافتتاحية تناولت إسهامات الفراعنة في علاج الأمراض النفسية وهو ما سبق به أجدادنا في مخطوطاتهم وممارساتهم "أبقراط" بعشرة قرون على الأقل، في مصر الفرعونية لم تكن هناك وصمة مرض نفسي، وهم ربطوا بين النفس والقلب وحالة المشاعر وأضفت حديثا عن إسهامات علماء العرب والمسلمين وهو مذهل بكل المقاييس على مستوى التنظير والعلاج فأول مستشفى نفسي كان في "بغداد" ثم مستشفى آخر في حلب ثم القاهرة ولهؤلاء العلماء كلام نفيس في التشخيص والعلاج كان يعتبر إنجازا غير مسبوق في عصرهم وانظر مثلا لكلام ابن خلدون عن الربط بين النفسي والاجتماعي حين يقول ما معناه: أن اختلاط عرب البدو القادمين من الجزيرة وما حولها بالحضارات الكبرى في بلاد فارس والروم أحدث أعراضا نفسية وعقلية سلبية، عجز معها هؤلاء الفاتحين عن امتصاص التمدن بمرونة واتساع أفق، وأن هذه الصدمة الثقافية والحضارية تكمن وراء تدهور الحضارة العربية والإسلامية في مجملها.
- وهذا التحليل أدهش الزملاء الأجانب في عمقه وسبقه، وفي مصر ومنذ ستة قرون كان الأطباء يعالجون الاكتئاب بالمعاملة، الطيبة ومفرحات النفوس مضادات الاكتئاب وفي إطار إعادة تأهيل المريض كان يحصل عند خروجه من المستشفى على "حفن من الذهب" كمنحة من أمير البلاد واليوم فإن أكثر من 70 % من مرضانا نجد أنهم سبق لهم قبلنا أن حصلوا على وصفات شعبية أو علاجات تقليدية تضرهم غالبا أكثر مما تعالجهم !!
- نحن نكاد نحتقر العلم والمعرفة العلمية ونعيش كما كان يقول الراحل د.يوسف إدريس فقر الفكر وفكر الفقر والمصريون يعيشون في حالة من اللامبالاة الوجدانية والمعرفية، والصحة النفسية ليست مجرد الخلو من المرض بل هي التكيف مع البيئة المحيطة والإنجاز وجودة العمل والعطاء، وطبقا لهذه المعايير فإنه من النادر أن تجد مصريا بصحة نفسية جيدة إلا إذا كان متجمد العاطفة لا يشعر بما نعيشه من ضغوط.
- وحالة الصحة النفسية في مصر لا تقاس بعدد الأسرّة في المستشفيات لأن أغلب المرضى لا يدخلون أو لا تستدعي حالتهم دخول المستشفى، الأخطر هو غياب الوعي بالمرض النفسي وضعف تدريب الممارس للطب في مجال المعرفة بالأمراض والأعراض النفسية وهو أول من يرى المريض والنتيجة هي سوء التشخيص والعلاج لأغلبية من يعانون نفسيا.
- أضف إلى ذلك تركيز خدمات الصحة النفسية في القاهرة وما حولها واستمرار الوصمة التي تدمغ المرض والمريض النفسي عندنا والصورة السلبية التي ترسمها له الصحافة والإعلام بشكل عام رغم كل الجهود التي نبذلها لإزالة هذه الوصمة.
نقلا عن جريدة الدستور عدد الأربعاء 5/10/2005
ويتبع >>>>>>>: حوار مع أ.د أحمد عكاشة(3)
*اقرأ أيضاً:
على باب الله: عن العسكرة والأقدمية/ على باب الله التعويذة/ على باب الله: الأصل والواقع/ على باب الله الحوار/ على باب الله جواز سفر/ على باب الله: الطريق إلى بودابست/ على باب الله بودابست/ على باب الله: وداعا بودابست/ على باب الله: بنية وبيئة