بعد العاشرة ليلاً، انتهت أعمالنا وهنأ بعضنا بسلامتنا بسبب كثرة عمليات السطو والقتل على المحال التجارية، وتحدث كلاً منا عن عمله بالمتجر الذي يديره ونحن ماضون لتمرين رفع الحديد بالصالة، وما إن ننتهي بعد ساعتين حتى نسبح و نستحم، لنمضي لمقهى عربي اسمه "ياسمين" لتدخين النارجيلة. أتصل بوالدتي لأطمئنها أنني بخير، فتمضي لنومها (حفظها الله لي) لتستيقظ فور فتحي للباب وتحاول أن تعد الطعام، رغم قسمي لها بأنني أكاد أنفجر شبعًا. "أكل المطاعم ميشبّع يمّه" هكذا تقول.
أربعة نحن، رجالاً من ثلاث دول عربية، اجتمعنا بمقهى عربي في مدينة بالجنوب الأمريكي لنستمع لأم كلثوم وكلاً منا يتذكر شيئًا، أما القاسم المشترك فهو دخان النراجيل الذي يتصاعد من صدورنا بهدوء وأفكار ضائعة. أسمع أم كلثوم تنشد بأغنية "فات المعاد":
ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة
أو بنظرة حب أو كلمة ملامة
بس أنا نسيت الابتسامة زي ما نسيت الألم
والزمن بينسي فرح وحزن ياما
إن كان على الحب القديم
إن كان على الجرح الأليم
ستاير النسيان
نزلت بقالها زمان
وإن كان على الحب الأليم وأساه
أنا نسيتو أنا، يا ريت أنتا كمان تنساه
تفيد بإيه يا ندم يا ندم وتعمل إيه يا عتاب
طالت ليالي الألم وتفرقوا الأحباب
ويصفق الجمهور بعنف وحرارة، ويهتف رامي (المصري) محيّيا كوكب الشرق، بينما يرمقني فادي بعينيه السوريتين ليرى ضياعي مع اللحن والماضي، ويبدأ بمهاجمة ذكرى المرأة، متحديًا سكون عمرو الذي عاد لتذكر "ريم" التي تحدث عنها حتى حفظنا كل قصتهما معا. أهتف الله .. الله عندما يبدأ مطلع الجزء الثاني من الأغنية، بينما يسحب فادي (وهو المدخن الوحيد فعلاً بيننا) الدخان بلؤم ويشتم ذكرى المرأة: النساء ضعفٌ يا بقر. فادي لم يحب قبلاً، لذا هو لا يعرف مرارة الذكرى، ولكنه كان يحسدنا بأعماقه. قلت له، وأنا أخاطب الآخرَين من خلاله:
فكر، واترك السعال يأخذ حقه منك، فأجمل ما يمكن فعله هو تحدي الواقع والعودة للماضي لاختطاف الحبيبة، حملها بين الذراعين وتمزيق شفتيها بقبلة حارة و عميقة و شديدة الثقل، حتى أنك لتفرغ روحك بداخلها عبر شفتيها. اختطفها واحتقر كل التقاليد، فهم أخذوها عنك كزوجة لغيرك، فهل يسلبونك الحلم البسيط بها؟ خذها لمكان جميل وتمسّك بيدها كي لا تغيب عنك لحظة، وحدثها عن كل شيء كأنك طفل، وكل بضعة ثواني ضمها لصدرك كي تتأكد أنها معك فعلاً وأنها لم تغب.
حدثها أن العالم كله يفيض روعة بسببها، وأنك لن تتركها إلا جثة. تأمل قميصها الرقيق الذي يكشف عن ذراعيها، بتنورتها الطويلة المغرية، وبحذائها المربوط حتى كاحليها. شعرها معقود لخلف أذنيها، وعنقها يلتمع تحت القمر، لتضيف عليه قلادتها الفضية لمعة زرقاء تنعكس كمصباحين فوق عينيها الواسعتين. عش معها كما تريد، أفعل ما شئت، فلا قانون ولا دين ولا تقاليد ولا جهنم نفسها تمنعك -أو يجب- من أن تحب حبيبتك بحلُمك.
أعد الماضي السعيد بأدق تفاصيله، رتبه، نمقه، ثم عشه من جديد مع رشفات النارجيلة وتبسم كأبله عندما تذكر محاورة حُلوة بينكما، أو مشاكسة ومناغشة تنتهي برغبة عميقة لكليكما بالعناق. عش حياتك كما تريد، لا كما يريد لك الزمن لأنه لا يخبئ سوى الألم.
وهنا تصدح كوكب الشرق:
الليل ودقة الساعات
تصحي الليل
الليـــل الليــل
وحرقة الآهات بعزّ الليل
وقسوة التنهيد
والوحدة والتسهيد
لسه ماهماش بعيد
وعايزنا نرجع زي زمان
قل للزمان إرجع يا زمان
وهاتلي قلب لا ذاب ولا حب
ولا أنجرح ولا شاف حرمان
تفيد بإيه يا ندم
وتعمل إيه يعتاب
وتدور الكرة الأرضية بلامبالاة بسهرتنا العزباء المريرة، أما نحن فصامتين و الدخان يخفينا كأنه زوبعة مشحونة بالأحزان و الذكريات ومحادثات قصيرة و عصبية؛ لغة طيور مهاجرة، تنظر إلى الشرق، إلى حبيبات جميلات، إلى مدارس هجرناها، إلى ذكريات أنهى الزمن كل ما يمت لها بأرض الواقع. كلما ذكرنا مبنى أو معلم بمدينة، يجيب الآخر: لقد هدموه، لقد رمموه، لقد أحترق، فجرته قذيفة.. الخ.. الخ. كأن الوطن لا يحرمنا من الحب، وإنما يحرمنا من ذكرياتنا الأخرى حتى. أخيرا تختتم أم كلثوم أغنيتها ليلتنا بصوتها الحنان:
من ناري من طول لياليّا
وفرحــة العُزّال فيّا
من قسوتك وانت حبيبي
وقسوة الدنيا عليّا
بيني وبينك هجر وغدر
وجرح بقلبي جنيــتو ... آه (كم أحب آهتها الصادقة)
بيني و بينك ليل وفراق
وطريق إنت اللي بديتو
تفيد بإيــه يا ندم يا ندم
وتعمل إيــة ياعتاب
وتستمر الأغنية حتى النهاية القليلة من إعادة المطلع الحزين، ولننهض ونعد أنفسنا بجلسة حزينة أخرى
واقرأ أيضا:
أنا وأنت/ تتهاوى أوراقي/ ذكريات ومشاهد من الحرب/ ذكريات / انفصام/ إذا غيرت رأيك/ هل تذكر يا حبيب ؟!!../ الحياة على لوحة زيت/ السكوت من ذهب/ الوصية الأخيرة/ أمواج ولا شاطئ/ رحيل / لبنان... المقاومة...