عاد من الخليج بعد ستة شهور من سفره الذي كان يحلم به وذلك بسبب أعراض داهمته وكانت أشبه بحالة موت (ضيق تنفس وضربات قلب سريعة وتنميل بالأطراف وفقد التوازن)، وباع ما تبقى من أشياء في بيته قاصدا طبيبا نفسيا مشهورا "جدا" بعد أن حار أطباء القلب والصدر في علاجه وبعد أن قال له أحدهم (بعد 4 سنوات من الفحوصات والعلاجات): "إنت عندك حالة نفسية". واقرأ من على مجانين :دوامة الهلع : أين حقوق المريض العربي.
ووصل إلى عيادة الطبيب المشهور "جدا" والذي رآه في التليفزيون مرات لا تحصى بابتسامته الهادئة المطمئنة ووجهه الحنون وكلامه العذب الذي يريح النفس ويشبعه، وفي الحقيقة لقد بدأ الكشف قبل ذهابه إلى العيادة فمنذ أن عرف أن "حالته نفسية" أحس بالكثير من الراحة (وكأنه رسي على بر)، وهو يتخيل نفسه نائما على الأريكة أو على الأقل جالسا أمام الطبيب (الطيب، السمح، الصبور) يحكي له ما تعرض له من ظلم وسحق وإهانات وإهمال ورفض طوال حياته المليئة بالشقاء والمعاناة في مجتمع فقد ما كان يتميز به من الطيبة والسماحة، ويتخيل تفهم الطبيب وتقبله وحنانه وهو يستقبله وإشفاقه وتعاطفه وهو يسمع كل هذا.
وحين وصل إلى العيادة وجدها مزدحمة "جدا "، وكان رقمه 50، فأشفق على الطبيب "جدا "، إذ كيف يستمع ويشفق ويحنو على كل هذا العدد يومي، ولكنه مع ذلك لم يفقد الأمل في قدرة الطبيب على هذا فإنها مهنته وهو أدرى بها. وحين جاء دوره بعد منتصف الليل شعر بدقات قلبه تتسارع فها هو الآن على عتبة ملاك الرحمة يلقي إليه بكل متاعبه وهمومه، وفعلا حين دخل عليه استقبله بابتسامة طيبة رغم ما كان يبدو عليه من إرهاق شديد ورغبة في النوم لا يستطيع أن يخفيها وكان يكشفها تثاؤبه المتكرر، ومع هذا بدأ يسأله عن شكواه ويستعجله كلما دخل في التفاصيل، وبعد حوالي خمس دقائق كتب الطبيب "جدا" شيئا في ورقة صغيرة وأعطاه إياها ووقف وأشار له إلى باب آخر غير الذي دخل منه؛؛
وهنا استراح صاحبنا فها قد حانت اللحظة التي سيدخل فيها إلى غرفة التحليل النفسي التي يقول فيها ما يريد، ولكنه اكتشف حين فتح الباب أنه أصبح خارج العيادة وأن ما أخذه هو روشتة العلاج، وحين نزل إلى الشارع أخذ يضرب كفا بكف، ويقول لنفسه بصوت مسموع: " أي علاج وأي روشتة ؟، لقد أخذت علاجات كثيرة وروشتات لا تحصى، أين الأريكة وأين الفضفضة وأين بث الهموم، أين النظرة التليفزيونية الحانية أين اللمسة الأبوية ؟.... إلى من أذهب بعد ذلك؟. ومن هذه اللحظ بدأ رحلته مع المشايخ فضربوه ليخرجوا الجن من جسده.... ولما شبع ضربا ويأسا ذهب إلى الدجالين والسحرة والمشعوذين.
هذا السيناريو يتكرر يوميا والسبب هو اعتقاد رسخ في أذهان عدد كبير من الأطباء النفسيين (في مصر المحروسة والعالم العربي السعيد) بأن الطبيب النفسي وظيفته –فقط- معرفة أعراض المرض وكتابة الدواء، وأنه –كطبيب– ليس له أية علاقة بمشكلات المريض (أو المريضة) النفسية أو الاجتماعية أو المهنية، وإذا أراد المريض أن يتحدث في ذلك فعليه أن يذهب إلى مكاتب الاستشارات النفسية (وهي بالمناسبة ليست موجودة في بلادنا).
هذا المفهوم يردده أطباء مشاهير "جدا" رغم أنهم يدرسون لتلاميذهم كتب الطب النفسي التي تحوي أبوابا كاملة ومفصلة في العلاج النفسي الفردي والجمعي والسلوكي، والعلاج الزواجي والعلاج العائلي، والعلاج التأهيلي، وعلاج المشكلات الجنسية، وكل هذه الأنواع من العلاجات لا تتضمن استخدام دواء، إذن فما الداعي لتدريس هذه الأبواب أو لوجودها أصلا في مراجع الطب النفسي المحلية والعالمية إذا كان الطبيب النفسي لن يستخدمها أو يمارسها في عمله.
وإذا كان الطبيب النفسي مختصا فقط بالعلاج الدوائي (دون الطمأنة والتقبل والدعم والتفسير وتصحيح أخطاء الإدراك والتفكير والمساعد على النمو)، إذن فما الداعي لأن يكون الطب النفسي تخصصا مستقلا يقضى فيه الدارس كل هذه السنوات الطويلة في التدريب واكتساب المهارات العلاجية والمعاناة، خاصة وأن الجزء الخاص بالعلاج الدوائي لا يحتل في الكتب الطبية سوى مساحة ضئيلة يستطيع الطبيب الباطني أو طبيب المخ والأعصاب قراءتها في عدة ساعات ويصبح بالتالي مؤهلا لعلاج المرضى النفسيين طالما أن الموضوع اقتصر على معرفة الأعراض ووصف الدواء؟
وقد كنت أعمل فى فترة من حياتي فى أحد مستشفيات علاج الإدمان في منطقة الخليج وكان فريق العمل متعدد الجنسيات، وفلسفة العلاج تقوم على فكر تعدد المستويات وهى فكرة قائمة على تعريف منظمة الصحة العالمية للصحة النفسية بأنها "حالة التعافي على المستوى الجسدي والنفسي والاجتماعي والروحي"، ونظرا لطبيعة المرضى الذين نتعامل معهم كان العلاج الدوائي يستخدم فقط فى الأسابيع الأولى في العلاج ثم يقضى المريض فترة طويلة بعد ذلك لتلقى العلاج النفسي والعلاج التأهيلي بواسطة فريق متعدد التخصصات (طبيب نفسي، أخصائي نفسي، أخصائي اجتماعي، مرشد ديني، أخصائي علاج بالعمل ومدرب رياضي)، وكان من المفترض أن يقود الطبيب هذا الفريق في كل الأنشط العلاجية، وكان أكثر ما يزعج إدارة المستشفى هو عزوف الأطباء النفسيين المصريين عن المشاركة في أي نوع من العلاجات باستثناء العلاج الدوائي (كما كان يقول أحدهم في سخرية: "أنا لا مؤاخذه طبيب"، بما يعنى لديه أنه بتاع دواء وبس، وأن العلاجات النفسية ليست من مقامه)، وحين نظمت المستشفى دورات للتدريب على وسائل العلاج النفسي بأنواعه لتغطية هذا القصور كان عدد كبير من الأطباء المصريين (والعرب بشكل عام) يتهربون منها زعما بأن هذا ليس من وظيفتهم.
وهذه الاعتقادات لدى عدد كبير من الأطباء النفسيين المصريين لم تأت من فراغ وإنما جاءت من تبنى أحد مدارس الطب النفسي في مصر (وهي المدرسة الأكثر بريقا وشهرة وتأثيرا) للمفهوم البيولوجي بمعناه الاختزالي الذي يرى أن مهمة الطبيب النفسي تنحصر في كتابة الدواء، وللأسف الشديد كانت –وما زالت هذه المدرسة صاحبة الصوت الأعلى في كل الندوات والمؤتمرات، خاصة وأن هذا التوجه يوافق هوى شركات الأدوية العملاقة فترعى الندوات والمؤتمرات التي تتحدث عن الدواء وتنفق عليها وعلى المشاركين فيها ببذخ.
أما بقية مدارس الطب النفسي في مصر والتي تهتم بمهارات العلاج النفسي بأنواعه والتي تتبنى موقفا تكامليا في التشخيص والعلاج، والتي تولى العلاج النفسي اهتماما خاص، تلك المدارس للأسف لا تجد في المؤتمرات والندوات غير التجاهل والإهمال لأنها لن تحقق مكاسب لشركات الدواء التي تنفق على هذه الأنشطة العلمية وغيرها في الوقت الحال، وأصبح من يتحدث عن العلاج النفسي في مصر كأنه درويش دخل محفلا علميا.
وقد وقعت هذه المدارس في بعض الأخطاء دعمت هذه النظرة إليها حيث تبنى بعض روادها أفكارا فلسفية غامضة أو غريبة أو شديدة الخصوصية جعلت الكثيرين من الأطباء النفسيين يعزفون عن هذا التوجه النفسي ويتوجسون منه خيفة، ويتجهون إلى العلاج الكيميائي الواضح والبسيط، وخاصة وأنه يؤكد هويتهم الطبية (وكذلك بعض المرضى).
ويشيع بعض كبار المتحمسين لسياسة العلاج الدوائي فقط بأن هذا اتجاها عالمي، وهذا غير صحيح، فالطبيب النفسي في العالم كله يمارس العلاج النفسي بأنواعه المختلفة (والذي ربما يختلف بعض الشيء عن تصورات المريض الرومانسية في الأريكة والاعتراف والطبطبة والاعتمادية الكسولة)، وهذا لا يمنع وجود أعضاء آخرين في الفريق العلاجي مثل الأخصائي النفسي والأخصائي الاجتماعي، وهؤلاء تحول لهم الحالات التي تحتاج لتقنيات خاصة يجيدها هؤلاء المتخصصون.
وفي مصر والوطن العرب ليس متاحا للمريض خاصة في العيادات الخاصة رؤية أخصائي نفسي أو اجتماعي، ومن هنا يتعرض المريض النفسي لعلاج اختزالي يهتم بجانبه العدوى المخي فقط، وبأعراضه دون كيانه الإنساني. وكانت نتيجة هذا التوجه الطبنفسي الاختزالي أن عزف المرضى النفسيون عن الذهاب إلى الأطباء وفضلوا عليهم المشايخ (وهو تعبير يطلق بدون وجه حق على هواة العلاج الشعبي ذي الصبغة الدينية) والدجالين والسحرة والمشعوذين (80% من المرضى النفسيين يذهبون لهؤلاء طبقا لإحصاءات علمية) لا لشيء إلا لأنهم يريدون أن يتعامل أحد معهم بكليتهم وليس بكيميائيتهم، ولكنهم يكتشفون فى النهاية أنهم ضلوا الطريق إلى العلاج المنهجي المتكامل.
والعلاج المنهجي المتكامل والشامل لمستويات الإنسان المتعددة ليس حلما أو مطلبا مثاليا وإنما هو ما تعارف عليه أهل مهنة الطب النفسي في العالم كله، ولكنه اختزل هنا في مصر بسبب الكسل أحيانا أو بسبب ضيق الوقت (خاصة لدى الأطباء النجوم الذين تزدحم أجندتهم بمواعيد الندوات والمؤتمرات والمقابلات الإعلامية) أو بسبب عدم المعرفة بفنيات ومهارات العلاج النفسي لدى تلاميذ المدرسة البيولوجية (وهم للأسف كثيرون). وقديما قال ابن القيم رحمه الله أن الطبيب الذي له معرفة بأحوال الجسد فقط وليس له معرفة بأحوال القلوب والأرواح هو نصف طبيب، فكم بمصر الآن من أنصاف الأطباء، أو الأطباء الكيميائيين؟
واقرأ أيضًا على مجانين:
قراءة في أحداث كنيسة الإسكندرية / الزلزال ظاهرة طبيعية....أم رسالة إلهية؟