هي أكثر مدينة أوربية جئت إليها، وبالتالي أصبحت مدينة صديقة، وفيها من الأحباب والأصحاب ما لو أردت أن أقابلهم جميعا لاحتجت إلى أسبوع على الأقل !!
وبالتالي أصبحت في السفرات القصيرة لا أخبر أحدا بقدومي تقريبا، ولا أزور أحدا إلا أسرة أو اثنتين من أقرب المقربين، ولا داعي لإزعاج الآخرين.
ذكرياتي في لندن كثيرة ومتداخلة ومتشعبة، ولكن شعوري هذه المرة كان مختلفا فهي الأولى بعد التفجيرات مما أشعرني ببعض الشجن لأن دماءً بريئة جرت تلاحق دماءنا "التي تسيل في فلسطين والعراق وغيرهما!!!
إن الروح والكيان الإنساني شيء ثمين ومقدس وحرام مع التشديد في الحرمة عند المسلم، ومازلنا نقاتل مكرهين دفاعا عن أنفسنا، ومازال البعض منا يقتل انتقاما بمنطق لا يعجبني حين يحدث خارج ميدان القتال، حتى لو اعتبرنا الأرض كلها قد صارت ميدان قتال!! لأنها ليست كذلك!!
فليس كل عربي ولا مسلم مستهدفة حياته حتى بالجملة هكذا نهدر دماء الجميع، ونعتبرها حلالا، والله يغار على الأرواح وعلى خلقه، وعلى الدماء أن تهدر بغير حق، وكما أسعد لأن أهلنا في العراق يقاومون، ويقفون في وجه الاحتلال الأمريكي السافل، وأهلنا في فلسطين ما زالوا صامدين في وجه الطغيان الإسرائيلي السافر، وسط صمت إقليمي دولي مريب وكئيب، إلا أنني "أميل إلى التفكير الإيجابي من حيث تفعيل جهودنا جميعا لندعم هذه المقاومة المشروعة المجيدة، أما غير المقاومة من أفعال مشينة تجري في العراق، وخارجه تحت دعوى الانتقام من الولايات المتحدة وحلفائها في الحرب فتتحول الأرض إلى ميدان قتال !!
فلا أعتقد أن هذا يؤيده عقل أو شرع أو حكمة في إدارة صراع، إنما هو محض انتقام وظلم لا يبرره ظلم الآخرين وأنا أكره الظلم والظالمين وأعوذ بالله أن أكون منهم، وتحفظ ذاكرتي من الشواهد ما يملأ وجداني واعتقادي أنه ربما يكون الجامع للشرور كلها حتى عد الله سبحانه الكفر ظلما مما يدل ربما على أن معناه أوسع واشمل، وأن الإنسان قد يكون مؤمنا ويظلم، لكنه أبدا لا يكون ظالما ولا يضره ظلمه أو يجرح إيمانه.
وعندما كنت في استانبول قال لي أحدهم أنهم يعتزمون هناك تنظيم ندوة عن "الأمن وحقوق الإنسان"، وهو موضوع ساخن جدا والنقاش حوله محتدم في العالم بين من يتناقشون، لا من يشاهدون فتاة، بص على بص"، وكفى ؟!
مسألة التوازن بين الحريات الفردية والمدنية وحقوق الإنسان هي مطروحة بشكل كبير في عالم ما بعد!! سبتمبر، فحتى الولايات المتحدة الأمريكية قد صارت أشبه بالثكنة أو البلد المرعوب تحت حالة طوارئ!! بلد يعيش خارج قوانينه التي اعتاد عليها، دون أن يتبادر إلى ذهن أحد أنها –حتى في ظروفها الاستثنائية– يمكن أن تشبه بلدا من بلداننا العربية الجميلة التي ترفل في نعيم الحريات وحقوق البشر !!!
وعندنا فإن اعتبارات الأمن الداخلي والمواجهة الخارجية تكون مبررا بسيطا وسهلا لانتهاك كل الحقوق والحريات، بل ويمكن أن يفقد المرء حياته لمجرد الاشتباه في أنه يمكن أن يكون مشتبها في أنه خطر "محتمل" على أمن النظام، وليس الناس بالطبع، لأننا عند أنظمتنا لسنا أناسا من الأصل!!
تلازمني في هذه السفرة آية تردد بداخلي عن الأمن في عصر الخوف، والعصف بالحريات، وفي حالة الطوارئ التي يعيشها العالم كله في صراعات منتشرة هنا وهناك، وتلمع في عيوني بدايات دموع حين تهزني كلمات المولى عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82) سورة الأنعام، يا الله، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وليس بكفر، وأتأمل طويلا، وتدمع عيوني، في تلك العلاقة المتشابكة بين الإيمان والأمن والظلم والهداية.
اللهم ارحمني
26/11/2005