في حكايات ألف ليلة وليلة، وهي من أشهر مصادر الأدب الشعبي العربي المعروفة عالميا، يودع أحدهم مسافرا إلى مصر لأول مرة، ويصفها له في أبيات شعرية، ومنها: وفيها ما يهوى تقي وفاسق!!!
وهكذا كانت وما تزال أكبر دولة وأوسع مجتمع عربي معاصر مجالا خصبا يستعصي على الإحاطة بكل تفاصيله، لكنه يغري بالمحاولة.
شهد العام المنصرم 2005 مثلا حراكا كبيرا على جميع المستويات، ربما لم تظهر كل نتائجه بعد، والنتائج في مصر تظهر متأخرة في الغالب، فمصر داخليا تشهد تراكما مكتوما للاحتقان والغضب الطائفي والطبقي، وللضغوط الاجتماعية والنفسية، ولمظاهر الانحدار والتآكل منذ سنوات، كما تتشكل فيها كل يوم محاولات جديدة للإفلات من هذه وتلك، كما تتراوح وتتنوع مطالب الخارج ورسائله وضغوطه، ليكون المشهد النهائي العام محصلة لهذا وذاك.
داخليا فإن الأرقام والدراسات تبرز زيادة معدلات العنف بمستوياته، والتحلل الأسري بشواهده، والميل العام الجارف للمزيد من السلوك الاستهلاكي مع تزايد مظاهر الفقر، جنبا إلى جنب مع علامات الثراء الفاحش غير المرتبط بإنتاجية أو ربحية تنموية تحقق أدنى درجات العدالة في توزيع الثروة.
ومع انسحاب الدولة أكثر عن أداء أدوارها في ضبط وإدارة الخدمات والمرافق فإن مصر تبدو أوسع مثال لملايين من البشر يتحايلون يوميا على العيش، ويكادون يديرون شئونهم بأنفسهم ، وفيما بينهم ، بأقل قدر من التفكير في دور للدولة –الغائبة عن المشهد أصلا- الحاضرة فقط لتمارس القمع والتمييز والفساد المنهجي في شتى أنواعه ومستوياته.
معدلات التماسك الاقتصادي العام المعلنة لا تنعكس في أحوال المواطن، في بلد يعيش نصفه على الأقل تحت خط الفقر، وسفه إنفاق الأغنياء الجدد يتجاور مع صعوبة عيش الفقراء الجدد، أي الذين كشفتهم معدلات التضخم السرطاني في أسعار الحد الأدنى من مفردات الحياة الكريمة.
اجتماعيا فإن الرجل المصري العادي إذا بقي عاطلا، أو عمل في أكثر من مهنة، يظل فاقدا لمكانه ومكانته التاريخية، المرتبطة بقدراته المادية، وحد أدنى من الوقت المتاح أمامه ليقضيه مع أسرته أو أولاده أو حتى أصدقائه .
المرأة غالبا صارت مضطرة للعمل، وفي مهن أحيانا ما تكون غير ملائمة لخلفية القيم المحافظة التي تعود المجتمع المصري عليها، كما إن سياسات تمكين المرأة زادت من الخلل في علاقتها بالرجل داخل وخارج الأسرة، لتنضم هذه الأسباب مع غيرها منتجة لوضع غير مسبوق تعيش فيه ملايين من الفتيات حالة "عنوسة" خلقت روحا من الكآبة لا يمكن تجاهلها وسط ملايين الأسر، كما تطرقت نفس مقدمات الخلل إلى داخل العلاقات الزوجية فارتفعت معدلات الطلاق، وسرعته، ليقترب الرقم الأخير المعلن من ثلاثة ملايين مطلقة مصرية.
وهذا كله ينعكس على المستوى العام عنفا ويأسا وإحباطا ولا مبالاة، لكنه شجع ظهور حركات جديدة ترفع شعارات تدعو لإنهاء هذا الليل الطويل البارد الذي تغرق فيه مصر.
وآخرون – وبخاصة من الشباب- يندرجون في تجمعات لعمل الخير من كفالة أيتام أو مساعدة المحتاجين، وما أكثرهم، وتظهر كل يوم في مصر مبادرات جديدة: فنية وأدبية واجتماعية، لكن القليل منها يصمد أمام عوامل اليأس والإحباط والابتلاع في بلد صار الجديد فيه يحتاج إلى تسويق ودعم ومساندة في مواجهة القديم المهيمن.
وفي ظل سطوة أمريكية عسكرية وسياسية فإن ضغوط الخارج تدفع باتجاه تحرير أكبر للتجارة وفتح للأسواق أمام المنتجات القادمة من بلدان أخرى، بما يكرس إضعاف ما تبقى من الصناعات الوطنية، ولا تنسى الضغوط توجيه الأنظار إلى إحداث قدر من الانفراج السياسي لاحتواء ما ينجم عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وبين ضغوط الداخل والخارج ظهر الشرخ الذي تسلل عبره بعض من سخط الناس حاملا معه ما يربو على التسعين من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ليكونوا أكبر كتلة برلمانية معارضة في تاريخ الديمقراطية المصرية الشكلية المقيدة، ما بعد يوليو 1952، الأمر الذي يصعب حتى الآن التكهن بنتائجه!!
وها هي مصر تستقبل عاما جديدا بعشرات الآلاف من المعتقلين فاقدين الأمل في استعادة حريتهم قريبا، وملايين الشباب والفتيات رهن نفس اليأس وفقدان الأمل في مستقبل واعد، واعتصام لأكثر من ألف سوداني أعزل في ميدان من أكبر ميادين القاهرة يتدخل جيش من الأمن المركزي لفضه فيقتل منهم العشرات، ومذبحة بشعة في جنوب مصر راح ضحيتها أطفال وآباء وأمهات ثم لفقتها السلطة لمخبول عقليا!!
ويتطلع المصريون لحزب جديد أو وعي جديد أو أي أمل جديد، ويتناسون جراحهم تلك فينفق بعضهم ثلث مليار دولار في سهرات رأس السنة، ويستعدون لاستقبال دورة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم.
ويستمر الصخب والزخم والجدل,, في بلد لا ينام ولا تتوقف فيه الحياة.
**اقرأ أيضا:
على باب الله: فجأة ...../ على باب الله: جريمتان