ونحن على أعتاب بوابة السنة الجديدة قد بدا لي أن المشهد هذا العام هو الأكثر إثارة وصخبا... استعدادات هائلة في الفنادق والمنتجعات السياحية والبواخر النيلية ... وبدأت أجهزة الأعلام تدق طبولها بمناسبة العام الجديد... وبدأت أسعار بورصة المطربين والراقصات تأخذ في العلو حتى أن الصحف نشرت أن أجور بعض الفنانين بلغت في هذه الليلة 700 ألف جنية ولا أدرى هل هذا الرقم مجمل أجر المطرب في الليلة أم في النمرة الواحدة...
ونشرت الصحف تفصيلات أجور اللامعين من الفنانين والفنانات...ونشرت أيضا أنه قد تم استيراد الخمور الفاخرة وأجود أنواع الطعام.... ومجمل كل هذا كانت تكلفته ملايين الدولارات التي تنفق هدراً من غير نفع ولا طائل في حين يعانى جسد الأمة المتهالك من الأمراض والمشاكل المتفاقم ... وأقصد بجسد الأمة هنا تلك القاعدة العريضة من الشعب المصري التي لا يهمها ولا يعنيها ما يحدث من احتفالات صاخبة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.... وتلك القاعدة تتركز بالأساس في أقاليم الدولة والتي تحوى قراها ونجوعها ومراكزها والتي تمارس عليهم السلطات في القاهرة حكماً مركزيا مطلقا...
ومع أن القاعدة العريضة من سكان العاصمة حالهم كحال أقرانهم من سكان الأقاليم إلا أنني أركز على سكان الأقاليم لأن هناك ثمة اختلاف ثقافي وطبائعي بين المواطن القاهري والمواطن الإقليمي وخاصة سكان الريف هذا الاختلاف له أهمية كبيرة في إطار مناقشتنا هذه فقد يراكم الريفي الإقليمي قدراً كبيراً من السخط والرفض في وعيه ووجدانه في حين قد يقل هذا الرفض والسخط نسبيا في وعى ووجدان القاهري الحضري فعلى سبيل المثال قد يستفز المواطن الصعيدي المحافظ من بعض المشاهد التي يراها في التلفاز في حين قد يراها ساكن العاصمة شيئا بسيطاً قد تعود مشاهدته حتى في حياته اليومية ...وفى خضم المشهد الاحتفالي الصاخب هذا العام قد خرجت بقناعة فحواها أن النظام المصري يسير بخطى وئيدة ولكنها ثابتة ومنتظمة نحو حتفه فمظاهر الاحتفالات الصاخبة التي يقوم بها ما يطلقون عليهم (صفوة المجتمع) وكمية الإسراف والبذخ الهائلة التي تنفق في احتفالاتهم ونشرها عبر وسائل الإعلام دون أن يهتز للنظام طرف لأكبر دليل على صحة ما أقول فعلى ما يبدو أن النظام لا يشعر بشعبة وما أصابه من احتقان نتيجة التفاوت الطبقي والفساد السياسي والأخلاقي وهو ما يشير إلى قرب أفول نجم دولة مبارك وقرب رحيل ساكني قصر العروبة.................
ويحضرني في هذا المقام التجربة الأفغانية لا للقياس عليها من الناحية السياسية بل من الناحية الاجتماعية فقد يكون هناك ثمة استفادة فالسكان القندهاريون وغيرهم من سكان الأقاليم المهمشة والمحافظة كانت تأتى إليهم الأخبار تترى عن حال عاصمتهم وما وصلت إليه من بعد عن منهج الله وكثرة الفساد والإفساد فيها فكانت رؤية أميرهم الملا محمد عمرو والتي ادعى أن النبي (ص) قد أتاه في منامه وألقى فى روعة أن قم يا محمد فأجمع من حولك من الطلاب المؤمنين وازحف بهم إلى كابول وطهرها من أولئك الظالمين المفسدين..... فكان زحفهم من أقاليمهم المهشمة والمحافظة إلى العاصمة التي كانت في تصورهم قد كثر فيها الفساد وبعدت عن النهج القويم.........
وبالمناسبة فقد كانت الدعوة الطالبانية في بدايتها دعوة اجتماعية إصلاحية بالأساس ولم تكن مهتمة في ذاك الوقت بالسياسة فقد استفزهم ما كان يحدث في العاصمة من سلوكيات وأشياء لا ترضى الله (حسب تصورهم)... وللتدليل على صحة ما أقول فقد كانت محافظات الصعيد الفقير والمحافظ النصيب الأكبر في عمليات العنف منذ مطلع الثمانينات وحتى وقت قريب ومع ذالك فليس بالضرورة أن يكون رد الفعل الآتي من الجسد عنيفا على الدوام فقد تتنوع ردود الفعل وتتعدد النماذج فالملاحظ أنه في الانتخابات التشريعية الأخيرة منحت أغلبية الكتلة التصويتة أصواتها للإخوان المسلمين باعتبارهم الأقرب لطبيعتهم من النظام وحزبه والتي تكن له الأغلبية رصيد هائل ومتراكم من الكراهية مخزونة في وعيه ووجدانه بسبب سلوكيات وسياسات تراها فاسدة وهى مما لاشك في تنتهز الفرصة المناسبة للخلاص فالقاعدة الشعبية في أغلبها تنظر إلي النظام على أنه قرين للفساد وقرين الانحدار الأخلاقي والاقتصادي بل وقد تنظر إلى تصرف قد يكون تلقائيا من قبل الدولة على أنه تقصد ضد الدين فيفسر إلغاء برنامج للشيخ الشعراوي يوم جمعه على أنه (لا يردون إسلاماً في هذا البلد) وبث أفلام بها مشاهد رقص في نهار رمضان على أنه ( لا يريدون لنا صوما مقبولا ) ثم يتبعه هذا كله ب (حسبنا الله ونعم الوكيل)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أقاليم الجمهورية تعد معاقل للتيار الإسلامي وخاصة جماعة الإخوان المسلمين...........
فالأجيال الجديدة وخاصة في الأقاليم تمتلك طاقة هائلة وكامنة لا تستطيع تفريغها وهذه الطاقة متنوعة منها الروحي والعملي والعضلي وطاقة فطرية تتمثل في الرغبة في الكسب والمتاع والشهرة والعمل وحيث حرمت السلطة الشباب من تفريغ هذه الطاقات الكامنة داخل نفوس هؤلاء الشباب استطاع الإخوان المسلمون لحد كبير توجيه هذه الطاقات الكامنة داخل نفوس هؤلاء الشباب....
فالنظام بسبب السياسة المركزية التي اتبعها والتدخل الأمني السافر والمبالغ فيه وخاصة في مراكز الأقاليم وقراها حرم الشباب من تفريغ طاقاتهم السياسية وحتى الاجتماعية فجهاز أمن الدولة يمارس سطوة على سكان الأقاليم اكثر من غيرهم لأسباب متعددة يضيق المقام هنا لشرحها فعلى سبيل المثال تجد الشباب هناك محروم من مجرد الترشح في عضوية مركز شباب قريته وحتى عن مجرد التصويت فجهاز أمن الدولة لا يسمح بذالك حتى لا تدخل عناصر غير مرضى عنها فيختار هو بعض الأسماء ممثلة لبعض العائلات الكبيرة ويتم تزكيتهم لا انتخابهم وإذا كان هناك ثمة اعتراض فمن الممكن أن تلغى تلك الانتخابات أو تؤجل حتى إشعار آخر.......
وما يحدث في مراكز شباب نموج مصغر لما يحدث في المؤسسات الأخرى والتي من المفترض أنها تؤدى دورها المنوط بها من خلال آلية ديمقراطية مثل المجالس الشعبية...... وليس هذا فحسب بل يحظر جهاز أمن الدولة أي نشاطات اجتماعية أو ثقافيه قد يقوم بها شباب القرية... فيمنع صدور مجلات تعبر عن قريتهم أو مركزهم حتى لو كان مضمونها ثقافي أو تتحدث عن مشاكل منطقتهم........
ناهيك عن الاجتماعات التي قد يحاول البعض من هؤلاء الشباب عقدها فيستدعى القائمين عليها إلى مكتب أمن الدولة للتحقيق معه وحجزه وتعذيبه في أحوال وقد يكون بعيد كل البعد عن أي تيارات سياسية أو إسلامية... ويستخدم أمن الدولة أساليب عديدة لتحطيم هؤلاء الشباب ومنها إدراجهم على قوائم الناشطين السياسيين وما يترتب على ذالك من تبعات أقلها عدم تعيينه في وظائف حكومية ناهيك عن معاقبة ذويه وأقاربه من حلم التعيين في الوظائف المهمة في الدولة.... وتعظم المشكلة عندما نعلم أن هناك ملايين من خريجي الجامعات من سكان الأقاليم تموت أحلامهم معهم في قراهم ونجوعهم وذالك لان أقاليمهم لا تحقق لهم ما كانوا يرجون من طموحات وبدأت أحلامهم تصغر شيئا فشيئا حتى أنك تجد خريجي كليات مثل اقتصاد وعلوم سياسية وإعلام وسياحة وفنادق هرولوا للاشتغال هذا العام في المدارس الابتدائية والثانوية التجارية عن طريق التعاقد لمجرد أن المرتبات ارتفعت هذا العام لتصل إلى 200 جنيه ...
وهم في الواقع ليس أمامهم إلا ذالك فليس في إقليمهم مؤسسات أو هيئات تستوعبهم وفى المقابل لا يستطيع الرحيل إلى العاصمة فهي من ناحية اكتظت بمن فيها من ساكنيها (أصليين أو مهاجرين قدامى) ومن ناحية أخرى فهو لا يستطيع تحمل تبعات الهجرة إليها وما تستلزمه من نفقات سكن وتنقل وغيرها من مستلزمات الحياة.... وفى نهاية المطاف أقول... ماذا ينتظر الرأس من الجسد بعد أن اثقل ظهره بما لا يطيق وأصبح قلبه يئن من كثرة الأوجاع والعلل....فماذا ينتظر النظام من شباب مارس ضده النفي وتم عزله في قراه ونجوعه القابعة وسط مساحات زراعية هائلة ماذا ينتظر منه بعد أن يرى شاب مثله يحصل على 700 ألف جنية عبارة عن أجره نظير فيلم قام به ويرى أثرياء المجتمع يهدرون في ليله ملايين الجنيهات في حين يعانى هو الفقر والعزلة.... ماذا ينتظر ولاة الأمور بعد أن تسود ثقافة الاستهلاك في حين تعانى الأغلبية الفقر المدقع...ماذا يفعل سوى أن يراكم ويراكم سخطًا وغضباً حتى تحين لحظة الانفجار.. كتب هذا المقال:
*كاتب ومحام
اقرأ أيضاً:
يوميات رحاب: بين حقي وحقهم/ يوميات رحاب: يا هم.... يا رب.../ يوميات رحاب: طلبت ايدك من أبيك/ يوميات رحاب: في الكراكون/ يوميات رحاب عدوة النساء