خمس ليالٍ في المنامة الحق قدم بحثك
تأثير الاحتلال الإسرائيلي على الصحة النفسية للفلسطينيين، وكانت كلمة الدكتور المسيري بعنوان: الرؤية الصهيونية لذات وللآخرين Zionist View of Self & Others، وهنا شرح وشرَّح لنا كيف يرى الإنسانُ الصهيوني الإنسانَ العربي فمن العربي المتخلف إلى العربي الغائب (غير الموجود) إلى آخر ما يزخر به فكر المسيري من إضاءات، قرأت معظم ما كتبه المسيري، ونشرنا له ما استطعنا نشره على مجانين، لكن رؤيتك له وهو يتكلم ويشرح ويضرب الأمثلة شيء مختلف!
حكى لنا جزءًا يسيرا مما حدث بعد نشر موسوعته عن اليهودية والصهيونية، وقال اشترى الموسوعة شباب وأناس عاديون ولم يشترها أي من مراكز الأبحاث العربية مع الأسف، كذلك أشار إلى أن معرفة حكامنا الأجلاء في الوطن العربي بكل شيء عن الصهاينة والصهيونية لم تجعلهم بحاجة لا إلى اقتناء تلك الموسوعة ولا إلى استشارة ذلك الخبير العربي المتفرد، ولكن الأغرب ليس هو تجاهل الحكومات العربية وإنما هو أن أحدا من الصهاينة لم يرد ربما لأن من يقرأ تلك الموسوعة يعرف جيدا أن الموضوعية والعلمية والحياد وتثبيت المراجع التي لا دال بشأنها هو من أهم سمات الموسوعة وبالتالي فإن صمت الإسرائيليين ير لهم من الدخول في مواجهة يعرفون أنها ستكون خاسرة بالتأكيد، وهم طبعا أذكياء، لكنهم بالتأكيد ليسوا على قدر العلم الذي يتمتع به السياسيون العرب الذين يعرفون كل شيء عن كل شيء.
وكان من دواعي غبطتي لنفسي وأنا أسمع المسيري أمران: الأول قراءتي السابقة لمسيري حيث عرفت كتاباته من خلال سكرتيري يحي صلاح في سنة 1994 أو ربما قبلها، وأثرت في حياتي الفكرية والعملية أثرا لا يقل عن تأثير ابن عبد الله في تحويل مساري الوجداني والفكري، ولهذا علاقة بالأمر الثاني وهو أنني واحدٌ ممن يفكر أحمد عبد الله معهم فكثيرا ما تكونُ إضاءات ابن عبد الله تالية على مناقشات طويلة دارت بيننا، ولا حاجة بي لأخفي أن ابن عبد الله كان واحدا من تأثروا جدا بالمسيري، وكان عضوا نشطا في ندوة المسيري التي لم أشرف بعد بحضورها، إلا أنني أحسبني اليوم كنت من أكثر الحاضرين في هذه الجلسة فهما لمصطلحات الدكتور المسيري لأنني أولا قرأت كثيرا من أعماله وثانيا لأنني ناقشت كثيرا من مصطلحاته مع ابن عبد الله، والحقيقة أن أهم ما هزني بعنف ودفعني بقوة -أسأل الله ألا تنضب حتى يرضى سبحانه عما أصيب من الدعوة إليه في حياتي-، ذلك كان فكرة إشكالية التحيز في الفكر الغربي، التحيز في المقولات والمفاهيم الغربية، وكذلك خطأنا الفادح في ترجمة المصطلحات الغربية دون ترجمة المفاهيم التي توجد خلفها والتي بدونها تعتبر ترجمة المصطلح منقوصة ومضللة فمثلا يقول المسيري أن ترجمتنا لكلمة Zionism بالصهيونية ترجمة منقوصة لأن المفروض أن نقول الحركة الاستيطانية الإحلالية الصهيونية.
والحقيقة كما قلت في مقدمة كتابي الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي أننا "عبرَ فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ استوردنا العديد من المفاهيم والقيم التي جعلت الذاتَ الأصيلةَ غائبةً ففقدْنا محَكَّاتِ التقييم الجيد، وفقدنا الذاتَ المرجعيةَ التي تمكننا من تحديد تميُّـزِنا عنِ الآخرِ، وأصبحنا كما يذهبُ المسيري (عبد الوهاب المسيري 1989) ندركُ واقعَنا من خلال نماذجَ معرفيةٍ مستوردةٍ فيما أسماهُ المسيري بالتبعية الإدراكية" وبين لنا المسيري في كلمته كثيرا من الأمثلة على تلك المصطلحات التي ضيعتنا كثيرا مع الأسف.
كذلك ضرب لنا بعض من الفلسطينيين الحاضرين أمثلة تثبت ما يشرحه المسيري فذكر أحد الأخصائيين النفسيين مثلا ما حدث ولم يستطع تفسيره وقتها من أنه بعد فترة من التدريب في دورة حضرها مع أحد الأخصائيين النفسيين الإسرائيليين حيث كانا يتدربان سويا وفي اليوم الأخير سأله الإسرائيلي عن نفسه من أي مكان هو فكانت إجابته أنه من بلدة كذا وأن أباه كان صاحب كذا وأمه كانت تملك كذا ولم يستطع أن يفهم لماذا امتقع وجه الإسرائيلي ألوانا ولم ينبس بحرف واحد ثم انتهز أول فرصة للهرب! فهذا الفلسطيني يربط نفسه دون أن يدري بالأرض وبالتاريخ الفلسطيني وهذا ما لا يستطيع الصهيوني فهمه، فهو يتعامل مع العربي الغائب ولذلك يصدمه ذلك الحضور كما تصدمه الحجارة في أيدي الأطفال الفلسطينيين.
وفي ثاني أيام المؤتمر كانت للمسيري محاضرة عن فرويد وتحليله النفسي وعلاقة ذلك باليهودية وبالتلمود، وكنت أيضًا قد قرأت بعضا من هذه الرؤية في كتابات المسيري لكنه اليوم ركزها وبسطها للحضور، وشرح لنا كيف تأثر فرويد بيهوديته وإيمانه بالغنوصية والرؤية الحلولية التي نستطيع إيجازها بأنها فلسفة تقوم على أن الخالق يحل في مخلوقاته ويسقط عندئذ كل تكليف ويتحول كل شيء إلى مادة، وفهمت ما لم أكن فاهما له من قبل حتى وجدت أن المسألة لا تعلق بفرويد فقط وإنما أيضًا بالفرويديين الجدد Neo-Freudians وهم تقريبا معظم أصحاب المدارس في علم النفس، تذكرت هنا عمل الأستاذ الدكتور مالك بدري عن جحر الضب الذي دخله النفسانيون المسلمون وما يزالون فيه،..... يحاول بعضهم الخروج لكن الطريق طويل والمفاهيم ملتبسة،....... سألت المسيري عن رأيه في مقولة قلتها في خاتمة كتابي الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي مؤداها هو إذا كنا كأطباء نفسيين مضطرون للتعامل مع ما أسميه بالغيب النفسي فلماذا أخذ رأي ومقولة فرويد أو غيره ولا نأخذ ما يخبرنا به ديننا أو ما هو أصيل في ثقافتنا ويحمل مقدرة تفسيرية عالية؟ فكانت إجابته أنه معي تماما وأنه يدعو الجميع لذلك.
وكانت سعادتي بالغة عندما قابلت المسيري فيما بين الجلسات مساء ذلك اليوم وسألني هل وصلتك على بريدك الإليكتروني دعوتي لك لحضور ندوة التحيز التي ستعقد في يناير 2007 إن شاء الله فقلت لا قال إذن هي السكرتيرة لابد أن أفعل كل شيء بنفسي قلت له يكفيني شرف أن يذكرني هرم شامخ مثلك يا أستاذي وأخرجت واحدا من بطاقات التعارف (كارت) ومددت يدي لأستاذي فقال لي هذا الكارت عندي هل تحسبني نسيت أننا التقينا من قبل وأنا قرأت لك عملا عن الوسواس القهري وكتبت لك مقدمة لعمل عن اضطرابات الأكل، احمر وجهي وحمدت الله كثيرا ولم ثقل على الأستاذ وقلت له سأكون بالتأكيد حاضرا في تلك الندوة يا دكتور واستأذنته لأنني كنت أشعر بحاجته للصعود إلى غرفته للراحة، وكنت بحاجة أيضًا إلى الذهاب إلى الفندق الذي أنزل به لأنام.
* عبد الوهاب المسيري (1989): الانتفاضةُ الفلسطينيةُ والأزمةُ الصهيونيةُ، دراسةٌ في الإدراكِ والكرامة، القاهرة ،1989، بدون ناشر، " منقولٌ من إشكاليةِ التحيز، رؤيةٌ معرفيةٌ ودعوةٌ للاجتهادِ ، محور علم النفس والتعليم والاتصال الجماهيري د. رفيق حبيب، سلسلة المنهجية الإسلامية (9)، من إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1998.
ويتبع>>>>> : خمس ليالٍ في المنامة السوق والفنادق
اقرأ أيضا:
مقعد في الدرجة الأولى مصر للطيران / مدونات مجانين (5): إجابة السؤال!